كلمات في الوسطية ـ 5 ـ  التوازن بين الفردية والجماعية

 

كلمات في الوسطية
ـ 5 ـ
الشيخ مجد مكي
التوازن بين الفردية والجماعية
من أبرز مظاهر الوسطية في الإسلام : الوسطية بين الفردية والجماعية في صورةٍ متَّزنة رائعة ... تتوازن فيها حرية الفرد ومصلحة الجماعة ، وتتكافأ فيها الحقوق والواجبات بالقسطاس المستقيم، ولقد تخبَّطت الفلسفات والمذاهب في القديم والحديث في قضية الفرد والمجتمع ، والعلاقة بينهما.
وفي عالمنا اليوم يقوم صراع ضخم بين المذهب الفردي والمذهب الجماعيّ ، فالرأسمالية تقوم على تقديس الفرديَّة ، والشيوعيَّة تقوم على الحطِّ من قيمة الفرد واعتبار المجتمع هو الغاية ، فالفردُ هناك ليس له حق التملك إلا في بعض الأمتعة والمنقولات ، وليس له حق المعارضة ، ولا حق التوجيه لسياسة بلده وأمته ، وإذا حدثته نفسه بالنقد العلني أو الخفي فإنَّ السجون والمنافي وحبال المشانق له بالمرصاد!!
ذلك هو شأن فلسفات البشر ومذاهب البشر ، فماذا كان موقف الإسلام؟ لقد كان موقفه فريداً ، لم يَمل مع هؤلاء ولا هؤلاء، ولم يتطرف إلى اليمين ولا إلى اليسار ، فالفرديَّة جزءٌ أصيل في كيان الإنسان ... ومع هذا نرى فيه نزعة فطرية إلى الاجتماع بغيره ، والنظام الصالح هو الذي يراعي هذين الجانبين : الفردية والجماعية .
ولا يطغى أحدهما على الآخر ، ولقد جاء الإسلام نظاماً وسطاً عدلاً ، لا يظلم الفرد لحساب المجتمع ، ولا يحيف على المجتمع من أجل الفرد.
المسؤولية الفردية:
 ومن هنا قرَّر الإسلام المسؤوليَّة الفردية وأكَّدها تأكيداً بليغاً، فقال سبحانه :[كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ] {المدَّثر:38}  . [لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ] {البقرة:286} . [وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى] {الإسراء:15}  .
1 ـ قرَّر الإسلام أيضاً حرمة الدم : فحفظ للفرد (حياة الحياة)، وأعلن القرآن الكريم :[ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا] {المائدة:32} .
2 ـ وقرَّر حرمة العرض: فصان للفرد(حق الكرامة)، فلا يجوز أن يهان في حضوره أو غيبته:[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ] {الحجرات:11} . [وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا] {الحجرات:12}  .
3 ـ قرر حرمة المال : فصان للفرد (حق التملك) قال النبي صلى الله عليه وسلم :«إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام ، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا في بلدكم هذا» رواه مسلم (2137) عن من حديث جابر.
4 ـ وقرَّر حرمة البيت: فصان للفرد (حق الاستقلال الشخصي) قال تعالى :[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا] {النور:27} . [وَلَا تَجَسَّسُوا] {الحجرات:12} .
ـ وقرَّر للفرد حرية الاعتقاد، وحرية النقد ،وحرية الرأي والفكر.
تقييد الحقوق والحريات الفردية:
ومع هذه الحقوق والحريات التي منحها الإسلام للفرد، فقد قيَّدها بقيود لتكون في حدود مصلحة الجماعة، فالحياة التي صانها الإسلام للفرد،  إذا اقتضى أن يبذلها في سبيل الله لحماية المجتمع المسلم، وجب عليه أن يقدِّمها، وكذلك إذا اعتدى على حق نفس أخرى كقاتل العمد ، أو خرج على دينه وفارق الجماعة كالمرتد .
وحق التملك مقيَّد بأن يأخذ المال من حلال ، وينفقه في حلال ، ولا يبخل ، فملكية الفرد للمال مقيدة بحدود الله ، وحقوق المجتمع... والحريات والحقوق مقيدةٌ برعاية أخلاق المجتمع وعقائده فليس معنى حرية الاعتقاد أو الرأي إباحة الطعن على الإسلام ، وإذاعةُ الكفر بالله ورسوله وكتابه ، ونشر الخلاعة والفجور ، فإن حرية الإفساد لا يقرها عقل ولا شرع.
مسؤولية الفرد عن الجماعة:
ومع المسؤولية الفردية التي أكدها الإسلام ، نراه قد أكد مسؤولية الفرد عن الجماعة كما في الحديث الصحيح عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :«كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته» رواه البخاري (844)ومسلم (3408)، فكلُّ رجل على ثغرة من ثغور الإسلام، والنصيحة لكافة المسلمين ركنٌ ركين في هذا الدين، ومن لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم.
وليس لمسلم أن يعتزل الحياة والناس، ويقول : نفسي نفسي !! ويدع نار الفساد تلتهم الأخضر واليابس من حوله ، فإنَّ هذه النار إذا تُركت وشأنها لم تلبث أن تحرقه هو ، وتحرق كل ما يحرص عليه ، ولهذا يقول تعالى :[وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ العِقَابِ] {الأنفال:25} .
وفي الحديث الذي رواه أبو داود (3775)،والترمذي(2094) :«إنَّ الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه، أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده». وبهذا كله أقام الإسلام التوازن بين الفردية والجماعية في حياة الإنسان، وهذه هي الوسطية التي اختصَّ بها الإسلام.
إن هذه الوسطية في كل جوانب الإسلام : في الاعتقاد ، والتصور ، وفي التعبد والتنسُّك ، وفي الأخلاق والسلوك ، وفي التشريع والنظام ، إن هذه الوسطيَّة بين الروحية والمادية ، والفردية والجماعية ، وما شابهها ، بلا وَكْس ولا شطط ، ولا غلو ولا تقصير ، ولا طغيان ولا إخسار ، إنَّ هذه الوسطية أكبر من أن يقدر عليها إنسان بعقله المحدود ، وعلمه القاصر ، فضلاً عن تأثير ميوله ونزعاته عليه من حيث يشعر أو لا يشعر.
ولهذا لا يخلو منهج أو نظام يصنعه البشر من الإفراط أو التفريط ، كما يدل على ذلك استقراء الواقع وقراءة التاريخ.
إنَّ القادر على إعطاء كلِّ شيء في الوجود حقَّه بحساب وميزان هو الله الذي خلق كل شيء فقدَّره تقديراً ، وأحاط بكل شيء خبراً وأحصى كل شيء عدداً ، ووسع كل شيء رحمة وعلماً . وصدق الله عزَّ وجل :[وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا] {البقرة:143} .
***

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين