شعلة نار د:عبد الحكيم الأنيس - الغليان العلمي
شعلة نار
بقلم الدكتور: عبد الحكيم الأنيس
الحمد لله رب العالمين،وصلى الله وسلم على سيدنا محمد الهادي الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: فإن تجديد "الموقع" هذا يصدر، وقد أغلقت المدارس والجامعات أبوابها، وبدأ موسم العطلة الصيفية التي تمتد ما شاء الله،ويتوجه الطلاب فيها إلى قضاء أيامهم ولياليهم بعيداً عن الكتاب والدفتر والقلم والامتحان...وبعبارة أخرى: يسترخون إلى متعة التعطيل بعيداً عن هم التحصيل... وكأنهم لم يُصَدِّقوا أنهم أفلتوا من هذا العذاب الأليم!.
بهذه الكلمات افتتح الأخ البحَّاثة المتفنِّن العالم المحقق الدكتور الشيخ عبد الحكيم الأنيس افتتاحية العدد الرابع عشر، جمادى الأولى 1424 من  مجلة (الأحمدية) التي تصدر عن دار البحوث للدراسات الإسلامية وإحياء التراث بدبي.
 وأحببنا بهذه المناسبة أن نتحف القراء بهذه المقالة النافعة ، وأن نجدِّد نشرها في هذا الموقع . قال حفظه الله تعالى متابعاً مقالته:
"وقد سرح فكري في حالنا وحال علمائنا في طلبهم للعلم من قبل فرأيت الفرق واسعاً والبون شاسعاً، فإنَّ أحدهم كان إذا سلك طريق العلم وذاق لذته انصرف إليه بكلِّه، وأعطاه وقته كله في الفصول الأربعة،ونجد في تاريخنا وصفاً رائعاً في تشخيص " الغليان العلمي" الذي كانوا عليه وهو قولهم في وصف عدد من العلماء أنهم كانوا "شعلة نار"، ولنا أن نتخيَّل إذاً كيف كان إقبالهم على العلم واشتغالهم به وانصرافهم إليه واحتراقهم بحبه، ثم لنا أن نلقي نظرة على ما حولنا لندرك بسهولة ما آل إليه أمر طلاب العلم، ولنفسر بسهولة أيضاً تخلفنا وانحطاطنا وسوء حالنا العملي، وتردِّي مستوى التحصيل والأداء.
ولعلَّ من المفيد أن أذكّر نفسي وإخواني القراء من الطلاب وغيرهم بذكر هؤلاء العلماء النبغاء المتوقدين ذكاءً ودأباً وحركة، المسابقين للزمن على سرعة مروره وانقضائه، الذين تنير فينا سيرهم الهمَّة والنشاط والتوقُّد، وتفتح أعيننا على صور جميلة محفزة:
1.فمنهم الإمام الحافظ الحجة النسابة محدِّث الديار المصرية أبو محمد عبد الغني بن سعيد الأزدي المصري(332ـ409هـ).
رآه الإمام أبو الحسن الدار قطني البغدادي (306ـ385هـ) في رحلته إلى مصر، فلما عاد إلى بغداد سأله الإمام الحافظ الفقيه أبو بكر أحمد بن محمد البَرْقاني(336ـ425هـ): هل رأيت في طريقك من يفهم شيئاً من العلم؟ قال: ما رأيت في طول طريقي إلا شاباً بمصر يقال له عبد الغني، كأنه شعلة نار، وجعل يُفخِّم أمره، ويرفع ذكره.
وحين دخل البَرْقاني مصر سمع منه.
وقد كانت رحلة الدار قطني إلى مصر في كهولته، وعبد الغني في شبابه، فكانت فرصة ذهبية له، فأقبل عليه واستفاد منه أشياء كثيرة، وحظي بثقته.
قال أبو الفتح منصور بن علي الطرسوسي: أراد الدار قطني الخروج من عندنا من مصر، فخرجنا معه نودِّعه، فلما ودعناه بكينا، فقال لنا: تبكون وعندكم عبد الغني بن سعيد وفيه الخلف؟
ومن العجيب أن الشيخ الكبير سمع كتاباً من تأليف هذا التلميذ النابه.
يقول عبد الغني: ابتدأت بعمل كتاب " المؤتلف والمختلف" فقدم علينا الدار قطني، فأخذت عنه أشياء كثيرة، فلما فرغت من تصنيفه، سألني أن أقرأه عليه ليسمعه مني، فقلت: عنك أخذت أكثره، قال: لا تقل هكذا، فإنك أخذته عني مُفرَّقاً، وقد أوردته فيه مجموعاً، وفيه أشياء كثيرة أخذتها عن شيوخك، قال: فقرأته عليه!.
وفي هذا الخبر دروس تربوية مهمة، منها: تواضع العلماء، وحبهم للعلم وحرصهم على الازدياد منه أينما وجدوه، وتشجيعهم لطلابهم ورفع معنوياتهم، وتلقينهم أدب النفس عملياً، وسيأتي معنا في المثال الثاني أن الحافظ عبد الغني فعل مع أحد تلاميذه ما فعله معه شيخه الدار قطني، فقد حدَّث عنه وكتب عنه أشياء في تصانيفه...وكذلك فعل البرقاني تلميذ الدار قطني، مع تلميذه الخطيب البغدادي:قال الذهبي:" ومن همَّته أنه سمع من تلميذه أبي بكر الخطيب، وحدّث عنه في حياته... قال الخطيب: كنت كثيراً أذاكره بالأحاديث فيكتبها عني، ويضمنها جموعه".
2ـ ومنهم الإمام الحافظ البارع الأوحد الحجَّة أبو عبد الله محمد بن علي الصُّوري ثم البغدادي(376ـ441هـ).
كان من أئمة السنة الأعلام، وله شعر رائق، وعنه أخذ الإمام الخطيب البغدادي (ت:463هـ) علمَ الحديث، وممَّن حدَّث عنه شيخه الحافظ عبد الغني الأزدي السابق الذكر، وكتب عنه أشياء في تصانيفه، وصرَّح باسمه في بعضها، ومرة يقول: حدثني الورد بن علي.
وهذه مفخرة كبيرة للصُوري، ولا غرابة فقد قال عنه عبد المحسن الشيحي التاجر: ما رأيت مثل الصوري! كان كأنه شعلة نار، بلسان كالحسام القاطع.
3ـ ومنهم الشيخ الإمام الحافظ الثقة المسند محدث أصبهان، أبو سعد أحمد بن محمد البغدادي الأصل، الأصبهاني(463ـ540هـ).
ارتحل إلى بغداد وله ست عشرة سنة وقد تنبَّه، فصادف الشيخ الصالح مسند الوقت أبا نصر العباسي الزينبي البغدادي قد مات (توفي سنة479هـ)، فمن حزنه على فَوْتِ الأخذِ عنه جعل يلطم على رأسه ويبكي، ويقول : من أين أجد عليَّ بن الجعد عن شعبة؟
قال عبد الله بن مرزوق الحافظ: أبو سعد بن البغدادي شعلة نار!.
وكان إلى علمه حُلو الشمائل، له أخلاق لطيفة ومحاسن جميلة. قال الإمام السمعاني: استمليتُ عليه بمكة والمدينة، وكتب عني، قال لي مرةً: أوقفتك، واعتذر، فقلت: يا سيدي، الوقوف على باب المحدِّث عزٌ، فقال: لك بهذه الكلمة إسنادٌ؟ قلت: لا قال: أنتَ إسنادُها.
وفي قول السمعاني: " كتب عني" ما يؤكد هذه الخصلة النبيلة، والخلة الجليلة التي تُبيِّن قيمة العلم وارتباطها التام بقيمة الخلق في حضارة الإسلام.
وفي قول السمعاني أيضاً: " يا سيدي الوقوف على باب المحدِّث عز" أدب رفيع يفيض ويزخر بسموِّ تلك النفوس الطاهرة العظيمة.
ومنهم الإمام العلامة المحدِّث الحافظ المفتي، شيخ الإسلام أبو طاهر أحمد بن محمد السلَفي الأصبهاني(475ـ576هـ).
ارتحل في طلب العلم، وله أقل من عشرين سنة، ولم يعد إلى بلده بعد ذلك، فدخل بغداد ثم بلاداً كثيرة أخرى، وبقي في الرحلة ثمانية عشر عاماً، يكتب الحديث والفقه والأدب والشعر، ثم استوطن ثغر الإسكندرية بضعاً وستين سنة، وإلى أن مات ينشر العلم، ويحصّل الكتب التي قلَّ ما اجتمع لعالمٍ مثلها في الدنيا، وارتحل إليه خلقٌ كثير جداً، من المشرق والمغرب، ومنهم السلطان صلاح الدين الأيوبي، وإخوته وأمراؤه فسمعوا الحديث منه.
هذا الإمام الكبير قال عنه محدث بغداد أبو الفضل ابن ناصر السلامي(ت:550هـ): كان ببغداد كأنه شعلة نار في تحصيل الحديث.
ومنهم الإمام العلامة الحافظ الكبير المجوِّد، محدِّث الشام، ثقة الدين، أبو القاسم ابن عساكر الدمشقي الشافعي صاحب" تاريخ دمشق" (499ـ571هـ).
رحل في طلب العلم إلى بلاد كثيرة،وعدد شيوخه الذي في " معجمه" (1300) شيخ بالسماع، و(46)شيخاً أنشدوه،وعن (290)شيخاً بالإجازة،كما أخذ عن بضع وثمانين امرأة لهنَّ" معجم" كذلك!.
قال الذهبي: " صنف الكثير، وكان فهماً حافظاً متقناً ذكياً بصيراً بهذا الشأن، لا يُلحق شأوه، ولا يُشقَّ غباره، ولا كان له نظير في زمانه".
وقال عنه الإمام الحافظ أبو العلاء الحسن بن أحمد الهمذاني (488ـ569هـ): " ما كان يُسمَّى أبو القاسم ببغداد إلا شعلة نار من توقُّده، وذكائه وحُسْن إدراكه".
وهذا التوقُّد والذكاء وحُسن الإدراك أنتج آثاراً علمية خالدة، وحسبه منها كتابه الكبير: "تاريخ دمشق" المطبوع في (70)مجلداً ـ على نقص فيها!.
6ـ ومنهم الإمام المقرئ الفقيه الأديب الصالح أبو عبد الله محمد بن أحمد الموصلي الحنبلي الملقب بـ"شعلة" (623ـ656هـ).
وصفه ابن الجزري بقوله:" إمام ناقل، وأستاذ عارف كامل، وصالح زاهد... قرأ القراءآت صغيراً على علي بن عبد العزيز الإربلي(ت:688هـ)، ثم سمع منه شيخه المذكور تصانفيه!" وفي هذا دلالات لا تخفى على فضل الشيخ والتلميذ، وفضل هذه التصانيف.
قال الذهبي:" كان شاباً فاضلاً، ومُقرئاً محققاً، ذا ذكاء مُفْرط،وفهم ثاقب، ومعرفة تامة بالعربية واللغة، وشعره في غاية الجودة، نظم في الفقه والتاريخ وغيره، وكان مع فَرْط ذكائه صالحاً زاهداً متواضعاً".
قلت: ويبدو أنه لما ذُكر من ذكائه ورفعة همَّته واشتغاله لُقِّب بـ" شعلة"،ولم يعش سوى ثلاث وثلاثين سنة!.
ومن تصانيفه:
ـ كنز المعاني في شرح حرز الأماني " الشاطبية".ط
ـ صفوة الراسخ في علم المنسوخ والناسخ.ط
ومنهم الإمام العلامة المفنن القاضي محمد بن محمد الحكمي الأندلسي الغرناطي المالكي (806ـ840هـ).
قدم القاهرة سنة (836هـ)، وأخذ عن الحافظ ابن حجر العسقلاني(ت:852هـ)، وظهرت له فضائله، فنوّه به عند السلطان الأشرف برسباي الدقماقي الظاهري صاحب مصر(ت:841هـ)،حتى ولاه في سنة (837هـ)، قضاء المالكية بمدينة " حماة" في بلاد الشام، فحُمدت سيرته جداً، وسار سيرة السلف الصالح، ودخل القدس وحلب ثم سافر إلى بلاد الروم فمات بـ"بُرْصَا".
وقد وصفه مُحدِّث حلب البرهان سبط ابن العجمي (ت:841هـ)بـ الشيخ الإمام العالم العلامة ذي الفنون قاضي الجماعة".
وقال:" إنه إنسان حسن، إمام في علومٍ منها: الفقه والنحو وأصول الدين وغير ذلك، نظيف اللسان، مُعظّم للائمة وأهل العلم والخير، مُسْتَحضر للتاريخ ولعلومٍ، كأنه بين عينيه، مع التؤدة والسكون، وشبع النفس". وهذه أوصاف جميلة رفيعة جدير بطالب العلم الاتصاف بها.
ووصفه ابن حجر بأنه" كان شعلة نار في الذكاء،كثير الاستحضار، عارفاً بعدَّة علوم خصوصاً العربية" قال: " وقد قرأ في علوم الحديث وكان حسن الفهم". ولا ننسى أنه لم يتجاوز الرابعة والثلاثين من العمر.
وبعد:
فهذه شذرات من سير هؤلاء الأئمة الأعلام ـ رحمهم الله تعالى وجزاهم عن الإسلام والمسلمين خيراً ـ وهي شذرات تُغذِّي القلب والعقل والروح، وتنهض بالهمَّة، وتقدح العزيمة، وتبصر المتأمل فيها بمسالك الخير ومواقع الرشد.
والذي يجمع بين هؤلاء الأعلام هذا الوصف الجميل " شعلة نار" الذي أرجو أن يعود إلى صفوف طلابنا مرة أخرى.
وعلى من أراد الدنيا ومن أراد الآخرة أن يقتدي بهؤلاء،ويشتعل كاشتعالهم، ليرى ما يُثمر هذا الاشتعال من ثمار غالية في التعليم والتأليف والسلوك.
لقد عشعش الكسل في نفوس طلابنا، وأصاب الشلل هممهم وعزائمهم،ونال الزهد في معالي الأمور من قلوبهم، وأصابهم التهاون، والتقاعس في مقاتلهم، وقلَّ النبوغ، وعزَّ الإبداع، والله المرجو أن يطرد بأنور لطفه ظلمات جهلنا، وأن يداوي بنفحات برِّه أمراض نفوسنا، وأن يُنبِّهنا من رَقَدات غفلاتنا، ويعيدنا إلى باب رحمته وكرامته، وأن يُعزِّنا بخدمة دينه وعلوم دينه.
إنه أكرم مسؤول وأرحم مأمول.
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد معلِّم الناس الخير، وعلى آله وصحبه وحزبه.
د: عبد الحكيم الأنيس

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين