مجهود النبي العربي عليه السلام  جهود أمم وأجيال عظيمة

 

بمناسبة ذكرى المولد النبوي الشريف، ننشر هذه المقالة الرائعة لشيخنا العلامة مصطفى الزرقا التي أذاعها في الإذاعة السورية في الخمسينيات من القرن الماضي ، ثم نشرها في مجلة الوعي الإسلامي الكويتية في العدد (135)ربيع الأول : 1396= 1976 وهذه المقالة وعشرات أمثالها ستنشر - بعون الله - في كتاب : مقالات الزرقا ، الذي يقوم منذ فترة على جمعه وترتيبه وتصحيحه الأستاذ الشيخ مجد مكي - وفقه الله -  نسأل الله أن ييسر صدوره في وقت قريب ، ودونكم المقالة :
مجهود النبي العربي عليه السلام 
جهود أمم وأجيال عظيمة!!

لقد كانت سيرة المنقذ الأعظم سيِّد الأنبياء والمرسلين محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم حافلةً بالعظات والعبر، مليئة بجلائل الأعمال، ماثلة النبراس لأعين عظماء النفوس، الذين يريدون أن يكونوا عظماء الأعمال قادةً للأجيال، تدلُّهم سيرته الجليلة على الطريق، وتضمن لهم النجاح والتوفيق، إن أخذوا أنفسهم باتِّباع نهجها واقتفاء معالمها النيِّرة.
نعم هكذا كانت سيرة النبيّ عليه الصلاة والسلام منارَ المهتدين، وقدوةَ المقتدين وستظلُّ كذلك ما بقي الجديدان.
لقد كان النبيُّ عليه السلام أمةً وحده، لأنه قام بأعمالِ أمَّةٍ عظيمة خالدة، تنشئ الحياة بقوة، في مختلف ميادين الحياة.
لقد قام النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم، أولاً بأعمال الهداية التي ترتبط بصفة نبوَّته، من التبليغ عن ربِّه، والتَّحليل والتَّحريم، وتصحيح العقيدة وتنزيهها، وتهذيب النفس وتوجيهها.
وقام ثانياً بأعمالٍ من عظيم الجهود البشرَّية في تأسيس سلطان الإسلام، وتوطين دعائمه، ورَفْع رايته ومعالمه، ونشر دعوته، وبَعْث قوَّته، ومكافحة خصومه.
وبالاختصار: قام عليه الصلاة والسلام بعملين عظيمين في تاريخ البشريَّة: هما تأسيس دين الإسلام، وتأسيس دولة الإسلام.
حمل هذه المهمة الجسيمة، واستقلَّ بأعبائها في سائر الميادين، وأبلغها كمالها فآتت أكلها في جزيرة العرب، أمام عينيه صلى الله عليه وسلم، وفي العالم الخارجي بعد حينٍ يسير.
كل ذلك في نحو عشرين عاماً، بل عشرة، لأنَّ مدة البعثة قد انقضى ونصفها في مكة دعوةً وادعةً لأناس قَسَتْ قلوبهم، وعَسَتْ عقولهم، ومَرَدوا على جاهليتهم فكانوا فيها كالجلاميد، وهم أهل الحَوْل والطَّوْل والصَّوْل، فذهبت دعوة الإسلام بينهم خلال عشر سنين كصيحةٍ في واد، أو نفخة في رماد!
فبناء الدين والدولة إنما استطاع النبي عليه الصلاة والسلام أن يقوم به في المدينة بعد الهجرةِ، تلك الهجرة العظيمة التي كانت في الواقع قنطرة الإسلام الخالدة، وصخرتَه المتينة، وصرختَه المدويّة التي ردَّت الأصمَّ سميعاً، وجعلت من الشَّتات شملاً جميعاً.
وقد كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم في كلِّ ذلك المجهود الهائل قطبَ الرحى، والمرجع الأوحد في جليل الأمر ودقيقه، وعسير الخطب ويسيره، فهو المفكِّر المدبِّر، وهو المُنفِّذ المنْجز.
كانت الحوادث والمفاجآت والمشكلات تنبت بين يديه نبات العشب ، أو تنهال عليه انهيال الرمال ، وهو يتلقّاها بثباتِ بأس ، وتدبيرٍ مُحْكم ، ويبادر بهمَّة شمَّاء ، وعزيمة صمَّاء لا يلهيه شأنٌ عن شأن ، ولا يشغله كبير الأمور عن صغيرها.
لقد كان صلى الله عليه وسلم هو المرشد الهادي للجماعات والأفراد في عقائدهم وأخلاقهم وسلوكهم وآدابهم ، وهو المعلم لهم فيما لهم وعليهم من حقوقٍ لأنفسهم ولأسرتهم و لأمتهم ولربهم من أمور الدين والدنيا.
وكان هو المبيِّن لأحكام الشريعة ونظمها التَّعامليَّة، التي يتكوَّن فيها التشريع القضائي النافذ في الأمة.
وكان هو القاضي الذي يختصمون إليه في حقوقهم، فيفصل بينهم بحكم الشريعة.
وكان هو المصلحَ المُوفِّق الذي يُصلح بين القبائل والأسر والأفراد، إذا ساد بينهم خلاف، أو ساء ودّ وائتلاف.
وكان هو السائسَ الذي حمل عبء سياسة الإسلام الداخلية والخارجية، سِلماً وحرباً، تجاه خصوم الإسلام من العرب في جزيرتهم، ثم من الدول الأخرى خارج الجزيرة العربية من فرس وروم وقبط.
وكان هو قائدَ الغزوات والحروب يحمل السلاح على رأس جيشه، و يتقَّدمه هجوماً ودفاعاً، حتى إنَّ عليَّ بن أبي طالب كرَّم الله وجهه - وهو هو في بطولته وشجاعته - يقول: "كنا إذا حَمِيَ الوطيس، واحمرَّت الحِدَق نتَّقي برسول الله صلى الله عليه وسلم، فما يكون أحد أقرب إلى العدوِّ منه".
وكانت هذه الحروب والغزوات متعاقبةً، فلا ينتهي من غزوة حتى يستقبل أخرى.
وكان هو إمام الجماعة والجمعة والعيدين والجنائز، ورئيَس الحج، وخطيب المواسم والمواقف، ومستقبلَ الرسل والوفود العربية والأجنبية، يعقد المعاهدات والمحالفات، ويبثّ العيون والأرصاد، ويتلقّى الأخبار من كلِّ الجهات، ويعمل على موجبها مبادراً قبل الفوات.
وكان هو الذي يدير جباية الأموال في الطوارئ وعند تجهيز الجيوش، ويجمع الزكاة والصدقات والأعشار، ويُوزع كل ذلك في مصارفه، ويُقَسّم الغنائم الحربيَّة على المجاهدين.
وكان عليه الصلاة والسلام، إلى كل ذلك يصوم الوصال، ويقوم معظم الليل مُصلياً متعبِّداً، داعياً متهجِّداً، آخذاً نفسَهُ بالأشقّ، تاركاً لأمته الأخف ممَّا يطيقون.
وكان يواسي أمته في الأعمال البدنيَّة فوق كل هذه المشاغل الفكريَّة، ويتقدَّمهم فيها كي ينشئ في حناياهم نفوساً زكيَّة بطريق الفعل والاقتداء، لا بطريق الكلام، حتى يَرَوْا أنَّ الرئاسة عبءٌ ثقيلٌ مُضْنٍ لا يطيقه كل واحد، وليست نعمةً وامتيازاً يُتنافس عليها، حتى لا يقبل الرئاسة على أن يقوم بعبئها، إلا من كان أكثر استعداداً للتضحية بمتعته ولذَّته وراحته، وأقدر على تحمُّلها.
ولذا نراه صلى الله عليه وسلم يوم حفرالخندق ينقل التراب مع أصحابه على كتفيه، ونراه في أسفاره إذا نزل بهم في مرحلة، وقاموا يهيئون الطعام وتوزَّعوا عمله، لا يرضى أن لا يشاركهم، فيقول لهم: وعليَّ جمع الحطب!! 
وكان كل هذا في حياته الخارجيَّة، لا يشغله عن أن يكون عاملاً مع أهله في حياته الداخلية في بيته، مساعداً أزواجه فيه، فقد كان عليه الصلاة والسلام يحلب شاته بيده الشريفة، ويخصف نعله، ويرقِّع ثوبه، ويخدم نفسه، ويقمُّ البيت ، فما يُرى فارغاً متلهياً في بيته قط. ويأكل مع الخادم، ويطحن معه، ويحمل بضاعته من السوق
وكان أزهد الناس في حطام الدنيا، وأجودهم بما يدخل في يده.
يقول الأستاذ محمد رضا في معرض بيان الأعباء الكثيرة الجليلة التي قام بها النبيُّ صلى الله عليه وسلم وحده ممَّا تعجز عنه أمة عظيمة بأسرها في كتابه الذي عنوانه: "محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم": (كان يجاهد بلسانه وسيفه، ويُعلِّم أصحابه وأتباعه أمور الدين، ويُؤدِّبهم ويُهذِّبهم بالفعال والأقوال، والاقتداءِ بسيرته النقيَّة الطاهرة، ويُرشدهم إلى صلاح الدنيا والآخرة، ويحذِّرهم ارتكابَ المعاصي، ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، وينطق في أحاديثه بالحِكَم وجوامع الكَلِم، التي لم يُسْبَق إليها أحدٌ من البشر، ويقود أصحابه إلى ساحات الوغى، وينظِّم الجيوش، ويُصدر الأوامر للقوَّاد، ويحثُّهم على الجهاد والصبر، ويُدبِّر لهم الخطط الحربيَّة، ويحكم بين الناس بالعدل، فكان صلى الله عليه وسلم معلِّماً ومربياً ومؤدِّباً، وواعظاً ومُرشداً، وبشيراً ونذيراً، وخطيباً وإماماً، وأباً باراً، وأخاً صادقاً، وقائداً ومُشَرِّعاً وقاضياً.
وإذا دخل منزله علَّم نساءه وأحسن عشرتهنّ، وَوَفَّق بينهنّ، ثم إذا خلا إلى نفسه انقطع إلى عبادة ربِّه، والتَّضرُّع إليه حتى لا يطيق أحدٌ أن يجاريَه في عبادته مهما اجتهد.
وهذا تصويرٌ مختصرٌ بجانبٍ ممَّا كابده النبيُّ صلى الله عليه وسلم في حياة مفعمة بجلائل الأعمال والأعباء التي تحتاج إلى جبال من رجالٍ أبطالٍ عباقرة دهاة مخلصين
وبذلك كانت ساعات عمر النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم شهوراً، وأيامه أعواماً، وشهوره دهوراً، وكان هو وحده أمة كاملة
هذا علاوة على ما كان يقتضيه القرآن الكريم من النبي صلى الله عليه وسلم، من جهد عظيم متواصل في تَلقِّي وحيه، وإملائه وجمعه، وإعلانه وصيانته، وإقرائه للصحابة، وتفهيمهم إيَّاه وتفسيره وبيان مُجْمَل أحكامه.
وإذا نظرنا إلى ما يعتقده الأجانب الجاحدون لِنُبوَّته عليه السلام وما يزعمونه من أنَّ القرآن العظيم هو من تأليفه ووضعه، وليس بوحيٍ من الله تعالى، وإذا نظرنا إلى زعمهم هذا لكان الأمر أشقَّ وأعجب، فإنَّ هذا القرآن العظيم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. والذي يقول فيه صاحب الرسالة عليه السلام: ( إنه لا يُخْلقه طول الرد، ولا تنقضي عجائبه) لو كان في قدرة أحدٍ من البشر أن يأتيَ بمثله لما كفته لإنشائه مدة بعثة الرسول، وهي ثلاث وعشرون سنة، انقضت كلها احتمالاً للأذى والبلاء، ثم جهاداً وحروباً ومفاجآت، يطيش لها حِلْم الحليم، وتَشْغل المرء عن نفسه.
يتجلَّى لنا من هذا العرض المُقْتَضب المختَطف، كيف أنَّ نبيَّنا العربي عليه السلام في مدة عشر سنين بعد هجرته إلى يثرب، وهي مدة لا تكفي لتربية طفل، أو لتأليف كتاب قيِّم في موضوع علميّ، قد حمل مِن جسيم الأعباء، ومن عظيم التضحيات في سبيل تأسيس الدين والدولة ما ينُوءُ بأمّة عظيمة مُوَطَّدةِ السلطان، موفورة الوسائل من مال وعلم ورجال.
وقد سار فريقٌ من الخلفاء بعده على بعض منهاجه في النَّجدة والاستعداد والإقدام، واستطاعوا أن يجعلوا من المشارق والمغارب مراكز رهيبة لرايات عزِّهم المتين.
والآن أخلص من هذا إلى سؤال أُلقيه في مَسْمَع البلاد العربيَّة والإسلامية شعوباً وحكومات، في غير خفاءٍ ولا اسْتِسْرار، وقد اتخذت من هذا العرض لما قام به النبي وحده، وخلفاؤه الصالحون بعده، مقدمة إلى هذا السؤال فأقول:
هل تعجز اليوم البلاد العربية التي أنجبت هذا النَّبيَّ الكريم العظيم، والدول الموزَّعة فيها أن تحميَ بأموالها وأنفسها كرامتها وكرامة مُقدَّساتها من المعتدين على فلسطين أُولى قبلتيه، ومهد أخيه المسيح عيسى بن مريم، عليهما السلام، فتدفع عنها شراذم المعتدين من اليهود الصهاينة الذين يتكرر عدوانهم ويتَّسع كل يوم، وأصبحوا يُهَدِّدون سائر البلاد العربية رغم أن العرب وبلادهم محيطون بهم إحاطة السَّوار بالمعصم؟
هل ينسى هؤلاء العرب اليوم أنهم أمة ذلك النبيّ البطل الكامل الذي أنشأ وحده من العدم ديناً ودولة أقضّ بهما وقوَّض كل دولةٍ للباطل؟ وليس الأمر محتاجاً - وإن تفاقم - إلا إلى عزيمة صادقة، وإخلاص للفكرة، وتضحية بالأنانيات أولاً في سبيل وحدة الصف والزحف، ثم تضحيات أخرى بالمال والعتاد والأطماع حتى يرتد الثعالب على أعقابهم خاسئين بعون الله تعالى !!
إننا نترك للأيام والأعمال أن تُجيبنا على هذا السؤال؟!
مصطفى أحمد الزرقا

كلية الشريعة - الجامعة الأردنية.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين