حدث في السادس والعشرين من رمضان
في السادس والعشرين من رمضان من سنة 542 توفي في بغداد، عن 92 عاماً، الإمام النحوي الشريف أبو السعادات هبة الله بن علي، المعروف بابن الشَجَري، أحد أئمة اللغة والادب وأحوال العرب، كان أوحد زمانه وفرد أوانه في علم العربية ومعرفة اللغة وأشعار العرب وأيامها وأحوالها، متضلعا من الأدب كامل الفضل.
ولد ببغداد لأسرة تنتمي إلى جعفر بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، وكان نقيب الطالبيين بالكرخ، قال ياقوت الحموي: الشجري نسبة إلى شجرة وهي قرية من أعمال المدينة المنورة منها أهل أمه. وقال السيوطي في لب اللباب في تحرير الأنساب: أما ابن الشجري النحوي: فإلى شجرة كانت في دارهم ليس في البلد غيرها.
أخذ اللغة عن الشريف يحيى بن محمد ابن طباطبا العلوي الحسني المتوفى سنة 478 وغيره، وقرأ الحديث متأخراً بنفسه على جماعةٍ مثل المحدث أبي الحسين ابن الطيوري، المبارك بن عبد الجبار الصَيرفي المتوفى سنة 500، وأبي علي محمد بن سعيد بن سهلٍ الكاتب. 
وكان فصيحاً، حلو الكلام، حسن البيان والإفهام، درّس الأدبَ طول عمره، وكثر تلامذته، وطال عمره ومُتِّع بجوارحه إلى أن مات، وكان حسن الخلق، رفيقا.
قال تلميذه كمال الدين عبد الرحمن بن محمد الأنباري، المتوفى سنة 577، في كتابه نزهة الألِبَّاء في طبقات الأدباء: كان أبو السعادات شيخنا فريدَ عصره، ووحيد دهره في علم النحو، أنحى من رأينا، وآخر من شاهدنا من حذاقهم وأكابرهم، وعنه أخذت النحو، وكان تام المعرفة باللغة، وصنف وأملى كتاب الأمالي، وهو كتاب نفيس يشتمل على فنون، وكان فصيحاً، حلو الكلام، وقوراً ذا سمت، لا يكاد يتكلم في مجلسه بكلمة إلا وتتضمن أدب نفس أو أدب درس، ولقد اختصم إليه علويان، فقال أحدهما: قال لي كذا وكذا، فقال له: يا بني احتمِل، فإن الاحتمال قبر المعايب. قال ابن الأنباري: وهذه كلمة حسنة نافعة، فإن كثيراً من الناس تكون لهم عيوب، فيُغْضُون عن عيوب الناس، ويسكتون عنها، فتذهب عيوب لهم كانت فيهم، وكثير من الناس يتعرضون لعيوب الناس، فتصير لهم عيوب لم تكن فيهم.
وذكر الأنباري، مهدياً إيانا لمحة من أدب العلماء، أن العلامة أبا القاسم الزمخشري، محمود بن عمر المتوفى سنة 538، لما قدِم بغداد قاصدِ الحجّ في بعض أسفاره مضى إلى زيارة شيخنا أبي السعادات بن الشَّجَريّ ومضينا إليه معه، فلمّا اجتمع به أنشده قول المتنبّي:
وأستكبِرُ الأخبارَ قبل لقائه ... فلما التقينا صَغّرَ الخَبرَ الخُبرُ
ثم أنشده بعد ذلك:
كانت مُساءَلة الرّكبان تُخبِرني ... عن جعفر بن فلاح أحسن الخبرِ
ثم التقينا فلا والله ما سمعَت ... أُذني بأحسنَ ممّا قد رأى بَصَري
ثم أخذ يثني عليه، فلم ينطق الزمخشري حتى فرغ ابن الشجري من كلامه، فلما أتمَّ كلامه شكرَ الزمخشريُ الشريفَ وعظّمه، وتصاغر له، ثم قال: إن زيد الخيل دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما بصُرَ بالنبي صلى الله عليه وسلم رفع صوته بالشهادتين، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: يا زيد الخيل، كل رجل وُصِفَ لي وجدتُه دون الصفة إلا أنت، فإنك فوق ما وصفت. وكذلك سيدنا الشريف، ثم دعا له وأثنى عليه. قال: فخرجنا من عنده ونحن نعجب كيف يستشهد الشريف بالشعر والزمخشري بالحديث وهو رجل أعجمي.
وكان يجلس يوم الجمعة بجامع المنصور مكان ثعلب ناحية الرباط يُقرأ عليه، وقال نقيب نقباء الأشراف طراد بن محمد الزينبي - نسبةً إلى زينب بنت سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس - وقد حضر عنده مع جماعة من الهاشميين والعلويين: يا شريفُ ما وُرِّخَ عن علويّ أنه كان له حلقة في جامع المنصور يدرّس فيها إلاّ لك.
ترك ابن الشجري مؤلفات قيّمة منها الأمالي، والحماسة ضاهى به حماسة أبي تمام، وديوان مختارات الشعراء، وكتاب ما اتفق لفظه واختلف معناه، وشرح اللمع لابن جني وشرح التصريف الملوكي.
ويعد كتاب الأمالي أكبر تآليفه وأكثرُها فائدةً، أملاه في 84 مجلساً، وهو يشتمل على فوائد جمة من فنون الأدب، وختَمه بمجلسٍ قَصَرَه على شعر أبي الطيّب، تكلم عليه وذكر ما قاله الشُرّاح في شعره، وزاد مِن عندِه ما سَنَحَ له، وهو من الكتب المُتممِة، ولما فرغ منه حضر إليه أبو محمد عبد الله بن الخشاب وأراد سماعَه فما أجابه، فعاداه، وردّ عليه في مواضع من الكتاب ونسبه فيها إلى الخطأ، فوقف عليه الشريف أبو السعادات، ورد عليه في رده وبيّن وجوه غلطِهِ، وألّف في ذلك كتاباً سماه الانتصار، وهو على صِغَر حجمه مفيدٌ جداً، وسمِعه عليه الناس.
ولابن الشجري ديوان شعر، وإن كان شعره أقرب إلى شعر النحاة من حيث عذوبة الشعر وسلاسة المنطق، ومن شعره:
لاتمزحنَّ فإن مزحتَ فلا يكن ... مزحاً تضاف به إلى سوء الأدبْ
واحذر ممازحةً تعود عداوةً ... إن المزاح على مقدمة الغضب
وقال:
وتجنب الظلم الذي هلكت به ... أممٌ تودُّ لو أنها لم تَظلٌمٍِ
إياك والدنيا الدنية إنها ... دار إذا سالمتها لم تَسلَمِ
وله من مرثية:
كل حي إلى الفناء يؤول ... فتزود إن المقام قليلُ
نحن في دار غربة كل يوم ... يتقضى جيلٌ ويحدث جيل
وكأنا في ذاك ركبان ركب ... مزمعٌ رحلة وركب قَفول
والليالي في صرفها تتلقانا ... بنصح لو أنه مقبول
كيف أنجو من المنية والشيب ... بفَودي صارم مسلول
ولقد قطَّع القلوب وقد ... أذرى مصونَ الدموع رزءٌ جليل
باقياً فهو في العيون سُهاد ... دائم وهو للقلوب عليل
من يكن صبره جميلاً فما صبر ... ي عليه يا صاحبيَّ جميل
ليته باقياً وحزني عليه ... إن حزني من بعده لطويل
وعجيب أني أعزي محبيه ... وحظي من المصاب جزيل
وكان من شعراء زمانه الشاعر الظريف اللطيف أبو محمد الحسن بن أحمد بن محمد بن جَكينا، المتوفى سنة 528، فقال له مداعباً، مشيراً إلى تعارض قوله للشعر مع كونه من سلالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه ما ينبغي له الشعر:
يا سيّدي والذي يُعِيذُك من ... نَظمِ قريضٍ يَصدى به الفِكرُ
ما فيك من جَدِّك النبيّ سِوَى ... أَنَّكَ لا يَنبغي لك الشِّعر

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين