حدث في السابع والعشرين من رمضان
في السابع والعشرين من رمضان من سنة 1037 ختمَ صحيحَ البخاري في الجامع الأموي بدمشق الإمامُ الأديب المحدث أبو العباس أحمد بن محمد المقَّرِي التلمساني، وحضر يوم الختم ألوف من الناس، وأُتى للمقري بكرسي الوعظ فصعد عليه وتكلم بكلام في العقائد والحديث لم يسمع نظيره أبدا، وتكلم على ترجمة البخاري وأنشد له بيتين، وأفاد أن ليس للبخاري غيرهما وهما
اغتنم في الفراغ فضل ركوع ... فعسى أن يكون موتك بغته
كم صحيح قد مات قبل سقيم ... ذهبت نفسه النفيسة فلته
ثم ختم الدرس بأبيات قالها المقَّري عند مغادرته المدينة المنورة في وداع المصطفى صلى الله عليه وسلم وهي قوله:
يا شفيع العصاة أنت رجائي ... كيف يخشى الرجاءُ عندك خيبه؟
وإذا كنت حاضراً بفؤادي ... غيبةُ الجسم عنك ليست بغيبه
ليس بالعيش في البلاد انقطاع ... أطيب العيش ما يكون بطيبه
وكانت الجلسة من طلوع الشمس إلى قريب الظهر، ونزل عن الكرسي فانثالت الناس عليه تقبل يده وتعترف بفضله.
ولد شهاب الدين أبو العباس المقري سنة 986 بمدينة تلمسان، وأصل أسرته من قرية مَقَّرة، وارتحل جده الخامس إلى تلمسان واستوطنها، وولد بها أبو العباس وأبوه وجده وجد جده، وعرفت أسرته بالعلم والفضل والتقوى.
حفظ أبو العباس القرآن الكريم بتلمسان وهو يافع، وتعلم بها على عمه الشيخ سعيد المقري، وكان مفتى تلمسان ستين سنة، ومن جملة ما قرأ عليه صحيح البخارى سبع مرات، وروى عنه الكتب الستة بسندها إلى القاضي عياض.
ثم رحل إلى مدينة فاس سنة 1009 ليطلب العلم على شيوخها، ودرس فيها على الفقيه إبراهيم بن محمد الآيسي أحد قواد السلطان أحمد المنصور الذهبي، فأعجب بالمقري الشاب واصطحبه معه إلى مراكش وقدمه إلى السلطان، وهناك التقى بالمؤرخ أبي العباس ابن القاضي، أحمد بن محمد بن محمد بن أبي العافية المكناسي الزناتي، المتوفى سنة 1025 عن 65 عاماً، والتقى كذلك بعالم من تنكبت - وهي مالي اليوم - وهو أحمد بابا التنبكتي التكروري صاحب نيل الابتهاج بتطريز الديباج في تراجم المالكية، والمتوفى سنة 1036 عن 73 عاماً، وبغيرهما من علماء مراكش وأدبائها.
رجع المقري إلى تلمسان آخر سنة 1010، وفي نيته أن يكتب عن رحلته، فباشر في كتابة كتابه روضة الآس ليقدمه إلى السلطان المنصور، ولكن السلطان توفي سنة 1012 والمقري ما يزال في تلمسان.
وضاقت تلمسان بطموح العالم الشاب وألمعيته، فترك تلمسان وعاد إلى فاس سنة 1013 وأقام فيها حوالي خمسة عشر عاماً تولى فيها أمور الإمامة والفتوى والخطابة وغيرها، وأصبح في هذه الفترة من وجوه علمائها.
يقول الدكتور إحسان عباس رحمه الله في مقدمته لكتاب أبي المقري نفح الطيب: ولكن اضطراب الأحوال بعد وفاة المنصور الذهبي وصراع أبنائه على الحكم، وتعرُّض مدينة فاس نفسها لأعمال المد والجزر في تلك الظروف المتقلبة، كل ذلك لم يكن يكفل للقاطنين فيها شيئاً من الهدوء؛ ولم تكن بلاد المغرب حينئذ فريسة للأطماع الداخلية وحسب، بل تعرضت لغزوات الأسبان والبرتغاليين، وفي سنة 1016 كان المقري يشهد - عن كثب - انقطاع آخر صلة للعرب ببلاد الأندلس حين تفرقت الجالية الأندلسية تطلب لها مأوى في سلا وتونس وغيرهما من البلاد المغربية؛ وبعد ذلك بثلاث سنوات كان الأسبان يستولون على مدينة العرائش في المغرب بمواطأة الشيخ المأمون أحد أبناء المنصور.
وترقت الأمور بالمقري في فاس وأصبح مفتيها بعد وفاة شيخه محمد الهواري في سنة 1022، ثم رغب في الرحلة إلى المشرق وأداء فريضة الحج، فبدأ في أواخر رمضان سنة 1027 رحلة لن يعود بعدها إلى المغرب، ولما وقف بين يدي السلطان يستأذنه في الرحيل للحج، أنشده المقري قول علي بن عبد العزيز الحضرمي:
محبتي تقتضى مُقامي ... وحالتي تقتضى الرحيلا
فأجابه السلطان بقوله
لا أوحش الله منك قوما ... تعودوا سَمْتَك الجميلا
ولما عرف العلماء نية المقري في الرحيل كتب إليه الفقيه الكاتب أبو الحسن علي الخزركي الفاسي الشهير بالشاحي بما كتبه أبو جعفر أحمد بن خاتمة المري المغربي إلى بعض أشياخه:
أشمسَ الغرب حقاً ما سمعنا ... بأنك قد سئمت من الإقامه؟
وإنك قد عزمت على طلوع ... إلى شرق سموت به علامه
لقد زلزلت منا كل قلب ... بحق الله لا تُقِمِ القيامه
وقادته رحلته إلى ميناء تطوان فركب البحر إلى تونس وسوسة ثم الإسكندرية، ومنها إلى القاهرة فالحجاز بحراً، فوصل مكة في ذي القعدة من عام  1028، وبعد أدائه لفريضة الحج توجه إلى المدينة لزيارة قبر الرسول صلى الله عليه وسلم ثم عاد إلى القاهرة بعد أداء الحج، وتزوج بها سيدة تنتسب إلى السادة الوفائية، ومن القاهرة توجه المقري لزيارة بيت المقدس في سنة 1029 ثم عاد إلى القاهرة، وألقى عصا الترحال وقرر الاستقرار بها، ويبدو أن المقري واجه في مصر إملاقاً وفقراً، ولم يعرف له علماؤها قدره، فلم تكن إقامته فيها بالمريحة، وسئل مرة عن حظه بها فقال: قد دخلها قبلنا ابن الحاجب وأنشد فيها قوله
يا أهل مصر وجدت أيديكم ... في بذلها بالسخاء منقبضه
لمّا عدمتُ القِرى بأرضكم ... أكلتُ كتبي كأنني أَرَضَه!
ثم أنشد هو لنفسه
تركتُ رسوم عزِّي في بلادى ... وصرت بمصر منسيَ الرسومِ
ونفسى عِفتُها بالذل فيها ... وقلت لها عن العلياء صومى
ولى عزم كحد السيف ماض ... ولكن الليالي من خصومى
وأخذ المقري يتردد من مصر إلى مكة والمدينة حتى كان في عام 1037 قد زار مكة خمس مرات والمدينة سبع مرات، قال رحمه الله في نفح الطيب: وحصلت لي بالمجاورة في مكة المسرات، وأمليت فيها على قصد التبرك دروساً عديدة، والله يحيل أيام العمر بالعود إليها مديدة، ووفدت على طيبة المعظمة ميمماً مناهجها السديدة سبع مرار، وأطفأت بالعود إليها ما بالأكباد الحرار، واستضاءت تلك الأنوار، وألَّفت بحضرته صلى الله عليه وسلم بعض ما مَنَّ الله به عليَّ في ذلك الجوار، وأمليت الحديث النبوي بمرأى منه عليه الصلاة والسلام ومسمع... ثم أُبتُ إلى مصر مفوضاً لله جميع الأمور، ملازماً خدمة العلم الشريف بالأزهر المعمور، وكان عودي من الحجة الخامسة بصفر سنة 1037 للهجرة.
ولم تطل إقامته بالقاهرة، فبعد قرابة خمسة أشهر توجه في رجب سنة 1037 إلى بيت المقدس، وأقام فيه نحو خمسة وعشرين يوماً، وألقى عدة دروس بمسجدي الأقصى والصخرة، وزار مقام إبراهيم الخليل ومزارات أخرى؛ ثم توجه إلى دمشق في شعبان ونزل على من بها من المغاربة على عادة طلبة العلم، فأنزلوه في مكان غير مناسب لم يرتح إليه، وكان يرغب أن تكون إقامته قرب الجامع الأموي، وسمع بقدومه الأديب أحمد بن شاهين فأرسل إليه مفتاح المدرسة الجقمقية لينزل بها، وكتب مع المفتاح هذه الأبيات
كَنَفُ المقَّريِّ شيخي مَقَري ... وإليه من الزمان مَفري
كنفٌ مثل صدره في اتساع ... وعلوم كالدر في ضمن بحر
أي بدر قد أطلع الدهر منه ... ملأ الشرق نوره أي بدر
أحمد سيدي وشيخي وذخري ... وسميي وذاك أشرف فخري
لو بغير الأقدام يسعى مشوق ... جئته زائرا على وجه شكري
فأجابه المقري
أي نظمٍ في حسنه حار فكري ... وتحلى بدُرِّه صدرُ ذكري
طائرُ الصيت لابن شاهين ينمى ... من بروض الندى له خير ذكر
أحمد الممتطين ذروة مجد ... لعَوان من المعالي وبِكر
حلَّ مفتاح فضله بابَ وصل ... من معاني تعريفه دون نُكر
يا بديع الزمان دم في ازدياد ... بالعلى وازدياد تجنيس شكر
ولما دخل إلى المدرسة الجمقمقية أعجبته فنقل أسبابه إليها واستوطنها مدة أقامته، ولقي المقري من علماء دمشق وأهلها خير استقبال وأكرم ضيافة فأحبهم وأحبوه، ولم يتفق لغيره من العلماء الواردين إلى دمشق ما اتفق له من الحظوة وإقبال الناس، فقد أكرموه بما هو أهله حين صدَّروه لإلقاء الدرس بعد ختم صحيح البخاري في رمضان من سنة 1037.
وتقليدُ قراءة البخاري في مجالس العلماء هو أمر قديم لأهمية هذا الكتاب من كتب الحديث، ولم يكن من المستغرب أن يحتفل الناس بختم قراءته والتبرك بذلك، فمجالس العلم تحفها الملائكة، ولكن هذا التقليد تحول إلى اعتقاد بأن قراءة صحيح البخاري تدفع كيد الأعداء وترد المعتدين، ولعل أول ذكر لقيام المسلمين بذلك هو في سنة 680 عندما اجتمع أهل حلب وختموا صحيح البخاري في مسجدها على نيِّة صرف اعتداء المغول عليهم، ونجد بعد هذه السنة تكراراً لهذا الأمر في مناسبات مشابهة، حتى كان في الجيش العثماني مبالغ مخصصة للفقهاء لقراءة صحيح البخاري بنية النصر!
لم تطل إقامة المقري بدمشق، بل كانت دون الأربعين يوماً، فقد خلف في مصر زوجته، وعندما اعتزم العودة إلى مصر، خرج جمهور كبير من علماء دمشق وأعيانها لوداعه، وقال أحمد بن شاهين قصيدة في ذلك:
حنانيك إنّ الدمع بالودّ مُعرِبُ ... وإنّي في شرقٍ وأنت مُغرِّبُ
ووعدُك لي بالعود إنّي معلِّلٌ ... به مهجةً قد أوشكت تتصوّب
وهبتُك قلبي ما حييت ولم أقل ... "ولكن من الأشياء ما ليس يوهب"
وقلنا دمشقٌ أنت فيها محكّمٌ ... وأشرافها ودّوا وجَدّوا ورحّبوا
وأنت لها روحٌ ومولى ومفخرٌ ... وقد زنت شرقاً مثل ما ازدان مغرب
هو الشيخ شيخ الدهر أحمد من غدت ... دمشق ومن فيها بعلياه تخطب
هو المقّريّ العالم العَلَم الذي ... إليه تناهى الفضل والمجد ينسب
وما هو إلا الشمس أزمع رحلةً ... وإنّا لفي ليلٍ إذا هي تغرب
وفي طريقه إلى مصر مر المقري بمدينة غزة، فاستضافه فيها الرئيس الكبير محمد بن أحمد بن يحيى المعروف بابن الغُصين الغزي، والمتوفى بغزة سنة 1062، وكان رئيساً جليل القدر واسع الكرم لم يصل إلى غزة أحد من الواردين عليها إلا وبادر إلى استضافته، وحمل إليه ما يليق بحاله، وتقرب إلى قلبه بكل طريق، وبالخصوص أهل العلم والأدب، فقال فيه أبو العباس أحمد المقري:
يا سائلي عن غزةٍ ... ومن بها من الأنام
أجبتُهم مرتجلا ... ابن الغصين، والسلام
عاد المقري إلى مصر رغم إعجابه بدمشق وأهلها، ولكنه لم يمكث طويلاً فقد شدته دمشق فعاد إليها في سنة 1040، وحصل له من الإكرام ما حصل في قدمته الأولى وحين فارقها أنشد قوله
إنْ شامَ قلبي عنكِ بارقُ سلوة ... يا شام كنت كمن يخون ويغدر
كم راحلٍ عنها لفرط ضرورة ... وعلى القرار بغيرها لا يقدر
متصاعد الزفرات مكلوم الحشا ... والدمع من أجفانه يتحدر
وعاد المقري إلى مصر بنية ترتيب أموره والعودة إلى دمشق للاستقرار بها، وكان قد رُزق بنتاً من زوجته الوفائية، ثم توفيت البنت عام 1038، ويبدو أن العلاقة بينه وبين زوجته لم تكن تتسم بالوفاق، مما زاد من تنغيص حياته بمصر، فطلقها في سنة 1041 وهو  يزمع الهجرة من مصر، فوافته منيته في جمادى الآخرة من سنة 1041.
لم ينس المقري في حله وترحاله بلاده ومغاني صباه، ولم يسله عنها ما أغدق عليه من المودة أهلُ دمشق وعلماؤها وكبارها، وهو يصرح بذلك في كتابه نفح الطيب عندما أورد قصيدة نونية مدح بها الأديب الشاعر عبد العزيز القشتالي السلطان المنصور أحمد أبا العباس الذي بدأ المقري حياته العلمية في كنفه في فاس، قال المقري رحمه الله: وقد رأيت أن أسرد هنا هذه القصيدة الفريدة، لبلاغتها التي بذت شعراء اليتيمة والخريدة، ولأن شجون الحديث الذي جرَّ إليها، شوَّقني إلى معاهدي المغربية التي أُكثِرُ البكاء عليها، سقى الله تعالى عِهَادها صَوْب الغمام، حيث الشباب غض يانع، والمؤمَّل لم يحجبه مانع، والسلطان عارف بالحقوق، والزمان وهو أبو الورى لم يُشَبْ برُّه بالعقوق، والليالي مسالمة غير رامية من البَين بنبال، والغربة الجالبة للكربة لم تخطر ببال، ورؤساء الدولة الحسنية السنية ساعون فيما يوافق الغرض ويلائم، والأيام ثغورها بواسم، وأوقاتها أعياد ومواسم، وأفراح وولائم، فلِلَّه فيها عيشٌ ما نسيناه، وعِزٍّ طالما اقتبسنا نور الهدى من طورسيناه.
ثم أورد المقري بعد هذه القصيدة قصيدةً أخرى للقاضي الأديب أبي الفتح محمد بن عبد السلام، المغربي التونسي نزيل دمشق الشام، ووصف القصيدة بأنها: نفث مصدور غريب، وبث معذور أريب، فارق مثلي أوطانه وما سلاها، وقرأ آيات الشجو وتلاها، وتمنى أن يجود له الدهر برؤية مجتلاها.
ترك المقري رحمه الله تعالى عدداً من المؤلفات في العقيدة والفقه والأدب والتاريخ، وأشهرها كتب ثلاثة هي في التاريخ والتراجم:
روضة الآس العاطرة الأنفاس في ذكر من لقيته من أعلام الحضرتين مراكش وفاس، ألفه حوالي 1011 - 1012 ليقدمه إلى سلطان فاس أحمد المنصور الذهبي.
أزهار الرياض في أخبار عياض، ألفه أثناء إقامته بفاس 1013 – 1027
نفحُ الطِيبْ من غصن الأندلس الرطيب، وقد ألف المقري هذا الكتاب بطلب من أحبابه في دمشق، فقد حدثهم أثناء زيارته عن الوزير لسان الدين ابن الخطيب ومكانته السياسية والأدبية، فطالبه علماء دمشق بالكتابة عنه فاستجاب لذلك تحفزه محبته لهم وعرفانه بما غمروه من كرمهم، وتوسع رحمه الله في الكتاب واستفاض فصار تاريخاً للأندلس من خلال التأريخ للوزير لسان الدين، وقد استغرق تأليف الكتاب وجمعه سنتين، بدأ به في ذي القعدة من عام 1.37 وانتهى منه رحمه الله في آخر عام 1039.
وقد أكرمني الله بقراءة هذا الكتاب أكثر من مرة أرتع في رياضه وأتمتع بنفحاته وأتملى أخباره وأتأمل عبره وعبراته، في حل وترحال، أعيش مع أهل الأندلس في سرائهم وضرائهم ووحدتهم وفُرقتهم، يغالبون السُنن وهي تغلبهم، ويرومون النجاة واللُجج تغمرهم، مع أنهم لم يعدموا خبيراً ولم يعوزوا نذيراً، ولله الأمر من قبل ومن بعد.
وقد بدأ المقري الكتاب بخطبة ومقدمة تحفلان بحنين المقري إلى وطنه في المغرب الأقصى، وبيَّن فيه تفاصيل رحلته منه وما أعقبها من أسفار ومقام، ثم أفرد جزءاً خاصاً لدمشق الفيحاء وعلمائها وأهلها الذين لقي منهم كل تقدير وإجلال وإكرام، وقد ذكر في ثنايا كتابه أكثر من مرة الصلة والشبه بين دمشق الشام وغرناطة الأندلس، وأورد في المقدمة أشعار له ولغيره في التغني بدمشق، ومن محاسن شعره في حقها قوله
محاسن الشام جلَّت ... عن أن تقاس بحدِّ
لولا حمى الشرع قلنا ... ولم نقف عند حد
كأنها معجزات ... مقرونة بالتحدى
وقوله
قال لي ما تقول في الشام حَبرٌ ... شَامَ من بارق العُلى ما شامه
قلت ماذا أقول في وصف أرض ... هي في وجنة المحاسن شامه!
وقوله
قل لمن رام النوى عن وطن ... قولةً ليس بها من حرجِ
فرِّج الهمَّ بسُكنى جُلق ... إن في جلق باب الفرج
ثم ذكر أنه في مطارحاته ومذاكراته مع علماء وأدباء دمشق، كان يذكر لهم بعض أخبار الأندلس وأحوالها من خلال حديثه عن الوزير الخطيب، قال رحمه الله: فصرت أورد من بدائع بلغائها ما يجري على لساني، من الفيض الرحماني، وأسرد من كلام وزيرها لسان الدين بن الخطيب السلماني، صب الله عليه شآبيب رحماه وبلغه من رضوانه الأماني، ما تثيره المناسبة وتقتضيه، وتميل إليه الطباع السليمة وترتضيه، من النظم الجزل، في الجد والهزل، والإنشاء، الذي يدهش به ذاكرة الألباب إن شاء، وتصرفه في فنون البلاغة حالي الولاية والعزل، إذ هو - أعني لسان الدين - فارس النظم والنثر في ذلك العصر، والمنفرد بالسبق في تلك الميادين بأداة الحصر، وكيف لا ونظمه لم تستول على مثله أيدي الهصر، ونثره تزري صورته بالخريدة ودمية القصر.
فطلب مني المولى أحمد الشاهيني إذ ذاك، وهو الماجد المذكور، ذو السعي المشكور، أن أتصدى للتعريف بلسان الدين في مصنف يعرب عن بعض أحواله وأنبائه، وبدائعه وصنائعه ووقائعه مع ملوك عصره وعلمائه وأدبائه، ومفاخره التي قلد بها جيد الزمان ولبته، ومآثره التي أرَّج بها مسرى الشمال وهبته، وبعض ما له من النثار والنظام، والمؤلفات الكبار العظام، الرائقة للأبصار، الفائقة على كلام كثير من أهل الأمصار.
وأفرد الباب الخامس من كتابه لذكر محاسن دمشق واهلها، وذكر كذلك ما جرى بينه وبين أدبائها وعلمائها من مطارحات ومراسلات، فمن ذلك أن المقري كان في دعوة لبعض الأعيان وكان المفتى عبد الرحمن العمادي وأحمد بن شاهين في صحبته في تلك الدعوة فمسَّ ثلجاً وقال: ألماسٌ هذا؟ فأنشد الشاهينى مرتجلا
شيخنا المقَّرى وهو الناسُ ... والذي بالأنام ليس يقاسُ
مسَّ ثلجاً وقال: ألماسٌ هذا؟ ... قلتُ: ألماسُّ عندنا ألـمْاسُ
وإضافة إلى أحمد بن شاهين الذي كان له قصب السبق في استضافة المقري في دمشق، توطدت العلاقة بين المقري وبين عدد من أعلام علماء دمشق وعلى رأسهم مفتيها وابن مفتيها الإمام عبد الرحمن بن محمد العمادي الحنفي الدمشقي، أحد أفراد الدهر وأعيان العلم وأعلام الفضل، والمتوفى سنة 1051 عن 73 عاماً، وكان بينه وبين المقري مسامرات ومساجلات في الحل ومراسلات في الترحال.
وممن لازم الشيخ المقري في مُقامه بدمشق الأديب الفاضل يحيى بن أبي الصفا بن أحمد المعروف بابن محاسن، وكان أحسن آل بيته فضلاً وكمالاً وأبرعهم استيلاء على المعارف واشتمالا، لزم الشيخ المقري لزوم الظل للشبح وأخذ عنه غرائب الظرف والملح، وكتب بخطه مجموعاً ذكر فيه كثيراً من أقوال شيخه، وتوفي رحمه الله في سنة 1053.
واستفاد عدد من علماء دمشق من وجود الشيخ أبي العباس المقري فاستجازوه بمروياته في الحديث الشريف فأجازهم، وهم من كبراء علمائها مما يدل على مكانته ومنزلته، ونستعرض أسماء بعض هؤلاء السادة العلماء الذين لا تزال عائلاتهم معروفة في دمشق، فمنهم محمد بن أحمد الأسطواني الدمشقي الحنفي الفقيه الواعظ الأخباري، المتوفى سنة 1072 عن 56 عاماً، ودفن بمقبرة الفراديس، ومحمد بن تاج الدين بن أحمد المحاسني الدمشقي الحنفي الخطيب بجامع دمشق، والمتوفى سنة 1072 عن 60 عاما، وابن المفتي إبراهيم بن عبد الرحمن بن محمد العمادي الدمشقي الحنفي، المتوفى سنة 1078 عن 71 عاماً، والمدفون بمقبرة باب الصغير، الأمير منجك بن محمد بن منجك بن أبي بكر بن عبد القادر بن إبراهيم بن محمد ابن إبراهيم بن منجك الكبير اليوسفي الدمشقي، المتوفى في سنة 1080 عن 73 سنة، والسيد حسين بن كمال ابن حمزة نقيب الشام وعلامة العلماء الأعلام الحسيني وأخيه محمد، وتوفي السيد حسين سنة 1085 عن 61 عاماً، ومحمد بن علي بن سعد الدين بن رجب بن علوان المعروف بالمكتبي الدمشقي الخطيب المكتبي الشافعي، المتوفى سنة 1096 عن 76 عاماً.
وكان في دمشق شيخ يدعى جمال الدين بن مجد الدين ويعرف بالجنيد، وتوفي سنة 1078، وكان مشهوراً بشراهته وأكله الكثير، وحضر ليلة في دعوة كان فيها أبو العباس المقرى وأحمد بن شاهين، فلما قُدِّم الطعام قام الجنيد وتوضأ وصلى بعض ركعات فقال المقرى ممازحاً ومستجيزا
قام الجنيد يصلي ... ونحن نأكل عنه
فبادر ابن شاهين فأجابه
تقبل الله منا ... ولا تقبل منه!
رحمهم الله جميعاً

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين