إسلاميون بين التجديد والتغريب

 

د. موسى ابراهيم الابراهيم
 الحمد الله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه أجمعين وبعد .
مع بدايات القرن الحادي والعشرين وفي سياق نهاية الحرب الباردة وبروز تيار العولمة وسياسيات القطب الواحد وزهو الغرب بانتصاره على المعسكر الاشتراكي الشرقي في هذه الأجواء بدأ الغرب يتجه اتجاهاً في سياساته نحو العالم الإسلامي اتجاهاً يعتبر الإسلام ممثلاً بالصحوة الإسلامية العالمية هو العدو الجديد الذي يهدد الحضارة الغريبة وينافسها على البقاء والخلود هذا لجانب ما يتمتع به موقع العالم الإسلامي الاستراتيجي جغرافياً واقتصياداً وحضارياً وطاقات بشرية فذة .
وأعلن الغرب مشروعه الجديد في فرض الهيمنة ومسخ الهوية وتمزيق الأمة تمهيداً لاستعمار من نوع جديد .
ووفق مناهج ودراسات إستراتيجية وخطط بعيدة الأجل بدأ الغرب في التنفيذ من خلال إملاء تغيير المناهج في العالم الإسلامي وإشاعة الفرقة بين القيادات الفكرية والسياسية وتسليط الأضواء على العلماء والدعاة الربانيين واتهامهم بالتخلف و إشاعة الأفكار الإرهابية و ثقافة الكراهية بين العالم والشعوب المختلفة بل تجاوز الأمر إلى صناعة أحداث كبرى تمهد للتدخل المباشر في شئون العالم الإسلامي وتمزيقه والسيطرة على مقدراته وصولاً إلى نهاية التاريخ وتفرد الرجل الأبيض في السيادة العالمية وفي هذا السياق تم إخراج أحداث سبتمبر و ما تبعها من ويلات و أهوال معلومة مشاهدة يعيش عالمنا أهوالها وغصصها حتى هذه اللحظة.
في هذه الأجواء المشحونة بدأ بعض الإسلاميين يعيشون ظروف الهزيمة النفسية متأثرين بنظرية ولع المغلوب بتقليد الغالب وكان هذا نوعاً آخر من البلاء ومن جراء جميع تلك التداعيات والسياقات ظهر على السطح أفكار وكتابات وكتاب يريدون إعادة منهج المدرسة العقلية التي سادت في الأوساط الإسلامية إبان عهد الاستعمار في نهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين تلك المدرسة التي أرادت -وقد يكون عن حسن نية- تقريب الإسلام للعقلية الغربية الغازية بخطاب عقلاني مرن منسجم مع الفكر البشري ونظريات المعرفة الإنسانية بعيداً عن النصوص الشرعية ودلالاتها وفحواها وقد انهزمت هذه المدرسة وتعرّت مع بدايات النصف الثاني من القرن العشرين تلك المرحلة التي تميزت بوضوح الثقافة الإسلامية وقوتها ورواجها حيث انتقلت الكتابات الإسلامية يومها من مرحلة الضعف ورد الشبهات إلى مرحلة الريادة و الإبداع وسجلت كتابات الإسلاميين انتصارات مقدرة جعلت جمهورهم الأوسع وكتاباتهم الأكثر شيوعاً و انتشاراً و كان من الكتاب الرواد في تلك المرحلة الإمام البناء والسباعي والحامد وأديب الصالح وأبوغدة والمودودي والندوي وسيد قطب ومحمد قطب والغزالي وسعيد حوى و القرضاوي ويوسف العظم والترابي ومحمد محمد حسين وغيرهم كثير ورحم الله الأموات منهم وبارك في أعمار الأحياء المرابطين على الثغور . 
أما المدرسة الجديدة مدرسة العقلانيين السياسيين فقد بدأت باسم التجديد تنحو نحو التغريب وتنادي بضرورة تقديم الإسلام بشكل عصري مقبول ومرن بلا ألوان غامقة ولا قاتمة وقد شاعت في أوساط هؤلاء عبارات ومصطلحات غريبة -إسلام السكر الخفيف- مثلاً ... فتجدهم يكتبون ويتحدثون ويحللون و ينظرون بأسلوب ليس للإسلام فيه طعم ولا لون ولا ريح في أكثر مقولاتهم ولولا بعض الأسماء والعناوين التي تزيل بها تلك المقولات لما عرف أحد أن هذا الكلام عن الإسلام ومتى كان الإسلام يعرض هزيلاً وعلى استحياء ؟وحتى صار هؤلاء يتمدحون بهذا الأسلوب العصري المبدع التجديدي ويعدون الحديث عن الإسلام بصفائه ووضوحه ونقائه حديثاً متخلفاً رجعياً وصار أصحاب الأصالة الإسلامية عندهم محل تندر وسخرية ويوصمون بالتخلف وعدم فهم الواقع وكأنهم من أهل الكهف والعصور القديمة .
ومعظم رواد هذه المدرسة الجديدة من مثقفي الجرائد والفضائيات وحدها وممن جعلوا من أنفسهم منظرين وسياسيين في الحركة الإسلامية ويتطاول بعضهم على أعلام الكتاب المسلمين المعاصرين الذين تربت الصحوة الإسلامية على أفكارهم وكتاباتهم ويحطون من أقدراهم أمام الشباب الناشئ البريء.
ووجد هؤلاء في مواقع الإنترنت العائمة مجالاً متسعاً لمقولاتهم وأفكارهم ويحاولون نشر هذه المفاهيم الضبابية في أحادثيهم ومجالسهم الخاصة وبين الساسة من ذوي الاتجاهات الوطنية والقومية والعلمانية واليسارية باسم إشاعة التوافقات الفكرية بين الإسلاميين والعلمانيين وباسم سماحة الإسلام وتقبله للرأي الآخر .
ولم يفطن هؤلاء إلى أن من يتقربون لهم لسبب أو لآخر لن يثقوا بهم ويصنفوهم في خانة الانتهازيين والوصوليين في أحسن الأحوال.
- تلك قراءة عامة في أفكار ومقولات أدعياء التجديد والعصرنة قراءة في الخلفية والمنهج والمنطلقات العامة قراءة بلا عناوين ولا أسماء قراءة تشير إلى خطورة المنهج وتحذر من مغباته المستقبلية .
وهي دعوة صادقة ومخلصة لجميع أصحاب هذه المدرسة من أجل المراجعة والتصحيح قبل أن يصير الأمر انحرافاً مؤصلاً ويصعب العود عنه بعد ذلك .
-إنها دعوة جادة لعرض الإسلام العظيم كما أنزله الله في كتابه وكما بينه رسول الله صلى الله عليه وسلام في سنته وهديه وسيرته وكما أصله العلماء الربانيون من السلف والخلف والمعاصرين منذ أربعة عشر قرناً ويزيد راية واضحة ومعالم صافية ورؤية متميزة .
- إنها قراءة لا تتهم النوايا ولكنها تشير إلى الخطأ في الاجتهاد والاختيار ولابد من التنويه إلى أن حسن النية لا يشفع لصاحبه إن لم يكن العمل صواباً فالنتائج واحدة والآثار واحدة والله وحده هو الذي يعلم بالنوايا ويحاسب عليها, ونحن دعاة ولسنا قضاة نحكم على الناس .
وأخيراً أسال الله العلي العظيم أن يحفظ هذا الإسلام ويعلي رايته أن يهيئ له حملة صادقين ومخلصين وواعيين يبلغونه للناس كما أنزل , وأساله تعالى أن يحفظ سائر العلماء والدعاة الربانيين المخلصين من الزيغ والخطأ والانحراف إنه تعالى من وراء القصد وهو الهادي إلى سواء السبيل وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين