حرائرنا وأفراح الحرية

سهاد عكّيلة

المصدر: مجلة منبر الداعيات
وللحرية الحمراء بابٌ   بكلِّ يدٍ مضرَّجةٍ يُدَقُّ
دفع السائرون على درب الحرية الأثمان الباهظة من أوقاتهم وجهودهم وأموالهم ودمائهم وأنفسهم في سبيل نيل الحرية التي تشمل الأمة ومقدساتها. وكل تضحية بُذلت وتُبذل تقرّب المسلمين من غاياتهم، لينال كل مَن ضحى شرف الإسهام في إنقاذ الأمة وإعلاء شأنها في العالمين.
 مِن هؤلاء أُناس لعل ما دفعوه يفوق الفداء بأرواحهم، لقد ضحَّوا بحريتهم الشخصية من أجل القضية... إنهم القابعون خلف الأسوار، منهم الرجال والنساء والشيوخ والأطفال... منهم من تحرر ومنهم مَن ينتظر.
 في هذا التحقيق نستضيف ثلة من حرائرنا المحررات لنتحدّث عن تجربة السجن بما حملته من عذابات وعِبَر، وعن أفراح الحرية التي عشنها، وعن مخططات حياتهن المستقبلية... وضيفاتُنا هنّ:
• أحلام التميمي: من مواليد مدينة الزرقاء الأردنية عام 1980، عادت إلى رام الله في فلسطين لتلتحق بقسم الصحافة والإعلام بجامعة بيرزيت، كانت أول امرأة تنضم إلى كتائب عز الدين القسام، حيث أوكلت لها مهمة المساعدة في تنفيذ الهجوم الاستشهادي الكبير الذي هز القدس المحتلة يوم 9/8/2001؛ حكمت محكمة صهيونية عسكرية عليها بالسجن المؤبد 16 مرة (عن كل قتيلٍ صهيوني حكمٌ مؤبد)، أي 1584 عاماً، مع توصية بعدم الإفراج عنها في أي عملية تبادل محتملة للأسرى. يوم المحاكمة وقفت أحلام لتقول: «أنا لا أعترف بشرعية هذه المحكمة أو بكم، ولا أريد أن أعرّفكم على نفسي باسمي أو عمري أو حلمي، أنا أعرّفكم على نفسي بأفعالي التي تعرفونها جيداً...».
 • قاهرة السعدي: التي تبلغ 35 سنة من العمر، اعتُقلت بعد معركة جنين البطولية في العام 2002؛ حيث داهموا منزلها واقتادوها إلى السجن دون أن تدري أن زوجها ناصر في «الجِيْب العسكري» الآخر، وبعد أيام فُجعت عندما أخبرها أحد المحققين بأنهم اعتقلوا زوجها وأن «أطفالها باتوا بلا أمّ ولا أب» حيث نُقلوا إلى دور الأيتام وتفرقوا... هي أم لأربعة أبناء: محمد وساندي ورأفت ودنيا. تقول قاهرة: «... وعند خروج والدهم جَمَعَهم، ثم تزوج بعد استشارتي فوافقت على الفور، وقامت زوجته بتربيتهم تربية صالحة». سُجنت قاهرة 10 سنوات بعد 3 مؤبدات و30 سنة حُكم بها عليها بتهمة: المساعدة في إيصال استشهادي إلى داخل الكيان الغاصب لتنفيذ عملية استشهادية.
 • لينان أبو غلمة: اعتُقلت في 9 أيلول 2004، وحَكم عليها الاحتلال بالسجن لمدة 6 سنوات أمضت منها 5 سنوات، وأطلق سراحها ضمن صفقة الحرائر التي تحررت بموجبها 20 أسيرة مقابل شريط فيديو لشاليط لمدة دقيقتين، ثم أعاد الاحتلال اختطافها بعد شهر من الإفراج عنها مع أختها الأسيرة تغريد وشقيقها المطارد أيمن... خاضت لينان إضراباً عن الطعام بسبب حرمانها من اللقاء بشقيقتها... ثم شملتها صفقة الوفاء للأحرار. وتُهمتها أنها زوجة الشهيد أمجد مليطات وشقيقة عاهد أبو غلمة الذي شارك في التخطيط لعملية قتل رحبعام زئيفي.
 • مريم ترابين: قضت 8 سنوات في السجن؛ منها 6 سنوات ونصف في العزل الانفرادي، وذلك بسبب محاولتها طعن جندي صهيوني أدت إلى جرحه، هي من قرية العوجا في أريحا، اعتُقلت بتاريخ 13 آذار 2005، وتم إبعادها إلى دمشق.
 تلك كانت لمحة عن أسيراتنا المحررات تقودنا – بعد المباركة لهن بالحرية – لهذا اللقاء: السجن... مدرسة كَظمُ الغيظ، الأخوة في الله الخالية من أيِّ مصلحة شخصية... هذا ما تعلمتْه أحلام من تجربة السجن بكل مراراتها... وتضيف قاهرة: تعلمت نعمة الصبر وهي أكبر نعمة أعطاها الله لعباده، والصمود، والثبات الذي علوت به على كل الظلم في مقابر الصهاينة. في حين تقول مريم: تعلمت تحدي جميع الصعاب والتغلب على العراقيل التي تقيّد طموحي وخطواتي بالحياة. ولا تبعد لينان عن هذا المعنى، حيث تقول: تعلمت الصمود والتحدي... تعلمت كيف أتجاوز أي محنة أقع فيها، كنا نرفض أن نكون أرقاماً داخل السجون، لذلك حرصنا على أن نخرج مثقفات واعيات نمارس حياتنا بشكل طبيعي.
 أفراح الحرية
ولدى سؤالنا للمحررات عن شعورهن فور إعلان نبأ الإفراج عنهن، علقت قاهرة - التي فقدت وعيها لدى احتضانها أبناءها - بالقول: كان الخبر صدمة ولم أصدق، لأن الصهاينة كانوا يرفضون إدراج اسمي ضمن أي صفقة بسبب دوري الجهادي، ولأنني من مخيم جنين، وكانوا يقولون لي دائماً بأنني سأموت داخل المعتقلات ولن أرى الحرية أبداً. فرحتي كبيرة جداً لا توصف؛ فقد كنت في عداد الأموات وخرجت إلى الحياة من جديد... وأضافت لينان: فرحة كبيرة أنني التقيت بالأهل والأحبة من جديد ولكن كانت منقوصة لأنني خلّفت ورائي 10 أسيرات وكذلك أخي عاهد. وقالت أحلام: كل معاجم الدنيا لا تستطيع ترجمة مشاعري التي شعرت بها، كنت سعيدة جداً لأنني أول ما رأيته لحظة خروجي القمر الذي لم أشاهده منذ 10 سنوات... في حين كانت مريم في العزل عندما سمعت النبأ من السجينات الأخريات اللواتي كنّ يكبِّرن ويتحدثن عن الصفقة، وتضيف: كانت فرحتي كبيرة كأنها حلم، لم أكن أصدق أنني أصبحت حرة.
رسائل المحرَّرات...
هذا وقد وجهت أحلام لأهل شاليط رسالة مفادها: بلِّغ أصدقاءك أنّ يد كتائب القسام ستطالهم من بعدك، فليحذروا... في حين رأت لينان أنه لا يستحق أن تقول له شيئاً، معلِّقة: لدينا أسرى لهم عشرات السنوات من حقهم أن يُفرج عنهم، ولكن أوجه رسالتي لكل العالم أن ينظروا إلى قضية الأسرى، مثلما كانوا يطالبون بشاليط وبتحريره، عليهم المطالبة بإطلاق سراح أسرانا. وتؤيدها قاهرة بالقول: لا أقول لشاليط شيئاً، ولكن رسالتي للشعوب العربية والغربية ليقفوا وقفة صادقة في وجه هذا العدو وسياسته.
ولدى سؤال أحلام عن موقفها من سجانيها الذين كانوا يستهزئون منها قائلين: «ستتعفنين هنا ولن ترَي النور»، قالت: ها قد خرجتُ ورأيت النور بفضل الله، وسأتزوج قريباً. حياتي مستمرة وأنتم من ستظلون تعيشون في الظلام وفي أوهام غير حقيقية مما سيؤدي إلى نهايتكم القريبة.
خلف القضبان...
سألنا ضيفاتنا المحررات عن أبرز ما تعانيه الأسيرات داخل السجون، فقالت لينان: السجن بحد ذاته معاناة، فضلاً عن الحرمان من الأهل.. زنزانة مغلقة من جميع الجهات، تحقيق متواصل؛ حيث الحرمان من النوم والأكل... فضلاً عن محاولات الضغط النفسي عندما يخبروننا بقولهم: اعتقلنا أهلك ونعذبهم... وتضيف قاهرة: السجن أصعب مكان يعيشه الأسير الفلسطيني؛ محاولات إذلالنا وكسر إرادتنا، فضلاً عن ضربنا والتهديد بهتك الأعراض أثناء التحقيق لانتزاع الاعتراف منا. وتتحدث أحلام عن معاناة الأسرى بشكل عام قائلة: إهمال المجتمع العربي والدولي لقضية الأسرى؛ لأن الأسير بحاجة إلى شعوره بالوجود. واستفراد العدو الصهيوني بالأسرى الفلسطينيين نتيجة هذا الإهمال؛ فيسلبونهم حقوقهم كافة ويحاولون اغتيالهم من خلال دس بعض الحبوب في الطعام تؤدي إلى إحداث المرض داخل جسد الأسير... الأسير يدخل عَفيّ الصحة إلا أن سنوات الأسر وتناول هذا الطعام المصنوع بأيدي الجنائيين اليهود يؤدي إلى التسبب بضعف بنيته الجسدية. أما عن الأسيرات فتقول أحلام: للأسيرات خصوصية كونهن نساء، لذلك يحاول العدو معهن بسياسة فَرِّق تَسُد، ويعمد إلى الاستفراد بكل واحدة على حِدة لإيجاد الفتن وتفتيت البنية الوحدوية لديهن، وكنا على وعي تام بذلك ولم نسمح به؛ فنحن عادة نقوم بالالتفاف حول الأسيرة الجديدة وتوعيتها. وتشير مريم إلى صورة أخرى من صور المعاناة: حاولتُ تقديم الثانوية العامة ثلاث مرات، ولكن إدارة السجون كانت تحول دون ذلك. ومن صور معاناة مريم أيضاً: العزل الانفرادي؛ حيث عُزلت في سجن الرملة الذي تصفه بأنه: أصعب عزل لأنه مليء بالجنائيات اليهوديات... كانوا يحققون معي وأنا مقيدة اليدين والقدمين، وكنت ممنوعة من الضروريات.
يوم في حياة أسيرة
تخبرنا أحلام بأن هناك برنامج عام للأسيرات، وهناك برامج خاصة لكل أسيرة. أما البرنامج العام فيتمثل في: عقد جلسات نقاش جماعية سياسية حول أبرز الأحداث السياسية على الساحة الفلسطينية والعربية والعالمية... جلسات دينية، مسابقات ترفيهية ورياضية، قراءة كتاب ومناقشته... أما عن البرنامج الخاص بكل أسيرة فهي تقرره بنفسها، وأبرز ما فيه: الاهتمام بتنمية الجوانب الفكرية عبر قراءة الكتب، الصحة الجسدية عبر الرياضة، النظافة الشخصية ونظافة المحيط، وكان هناك ساعات لكل أسيرة لكتابة الرسائل للأهل، فضلاً عن الاهتمام بالعبادات من صلاة وصيام... وتتحدث قاهرة عن طبيعة العلاقة بين السجينات قائلة: أجمل علاقة كانت في حياتي هي العلاقة الأخوية القوية التي ربطتني مع أخوات معي في السجن، كنا عائلة في مجتمع مصغر، نظام معين، برنامج خاص، صف دراسي، برنامج ثقافي، رياضة، حوار داخلي، جلسات روحانية جماعية وفردية... وتضيف لينان: كانت علاقاتنا الاجتماعية جيدة، وكل الأسيرات موحدات على اختلاف انتماءاتهن التنظيمية.
وماذا عن متابعتكن للثورات العربية؟
«انعكست الثورات العربية إيجابياً على الأسرى» هذا ما قالته قاهرة، مضيفة: نتمنى أن يكون ربيعاً عربياً مثمراً. وتقول أحلام: عقدنا جلسة حول موضوع الثورات وخرجنا بأنه يجب أن تصل هذه الثورات إلى تثبيت نظام حكم يخضع لإرادة الشعوب على أن يكون هذا النظام إسلاميّاً تعدديّاً يستوعب الاختلافات الفكرية في المجتمع.
معاناة ما بعد السجن
تقول مريم: لا يشعر بالمعاناة إلا الذي ذاق الأسر؛ فأنا أشعر بالضغط النفسي وبالغربة عن المحيط، وبالانطواء على نفسي لأنني عشت سنوات طويلة بالظلمة والعَزْل؛ وليس الكل متفهماً لهذه المعاناة. ومع أن كل البيوت مفتوحة لي، ولكن ليتني بين أهلي. في حين تواجه قاهرة صعوبة في التعامل مع ابنها محمد (18 سنة) وابنتها ساندي (17 سنة)، فقد تركتهم أطفالاً، خرجت وفي نظرها أنهم ما زالوا كذلك، وهذا الأمر يزعجهم حيث يرددون دائماً: ماما نحن كبرنا. وتضيف: أريد أن أعيدهم إلى قلبي بأي طريقة، وسأبذل جهدي في سبيل ذلك. أما عن نظرتها للمجتمع بعد هذا الغياب فتقول: التغيير في المجتمع كان للأسوأ على مختلف الأصعدة السياسية والاجتماعية... الناس تغيروا، سأجاهد نفسي لأتأقلم مع الواقع.
... ما بين الحَجّتين
وعن شعورها عندما علمت بأن نائب رئيس المجلس التشريعي الفلسطيني د. أحمد بحر قام بأداء فريضة الحج عنها تقول أحلام: اقشعرّ بدني، وجثَوت على ركبتيّ وبكيت... سجدتُ وقلت الحمد لله الذي أكرمني بإخوةٍ حَبْلُ وصالي عنهم لا ينقطع، وأكرمني بقائد متواضع ومؤمن حقيقة بالله... للحج عني دِلالة مفادها أنّ المرأة المسلمة لا تُنسى عند المسلمين، وكأنه يبلغني بأننا سنجيب دعوتك يا أحلام بالإفراج عنك قريباً. ومن الملاحظ أنني خرجت ما بين الحجّتين.
تحررتُ رغم أنوفهم...
ثم سألناها عن شعورها أيضاً عندما علمت بأن رئيس وفد المفاوضات عن حركة حماس أحمد الجعبري أعلن أنه لن يُتم صفقة الأسرى بدون أحلام التميمي، فقالت: قلتها للصهاينة عندما أُعلنَ الحكم عليّ: خلفي رجال رجال... وقد أثبت الجعبري أن خلفي رجال رجال أوفوا بعهدهم وصدقوا كلمتي أمام اليهود.
 ... وماذا عن المستقبل؟
تقول مريم: أول خطوة سأكمل تعليمي. وتضيف قاهرة: الآن سيكون جهادي مع أولادي وسأمضي الوقت الأكبر معهم لأعوضهم، وسأكمل تعليمي في الجامعة في علم الاجتماع. في حين تستعد أحلام للزواج من رفيق محنتها ابن عمها نزيه التميمي المعتقل منذ عام 1993 الذي كان محكوماً عليه بالسجن المؤبد وشملته صفقة الوفاء للأحرار، حيث عُقد قِرانهما خلف القضبان: أنا الآن أتابع ترتيبات الزواج، حيث سأتزوج قريباً، وسأمارس عملي في المجال الإعلامي؛ فالصحافة والإعلام سبيلٌ مِن سُبل الجهاد في سبيل الله، لذا سأتابع ما يحدث على الساحة الفلسطينية تحديداً، وتحديداً في ملف الأسرى.
كلمة الحرية لكل يائس...
رغم المؤبدات خـــــــــــرجتِ، فماذا تقولين لكل يائس من أوضاعه القائمة؟ تقول أحلام: أقول لكل يائس: الأسير المحرر نائل البرغوثي أمضى 24 سنة داخل السجن ولم ييأس بل بقي واثقاً بالله، وقد شملته الصفقة وهو الآن يستعد للزواج. اليأس إن استحكم بالإنسان فسيكون ميتاً معنوياً... على كل يائس أن يقوّي علاقته بالله، ويواجه عقبات الحياة بيسر وسهولة، فالتقرب من الله ينجيه من المشكلة مهما كانت، واليأس مرض يحيط بالإنسان ويحتله احتلالاً كما يحتل اليهود فلسطين، وعدم مقاومته سيؤدي إلى هلاكه تماماً. عليه أن يعزز ثقته بنفسه حتى لو أُغلقت كل السبل أمامه؛ فهناك نور في نهاية الطريق لأنه لا بد من الأمل وهو بالله، قد تطول المدة ولكن دائماً هناك أمل. فقد علمتنا سنوات أسرنا أن نصبر ونصمت طويلاً ونفكر بعمق؛ عادة الحياة الخارجية والضوضاء لا تمكِّن الواحد منا من التفكر بشكل هادئ... اذهبي إلى غرفة، أطفئيها، خذي نفساً عميقاً، استعيني بالله، ابكي كثيراً... ابتسمي ثم افتحي باب نافذتك... وكلما تراكمت الهموم قولي: يا ألله.
بهذه الكلمات الرائعات التي انطلقت من قلوبٍ عِشْنهَا واقعاً قبل أن تنطقها الشفاه... نختم تحقيقنا بالقول:
تلك كانت تجربة عاشتها نساء مثلنا، نقدمها لكل امرأة لتعي أن للحياة وجهاً آخر غير الذي اعتادته، وأن لها أهدافاً أخرى تتعدى حدود ذاتها لتشمل الأمة بأسرها، لعل الوعي من كل واحدة منا يقودها إلى إحداث تغيير شامل يبدأ بكسر قــــــيــــود الـنفوس وينتهي بتحطيم الأسوار الــمحيطة بأقصانا.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين