علقوا الصليب... وخلصونا

عبد السلام البسيوني

تاريخيًّا: لم تستسلم جمهرة شعب لأقلية تتحكم فيها، وتذل كرامتها، وتسب دينها؛ إلا حين تهترئ الدولة، وتتفكك أوصالها، ويحكمها حكام صوريون، أو أنذال خونة، لا يبالون بالدين، ولا بالشعب، ولا الحاضر، ولا المستقبل، فحينها تعلو طائفة وتتنمر، وتهتبل الفرص لعض اليد، وطعن القلب، وسب الدين، فإذا انتبهت الأمة إلى دينها وأفاقت، وجاءها حاكم وطني عادل قوي، عادت الأمور منضبطة، بلا ضوضاء، ولا خلل!
 
حدث هذا مرات عديدة، ارتفعت خلالها طائفيات ونعرات، أدمت جسد الأمة، وأزعجتها؛ ابتلاءً من الله للشعب، بقبوله قيادة من لا يصلح، وتوليتِه موقوذًا أو مترديًا أو نطيحًا.. أو ما عاف السبع أن يأكل!
 
وقد ارتخت مفاصل الدولة الإسلامية في بعض أيام الدولة العباسية، فعلا العرق الفارسي، وأسس منهجية شعوبية، يحط فيها من الجنس العربي الغالب في الدولة، ويهينه، كما حصل في عهد الخليفة المأمون، الذي جيش جيشًا لقتال أخيه الأمين من هؤلاء، ثم عمل نفر منهم بعد ذلك على إعلاء الجنس الفارسي، والعادات المجوسية، وتشويه سمعة العرب، وطرقوا باب التأليف في الأنساب والمثالب العربية، ووضعوا قصصًا كثيرة تؤيد جانبهم اختلقوها اختلاقًا، وبرعوا في وضع الأحاديث في فضل الفرس، وأسندوها إلى الثقات من الصحابة رضي الله عنهم!
 
كما قام فريق منهم بتشويه تعاليم الإسلام، وإدخال أشياء من ديانتهم المجوسية السابقة ضمن تعاليمه، لأنهم رأوا أنهم لن يحصلوا على استقلالهم ما دام الإسلام في سلطانه، وبرزت على السطح حركات دينية وقومية، مثل حركة ابن الراوندي، وحركة المقنع الخراساني، وحركة بابك الخرمي، وبرزت الزندقة بصورة كبيرة على أيدي وزراء وشعراء وكتاب منهم (الموسوعة العربية، بتصرف كثير).
 
وفي عهد الحاكم الفاطمي المستنصر بالله, تمكن اليهود في مصر، وعلا شأنهم، وملكوا، وتقووا، واستعلوا، واحتكروا المناصب الكبيرة، وآذوا المسلمين، وأذلوهم، حتى قال الشاعر:
 
يهود هـذا الزمان قد بلغوا ..... غايـة آمالهم وقد ملكوا
 
العز فيهم.. والمال عندهمُ ..... ومنهم المستشار والملـك
 
يا أهل مصر قد نصحت لكم ..... تهودوا, قد تهود الفلَك
 
وعام 1089م. وباسم الصليب، جاءت حملات من مجموعات من المتطرفين العصابيين لدهس ومحق بلاد المسلمين، وظلت ورمًا في جسد الأمة، مستغلين غفلة المسلمين وتفرقهم، وهوانهم على أنفسهم، وهوان دينهم عليهم، لكن حين جاء لويس التاسع الفرنسي محتلاًّ لمصر غازيًا بلاد المسلمين (يسميه إخوتنا الأقباط القديس لويس! وله مدارس تحمل اسمه في طنطا وغيرها) كانت مصر أكثر يقظة وقوة، فأخزى الله سعيه، ورده على أعقابه، بعد أن أُسر وسجن في المنصورة، بدار ابن لقمان كتب فيه الشاعر الظريف جلال الدين يحيى بن عيسى بن مطروح (1196- 1251) الشاعر المصري الذي عاش بين الأيوبي والمملوكي، يقول:
 
أتيت مصر تبتغي مُلكها ..... تحسب أن الزمر يا طبل ريح فساقك الحَيْنُ إلى أدهم ..... ضاق به عن ناظريك الفسيح وكل أصحابك أودعتهم ..... بحسن تدبيرك بطن الضريح سبعون ألفًا لا يُرى منهمُ ..... إلا قتيلٌ أو أسير جريح ألهمك الله إلى مثلها ..... لعل عيسى منكمُ يستريح إن يكن البابا بذا راضيا ..... فرُبَّ غشٍّ قد أتى من نصيح فاتخذوه كاهنًا.. إنه ..... أنصح من شق لكم أو سطيح وقل لهم إن أزمعوا عودة ..... لأخذ ثأرٍ أو لفعل قبيح دار ابنٍ لقمان على حالها ..... والقيد باقِ والطواشي صَبيح
 
وحين حكم الإنجليز مصر علت الطوائف الأجنبية، واستشرت – تحت غطاء الحماية – وسرقوا المصريين، وأذلوهم، وتحكموا فيهم بشكل كامل: في القصر والدستور والتعليم ومناهج الدين والاقتصاد – حتى ضاق كثير من أهل النخوة والوطنية، وأخذوا يقاومون ذلك بحسب أقدارهم وقدراتهم، وحتى كتب شاعر النيل حافظ إبراهيم، ناقمًا على تحكم الأجانب وغير المسلمين:
 
سَعَيْتُ إلى أنْ كِدْتُ أَنْتَعِلُ الدَّما ..... وعُدْتُ وما أعقبتُ إلاَّ التَّنَدُّمَا
 
لَحَى اللهُ عَهْدَ القاسِطِين الذي به ..... تَهَدَّمَ منْ بُنياننَا ما تهدَّمَا
 
إذا شِئْتَ أنْ تَلْقَى السَّعَادَة َ بينهمْ ..... فلا تَكُ مِصْريًّا ولا تَكُ مُسْلِما
 
وقبله نعى أمير الشعر شوقي رحمه الله على أتباع عيسى رسول الرحمة صلى الله عليه وعلى محمد وسلم تسليمًا كثيرًا نعى عليهم جبروتهم، وعدوانهم، وجرائمهم التي لا حد له؛ ما يخالف نص وروح رسالة رسول الله سيدنا يسوع عليه السلام:
 
عيسى: سبيلك رحمة، ومحبة ..... في العالمين.. وعصمةٌ، وسلام
 
ما كنت سفّاك الدماء ولا امرءًا ..... هان الضعيف عليه والأيتام يا حامل الآلام عن هذا الورى ..... كثرت عليهم باسمك الآلام أنت الذي جعل العباد جميعهم ..... رحماء.. باسمك تقطع الأرحام خلطوا صليبك والخناجر والمدى ..... كلٌّ أداةُ للأذى وحِمـام
 
الله عليك يا أمير الشعراء.. الله عليك يا رائع! خلطوا صليبك والخناجر والمدى/ كلٌّ أداةٌ للأذى وحِمامُ!
 
وهانحن: بعد أن كان ما لقيصر لقيصر، وما لله تعالى لله، صار كل ما لقيصر وما للناس وما للبلد طائفيًّا عنيدًا، عنيفًا مَريدًا، دمويًّا غبيًّا!
 
ولي هنا وقفات سريعة وقصيرة:
 
= = هذه الشخصيات المهزوزة المريبة التي تستميت في الدفاع عن البابا والكهنة والكنيسة، وما فعله متطرفوهم، من التهجم، والعنف المادي واللفظي، وسب الإسلام، والعدوان على الرموز، وفي الوقت ذاته يسبون الإسلام والمتدينين، ويخترعون حوادث ومواقف (زي الأفلام الهندية) يمارسها السلفيون والإخوان والمتدينون بشكل عام.. ويتكلمون بشكل قميء فج.. حتى يقول واحد منهم يحسب نفسه ذكيًّا (أنا مفيش بيني وبين النصراني فرق أبدًا، غير أن جدي أسلم.. معرفش ليه) الله يعظِّم أجر جدك فيك، ياللي ما تعرفش ليه!
 
وهؤلاء الذين يخترعون أشكالاً لتقبيح ألفاظ مثل وهابي وسلفي وإخواني وملتحٍ وغيرها، على أنها أمثلة للتخلف والعنف والقهر، وما عرف العنف والقهر إلا منهم ومن طرائقهم في التفكير والحوار والمعابثة.
 
لماذا هذا؟ لماذا تبيعون كل شيء بهذه الطريقة؟ أمن أجل منصب، أو وجاهة، أو ومضة فلاش أو دقائق أمام كاميرا!؟
 
لماذا التعب يا سادة؟ إذا لم تكن لكم حاجة بهذا الدين فاتركوه في أمان الشيطان، وعلقوا الصليب وخلصونا، أم ترون أن المصلحة توجب عليكم أن تتبعوا سياسة البين بين/ لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء/ لتمسكوا العصا من منتصفها، وتقوموا بموازناتكم، وتنفذوا أجنداتكم؟! والله ما هي برجولة ولا مروءة ولا دين، ولا وطنية!
 
= = السادة محترفو الردح و(التشليق) وسب الدين، واستدراج السذج والمندفعين من الدعاة، والشتم على الفضائيات، والمنابر الإعلامية، دون أن يستحوا من كونهم موصومين، أو متواطئين، أو مرفوضين من مجموع الأمة، مستغلين تمكنهم من نواصي الإعلام، وتحكمهم في تدفقه على النحو الذي يريدون، إلى متى ستبقى هذه المافيات الإعلامية، وبلطجية القنوات ذوات الأجندات!؟
 
= = حوادث العنف والتفجير التي نسبت للإسلاميين كانت من تدبير وزراء الداخلية المخلصين للجالس على العرش الملكي المباركي، وحمايته، قالت الوثائق هذا، وأظهرت الأحداث هذا، أما العنف الموجود الآن أمام ماسبيرو، وعند الكنائس، فليس من تدبير أمن دولة، ولا وزير داخلية، والمحرضون فيه ليسوا شبابًا مراهقين، ولا أفرادًا جهلة متعصبين، بل من كهنة كبار، أعلنوها صريحة، ونفذوها.. فما دلالات ذلك؟
 
وما موقف الحكومة (الضعيفة) منه؟
 
ومتى يبصر الكتبة المستأجرون والهتيفة السبابون، ومحترفو المتاجرة باسم الوطن!؟
 
= = لماذا التعامي عن مكتسبات الكنيسة، التي (لهفتها) بمباركةٍ، أو في غفلة من الدولة (بس عيني عينك) بينما كانت الأجهزة الأمنية تسوم المتدينين العذاب في السجون، التي شهد المصريون كلهم، بل العالم كله التعذيب فيها، وأدوات النكال!؟
 
لقد وصلتني اليوم صورة بليغة الدلالة من ابن كريم، يذكر فيها أحجام الأماكن المقدسة في مقابل الأديرة المسروقة في غفلة من الدولة، وتواطؤ من خائنيها مع البابا!
 
جاء في الصورة، إن صح ما بها، وأتمنى ألا يصح:
 
حجم الأزهر الشريف: 2.85 فدان/ المسجد النبوي: 25 فدانًا/ المسجد الأقصى: 34 فدانًا/ الحرم المكي 85 فدانًا.. هذه أكبر المساجد الإسلامية في العالم !
 
الفاتيكان الدولة: 108 فدادين وهي مقر الكاهن النصراني الكاثوليكي الأعظم.
 
ثم انظر خيبتنا القوية، وما منح لخمسة ملايين أو ستة من المصريين:
 
دير الأنبا توماس في الخطاطبة 220 فدانًا!/ دير الأنبا أنطونيوس في الزعفرانة بالبحر الأحمر: 318 فدانًا!/ دير أبي فانا في ملوي بالمنيا: 600 فدان!/ دير ماري مينا في برج العرب بالإسكندرية: 600 فدان!/ دير البراموس في وادي النطرون:880 فدانًا/ دير الأنبا بيشوي بوادي النطرون: 1428 فدانًا/ دير أبو مقار بوادي النطرون: 2700 فدان..
 
وبحسبة بسيطة نجد أن أصغر دير على الإطلاق من الأديرة المذكورة أكبر من كل الأماكن الإسلامية العظمى مجتمعة، أو ضعف حجمها.. في مكة والمدينة وبيت المقدس والقاهرة! كما يساوي ثلاثة أمثال دولة الفاتيكان أقوى دولة في العالم!
 
ويعني كذلك أن هناك (دولاً) قامت داخل مصر في شكل أديرة، بتواطئ كبير بين أطراف عديدة، في غفلة من الشعب المصري المسلم العتيد!
 
هذا بجانب الإقطاعيات والدول التي وُهبت لحيتان الأموال والرأسماليين المصريين الذين خربوها وطردوا أخيرًا من على تلها!
 
في حين لا يجد ملايين الشبان (شقة أودتين وصالة) تستر شبابهم، وتعفهم، وتشعرهم بالانتماء لمصر والإنسانية!
 
أنا والله لا أعيب على البابا فهو شاطر، ولا أعيب على كهنته، فهم يعملون لصالح كنيستهم، ولا أعيب حتى على المتطرفين منهم الذين يملؤون الدنيا صياحًا ولا وتهديدًا ودعوات بالويل والثبور وعظائم الأمور..
 
إنما يحترق قلبي من المتأقبطين، والمستنصرين، الذين يحملون أسماء أحمد ومحمد وعمر، ولولا الحياء لذهبوا للكنيسة واعترفوا للبابا بذنوبهم وقالوا.. بالروح والدوم نفديك يا بابا!
 
مرة ثانية أقولها:
 
يا جناتلة، يا نخبة، يا بهوات: إذا لم تكن لكم حاجة بهذا الدين فاتركوه في أمان الشيطان، واكشفوا عن أقنعتكم وهوياتكم، وبلاش سياسة البين بين/ لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء/ وإمساك العصا من منتصفها، والموازنات والأجندات..
 
فما هي والله برجولة ولا مروءة ولا دين، ولا وطنية!
وكفاكم إهانة لديننا وهويتنا وسبب عزتنا!

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين