عود نفسك الخير
عوِّد نفسك الخير
 
لي قريب شاب، صالح مستقيم، ولكنّ فيه شيئين: إنه يطيل السهر حتى يقعد عن صلاة الفجر، وإنه يكثر التدخين، يُذهب في ذلك ماله ، ويضرّ جسده، ويؤذي أهله.
وكنت أنصحه ، وأعظه، فيهمّ ولا يعزم، ويقرر ولا ينفذ، حتى صحبته مرة في سفرة إلى بيروت، ولم نجد في الفندق الذي نزلناه غرفتين ، فبتنا في غرفة واحدة.
وكان في السنّ بمثابة ابني، وكان يوماً تلميذي فهو يوقرني لذلك ويجلني، وكان يعلم أني أحب أن أنام من أول الليل، فترك عادته في السهر تلك الليلة من أجلي.
وكنت أحسّ به يتقلب على الفراش لا يطيق المنام، فأتجاهله وأتناوم لعلمي بأن ذلك أصلح له، وإن كان أشد عليه، ثم رأيته قد غلبه النوم.
فلما قمت إلى صلاة الفجر، أحسّ بي، فسألني : من باب الأدب.
وهو بين النائم واليقظان:
ـ هل تريد شيئاً؟
ـ قلت: نعم.
فوثب ،وقال:
ـ ماذا تريد؟
ـ قلت : أريد أن تُصلِّي معي الفجر لعلّنا نكسب ثواب الجماعة.
فتوضَّأ وصلينا.
ومرّ على ذلك أيام طوال، ثم لقيته فسألته عن حاله ، فخبرني أنه صار يصلي الفجر حاضراً كل يوم.
قلت: أعرف ذلك.
فقال متعجباً: من أين عرفت؟
قلت: لأنك قمت إلى الصلاة معي لما كنا في بيروت، والعادة تثبت بمرّة، فيكفي أن تصنع الشيء مرة واحدة ليكون لك عادة.
قال: تتكوّن العادة من مرة واحدة؟
قلت: نعم ، هذا ما يراه وليم جيمس شيخ الفلسفة العلمية اليوم، وإمام السلوكيين في علم النفس، وهو لم يأت في ذلك بجديد، بل هو يردد ما قاله قبلة بألف سنة، فقهاء المذهب الحنفي.
قال: وما يدري فقهاء المذهب الحنفي بعلم النفس؟
قلت: إن في هذه الكتب (الصفراء) التي انصرف الشباب عنها، ذخائر من العلوم، ولكنا تعوَّدنا ألا نقيم لقولٍ وزناً إلا إذ قاله عالم أوربي أو أمريكي، و هاك كتاب الإحياء للغزالي مثلاً ، فاقرأه تجد فيه من أحوال النفس ما ليس في كتاب في الدنيا.
نعم، إن العادة تتكون من مرة واحدة، إنك تمرّ بالمرقص كل يوم فلا تلتفت إليه، ولا تقف عليه، فإذا جاءك شيطان من شياطين الإنس، فأخذ بيدك فأدخلك إياه مرة واحدة، هان عليك دخوله، وتعوَّدت ارتياده وصرت من أهله.
وإن نزلت من دارك ، إلى المسجد ، فصليت الفجر مرة مع الجماعة، سهل عليك النزول كل يوم ، وصرت من أهل الجماعة.
ولقد كنت أنا أسهر الليل ، فلا أصلي الفجر إلا قضاء، بعد طلوع الشمس ، فلما كان رمضان، و تعوَّدت القيام للسحور، لبثت على تلك العادة بعد رمضان، حتى إنني لاستيقظ الآن مع الفجر كل يوم، من غير أن يوقظني أحد، ولو كنت سهران إلى نصف الليل.
وكنت أهتم بعدّ ساعات النوم، أفيق فأنظر في الساعة، فإن وجدت نومي قد نقص عن ثماني ساعات، شعرتُ كأني متعب أو مريض، ولو لم يكن بي تعب ولا مرض ، فلما مرضت من سنتين ، وطال مرضي، وكنت آرق وأنام، وأستيقظ وأغفى، تعوَّدت النوم المتقطع ولم أعد أحصي ساعات المنام، ولا أبالي نقصها.
وكنت أخشى الصيام ، وأخافه،وأرتاع لقدوم رمضان، وأتعجَّل انصرافه فلما رأيت صديقي الدكتور أمين المصري قد صام ونحن في كراتشي خمسة عشر يوماً على الماء فقط، تداوياً وتشفياً، ثم رأيت الصديق الأستاذ الشيخ ناصر الألباني، قد قلَّده في ذلك، ولكنه وصل إلى أربعين يوماً، أربعون يوماً لم يذق فيها إلا الماء فقط، وكان كلٌ منهما يغدو مدة صيامه إلى عمله، ما بدَّل منهاجه ، ولا انقطع عن عمله ولا لزم الفراش، قلت لنفسي:
ـ إذا كان يمكن الصيام على الماء أربعين يوماً، فما صيام بضع عشرة ساعة؟ وجربت أن أصوم أياماً من كل شتاء ، فصار ذلك لي عادة ، وصرت أحب الصيام، وأهش لرمضان، وأفرح بقدومه.
ومن ثبوت العادة بمرة ، أن أحدنا يدخل المقهى أو يزور صديقاً فيؤمّ ، ركناً من أركان المقهى([1])، أو كرسياً من كراسي المجلس ،يقعد فيه ، فإذا عاد إلى القهوة([2])، أو إلى المجلس ،وجد قدميه تجرانه بلا شعور، إلى ذلك الركن أو ذاك الكرسي.
ولا يقول أحد:" هذه عادتي لا أستطيع تبديلها" ، فإنك إن تركت هذه العادة مرة، واتخذت غيرها، تبدلت عادتك.
إن كان من عادتك أن تخرج من دارك في منتصف الثامنة، فتتأخر عن ديوانك أو مدرستك ، فَجَرِّب أن تخرج مرةً واحدة في منتصف السابعة ، تجد أن التبكير قد صار لك عادة.
وإن كنت تواظب على السينما حتى لا يفوتك شريط من الأشرطة، وأحببت أن تتخلَّص من هذا الشر، فجرِّب أن تتجنبها أسبوعاً واحداً، وأن تمرّ بالسينما وترى الإعلان عن الرواية التي تحبها فلا تدخلها، تجد أنك تستطيع أن تصبر عنها أسبوعاً آخر، فإذا انقضى شهر ولم تدخلها تر أنك تقدر أن تمتنع عنها شهراً آخر، ولقد جربت ذلك بنفسي وكنت مولعاً بالسينما لا أصبر عنها، فصبّرت نفسي عنها فصبرت، وسليتها عنها بغيرها فتسلِّت.
وان ابتليت بهذا الرائي([3])تلازمه أربع ساعات كل ليلة، تشتغل به عن درسك وعن نومك، تذوق القليل من حلوه والكثير من مره، تتناول سمه في دسمه، فاتركه مرة واحدة، وقم إلى غرفة أخرى فاشتغل ، أو إلى فراشك فنم، تجد أنك تعوَّدت الاستغناء عنه.
وإذا كنت تغضب وتثور لكل ما يخالف رغبتك ، فتضارّ امرأتك أو تضرب ولدك،أو تكسر آنيتك، فلقد كنت أنا مثلك،وكنت إذا غضبت لا أبصر بعيني، ولا أبالي ما أُقدم عليه، فما زلت آخذ نفسي بالمواعظ، وأذكرها بقول الرسول صلى الله عليه وسلم لمن سأله موعظة فيها السلوك الخلقي الكامل: فقال له:" لا تغضب".
كما قال للآخر الذي سأله نصيحة تجمع المبادئ الخلقية كلها:" لا تكذب".
ثم جرَّبت مرة أن أضبط أعصابي، وأن أكتم نار غضبي بين ضلوعي، وأن أعالج الأمر باللين والحكمة والعقل، فوجدت لذلك ألماً لا يدانيه ألم، ومشقة لا تعدلها مشقة، وأكبرت قول الرسول صلى الله عليه وسلم:" ليس الشديد بالصرعة ولكن الشديد الذين يملك نفسه عند الغضب"، ولكني نجحت في هذه التجربة ، فلما عدت إليها المرة الثانية، لم أجد من تلك المشقة وذلك الألم إلا القليل.
فجرب ذلك مرة يصر لك (إذا شئت) عادة.
وإذا كنت تأخذ امرأتك بالشدَّة حتى صارت تلك عادتك، فجرِّب أن تأخذها باللين، وأن تكلمها كما تكلِّم ضيفاً عزيزاً ، أو صديقاً كريماً، يصر لك اللين عادة.
وإذا كنت مستضعفاً في بيتك، لا أمر لك على زوجتك، ولا على ولدك، وكنت تريد الاقتصاد وهم يبذرون، وتأمر البنات بالستر واتباع الدين فلا يقبلن إلا التكشف واتباع الفرنج المستعمرين، وكنت تنهى بنتك عن الذهاب في الرحلة المدرسية فتجرب فيك سلاح النساء وهو البكاء فتخضع وتتخاذل، فجرِّب أن تستبد وتشتد في إقامة الحق مرة واحدة، واثبت على ذلك، ولا تبال بالدمع ولا التوسل ولا الحرد([4])، تجدك قد استعدت سلطان الأب، ومكانة رب البيت.
وإذا كان لك عادات سوء، كعادة التدخين مثلاً، فلا تقل لنفسك اليوم أنقص دخينة( سيكارة) وغداً دخينتين، بل الق العلبة من الآن واترك التدخين مرة واحدة، وسلّ نفسك عنه بشيء غيره، ولقد كان أستاذنا أحمد جودة الهاشمي ـ رحمه الله تعالى ـ ، يدخن الليل والنهار فعرض ما يوجب ترك الدخان، فقال: تركته!.
وظن إخوانه أنه يمزح أو يلقي كلاماً، وإذا هو قد ثبت على كلمته، ولم يعد إليه أبداً فانظر في عادات السوء كلها، كالخمر والربا والحشيش وكشف العورات( المحرَّمة شرعاً) والنظر إليها، وآلات الطرب، والنرد ( الطاولة) ومثلها( البرجيس) و( الشدة) والميسر( ومنه: يانصيب) والتماثيل التي توضع في أبهاء الاستقبال، وأختام الذهب للرجال([5])، وأمثالها فاتركها مرة واحدة، واكسر آلاتها واقطع أسبابها.
إن العاقل هو الذي يعتبر نفسه دائماً كالتلميذ في المدرسة، يسعى كل يوم ليتعلم شيئاً جديداً ، ثم يعمل بكل خير يتعلمه.
ينظر دائماً في طباعه وعاداته وأخلاقه، فما كان منها صالحاً حمد الله عليه، واستزاده منه، واستمر عليه، وما كان منها سيئاً عمل على تبديله وتغييره، وسأل الله العون على الخلاص منه.
إن سلوك الإنسان مجموعة عادات: عادات في الأكل وفي الشرب، وفي المشي وفي اللبس وفي أسلوب مخاطبة الناس، بها يكون الإنسان محبوباً أو يكون مكروهاً، و بها يكون موقراً محترماً أو يكون مزدرىً محتقراً.
وربما يكون هذا الحب وهذا الكره، وهذا التوقير وهذا التحقير، لعادة تافهة لا يأبه صاحبها بها، ولا ينتبه إليها.
أعرف رجلاً من أطيب الناس قلباً وأشدهم تواضعاً، ولكن من عادته إذا دخل مجلساً أن يبتغي لنفسه أضخم مقعد، فيلقي بنفسه عليه، ثم يسترخي فيه كالمضطجع، ويضع رجلاً على رجل، ثم يمدها في وجوه الناس، فكان الناس يظنون به الكبر، ويعادونه لهذا وهو لا يدري.
وآخر ينفر الناس منه أنه يكلمهم بالكاف([6]) ويرفع صوته فوق أصواتهم، وثالثاً: لأنه يمشي في الطريق مطرق الرأس ، لا ينظر إلى أحد ، ولا يرى من يُسلِّم عليه ولا يرد سلامه.
ورابعاً: لأنه ينكش أنفه أو أذنه بأصبعه وهو بين الناس، أو يبصق ، أو لأن ، أو لأن فيه بخراً( أي: أن لفمه رائحة).
وخامساً وسادساً، فما أردت الاستقصاء ،والعادات السيئة لا تحصى، فلينظر كل امرئ في نفسه، وليبحث عن سيء عاداته ليصلحها، وليستعن بمن يدلُّه عليه، ومن دلَّ امرأ على عيب نفسه، فقد أحسن إليه، لذلك كان عمر يقول: رحم الله امرأ أهدى إليّ عيوبي. وخير من يدل المرء على عيوبه أعداؤه.
وربما كانت ملامح وجه الرجل سبباً في حبِّ الناس إياه أو بُغْضهم له، ولكل امرئ( إذا انفرد بنفسه) ملامح ترتسم على وجهه.
رأيت مرة أمامي في الترام ، رجلاً مربدّ الوجه، عابساً، مقطِّب الجبين، مزموم الشفتين ، فقلت في نفسي:
أعوذ بالله ، ما هذه الهيئة المنكرة؟ ومن يكون هذا الرجل؟ إنه أثقل الناس بلا شك، وأغلظهم، وما أظن هذا الفم عرف الابتسام أبداً.
وأنعمت النظر فيه أرى أي امرئ هو، فإذا هو... فإذا أنا أرى صورتي في البلور، وإذا هذا الغليظ أنا!.
ولولا هذه المرآة ما عرفت ذلك عن نفسي.
فلابد إذن من مرآة ، و( المؤمن مرآة أخيه) يبصرِّه بعيوبه ليصلحها،ويدلّه على نقائصه ليتجنبها، وذلك في خلوة به، وفي حال يكون فيها طيب النفس مستعداً لقبول النصح، وأن يكون النصح باللطف، والأدب واللهجة المهذبة والأسلوب الحكيم.
 
([1])         المقهى(بضم الميم)كلمة صحيحة فصيحة، من قولهم(اقهى الرجل) إذا داوم على شرب القهوة.
 
([2])         والقهوة صحيحة أيضاً من باب المجاز ( إطلاق الحال وإرادة المحل).
([3])         الرائي كلمة وضعتها أنا للتلفزيون، والرائي هو المرئي على المجاز مثل ( عيشة راضية).
([4])         كلمة الحرد بالمعنى الذي يستعملها فيه العوام: كلمة صحيحة فصيحة.
([5])         أما الذهب للنساء فهو حلال في جميع المذاهب الإسلامية سواء أكان اساور أم عقوداً أم خواتم.
([6])         أي بصيغة الافراد.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين