بين إقرأ و(اقرع) - الدعوة بين منهجين
بين " إقرأ " و " اقرع"
 
بقلم: الدكتور محمد فتحي راشد الحريري.
 
الجذر الثلاثي (ق ر أ) يعني فيما يعني: القراءة و تتبع الكلمات والنطق بها عن نظر أو حفظ، ومن يفعل ذلك (قارئ)، و قرأ الشيء قَرْءاً و قُرآناً أي: جمعه و ضم بعضه إلى بعض، وقرأ عليه السلامَ: أبلغه إياه، و قرأت الناقة: حملت أو وضعت حملها (ضدان)، و قُرئت الجارية: حُبست حتى تنقضي عدتها، ومنه جاء الاختلاف بين الشافعية و بين الحنفية في تحديد معنى القرء فهو عند الأول(الحيض) وعند الآخر (الطهر)(1) فأقرأت المرأة حاضت أو طهرت (ضدان)، و من مجاورات هذا الجذر نتأمل في أقراء الشعر و القرية التي تجمع السكان وطعام القرى الذي يجتمع عليه المدعوون و استقراء الأمور لمعرفة أحوالها (ق ر و) و القرو (و المقراة) حوض أو مصنع تتجمع فيه المياه ترده الإبل، وكل شيء متحد على وتيرة واحدة و طريقة متناسقة يسمى على قرو واحد، و الأمة ذات الهوية أو الحضارة أو الطابع و الطريقة، أو الهدف والمنهج و القصد الواحد هي ذات قرو واحد. و يقال: الناس قواري الله عزّ وجل  في أرضه، أي هم الشهود، و من الممكن أن يحمل على أنهم يقرون الأشياء حتى يجمعوها علماً ثم يشهدون بها(2) و القرآن الكريم الجامع لكل خير و فضيلة، مصدر الاجتماع و الحضارة و القراءة اسم لكتاب الله الموحى به إلى سيد الخلق و المتعبد بتلاوته و المحفوظ أبد الآبدين، و هو حبل الله المتين و عهده و معجزة نبيه الخاتم و قد قيل أنه نوعان: قرآن متلو و هو المعجزة الأبدية المحفوظة بين دفتي مصحف مشتملة 114 سورة أولها الفاتحة و آخرها سورة الناس، و قرآن غير متلو يمثل السنة المطهرة التي هي وحي بأصلها من الله لرسوله و قيل: هو ضربان أيضاً قرآن مقروء، و قرآن منظور، فالمقروء هو كتاب الله الخالد الذي كان أول ما نزل منه: {اقرأ باسم ربك الذي خلق }.
 وهو المعني بقوله تعالى:{ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر}. [القمر/17]
 والمنظور هو كتاب الكون المفتوح لكل متأمل، و هو المعني بقوله عزّ وجل:{ قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق}. [العنكبوت/20]
"اقرأ" الكلمة الأولى:
أول ما بدئ به الوحي على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.. {اقرأ}، وكان أمياً بإجماع الباحثين و المؤرخين ووفق ما أثبت القرآن نفسه...
لقد كان محمد صادقاً و واقعياً، فقال للوحي: ما أنا بقارئ.. و كررها الأمين "اقرأقل هذه سبيلي ادعو إلى الله على بصيرة}. [يوسف/108]    أما المتعدد فإنما هو الجهل و الشعبذة و الخرافة و إحن الجاهلية:{ولا تتبعوا السبل}. [الأنعام/153]." لتعني فيما تعني: ادرس، علم و تعلم، احفظ، حضر هذه الأمة و اجمعها على الحق، وأبعدها عنها الجاهلية... بل تعني أطر الأمة على منهج المدنية والحضارة و العلم و البحث بعيداً عن العبث والخرافة ومفاسد الأخلاق و سوء المسالك، لتكون على قرو ومنهج واحد، وواحد فقط إذ أن الحق لا يتعدد {
منهج "اقرأ" إذن هو منهج العلم والحضارة و المنطق و الإقناع و منذ أن خلق الله الأرض و ما عليها يتوازى مع هذا المنهج منهج آخر يضاده تماماً ويعاكسه، إنه منهج الفوضى و الجهل و الاستلزام و فرض الرأي بالإخضاع و القوة " البلطجة"...
يتمثل هذا المنهج على ساحة الواقع بمنهج فرعون الذي قال لمن حوله:{ما أريكم إلا ما أرى}.  [غافر/29]
فكأنه يقول لهم: منطقي هو اللامنطق, ومنهجي هو اللامنهج، و باختصار:
"ضع عقلك في مكان ثم الحقني". إنه أسلوب الاستبداد بالرأي وإلغاء الآخر أو احتقاره و ازدراؤه...
ومن أجل ذلك كان أول تواصل بين الأرض و السماء في الدين الخاتم من خلال بوابة "اقرأ" وليس قرع". هذه الكلمة "اقرأ" هي الفيزا أو مفتاح التواصل بل هي "كود" الرقي.
اقرأ: حضارة و مدنية و منهجية و وحدة واجتماع و حوار و منطق و اقناع.
اقرع: شعبذة و عنف و تفرد و قسوة و تفرق و تخلف و إخضاع.
الدعوة بين المنهجين:
أ- كان بإمكان رسول الله لو كان من أتباع "اقرع" أن يقف في ساحة من ساحات مكة أو قرب الحرم ويطعن نفسه بسفود (شيش)، أو يقوم بحركة بهلوانية فيخر كل من حوله مصدقاً مستسلماً خاضعاً لهذه البهلوانية. ولكن السؤال, كم سيستمر هذا الخضوع؟ بتقديرنا لن يدوم أكثر من دقائق، هي فترة الإنبهار و الإخضاع...
و لكنه صلى الله عليه و سلم أبى أن ينشر الدين بهذا المنهج الشاذ، أصر على المنطق و المنهجية و الفكر فحاورهم و ناظرهم و ساق لهم الأدلة...
لم يشأ أن ينشر الدعوة بأسلوب دغدغة المشاعر، أسلوب الإخضاع الآني،بل أرادها دعوة قائمة على أسس الرسوخ و الفكر و الديمومة و الثبات.
ب- لو كان عليه السلام من أتباع "اقرع" لترك الدعوة أمام المغريات و الزخارف التي بذلها له زعماء قريش، يوم قالوا: إن أردت السيادة جعلناك ملكاً، و إن أردت المال صيَّرناك أغنى واحد فينا وإن و إن... لكنه أصر على منهجية "اقرأ" فقال: كلمة واحدة يفتح الله لكم بها الآفاق، البلاد و قلوب العباد إنها لا إله إلا الله..."
و بنفس المحاكمة نفهم رفضه العفو عن المخزومية التي سرقت بُعيد فتح مكة، و كان بحاجة إلى أن يتألف بني مخزوم...لكنه الحق و هو أكبر من بني مخزوم و من جميع البشر.
ج- لو كان من اتباع السلبية و الإخضاع لهان عليهم إخضاعه، لو كان من اتباع "اقرع" لقرعوه و أخضعوه بتهديدهم و وعيدهم مع ما صبوه عليه وعلى أتباعه من ضروب التعذيب و التنكيل..لكنه منهج "اقرأ" منهج الثبات على الحق، فقال:
" والله لو وضعتم الشمس في يميني و القمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه"..
اختار منهج المحاكمة العقلية و تمجيد الفكر و الفضيلة، و ابتعد عن منهج الدغدغة و العواطف(3).
د- ولإقامة منهج "اقرأ" أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، بالأخذ بالأسباب مع الاعتماد على الله.. في الأرزاق، فالسماء لا تمطر ذهباً و لا فضة.                                                                         و في المعارك مع الأعداء, لا يمنح الله نصره للتنابلة و الكسالى.
و في الاستشفاء لا بد من التداوي.
أما أصحاب منهج "اقرع" فغرقوا في سلبياتهم و تواكلهم زاعمين أن الله يرزق و ينصر و يشفي دون حاجة لعمل فوقعوا في تناقضات و مقامات و ترهات فتحت على المسلمين أبواباً و فلسفات لا زلنا نكتوي بنارها كل يوم بين مطارق التعصبات و الفرق و المذاهب و الجماعات، وبين سندان الذل و الهوان و الضعف الذي آلت إليه الأمة حين ركبت موجة الإخضاع و سارت في فلك "اقرع" بدلاً من "اقرأ"...
هـ- ولإقامة منهج "اقرأ" حدد رسول الله لهذه الأمة هويتها و إطار حضارتها، فلم يستعن بكافر، و لم يعط الدنية لأحد فنصره الله بالرعب، و عاش الإنسان عزيزاً كريماً آمناً سعيداً مطمئناً، بغض النظر عن انتمائه الديني أو القومي أو البيئي...
أما الذين اختاروا المنحى الآخر فقد فرضوا على أنفسهم كابوساً من الانتمائات فعاشوا في "حيص بيص" يخافون من كل شيء بعد أن كانوا لا يخافون إلا الله...
تلكم هي باختصار معالم التفريق بين المنهجين، منهج الحق القويم و الحوار و العدالة والحضارة و البقاء"اقرأ"، و منهج الأشر و توزيع الألقاب بتكفير و تفسيق، ورفض الآخر و التمرد و العناد و التخلف و الآنية "اقرع".
لقد كان صاحب الدعوة و مؤسسها من خلال مفتاح "اقرأ" حريصاً على استمرار هذا المنهج بعد وفاته فنراه وهو يجود بنفسه حريصاً على ذلك،و هذه آخر وصاياه التي ضيعناها بين سلبيات و ركام "اقرع". قال صلى الله عليه وسلم:
"لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض..."
    2ـ الله الله في النساء و ما ملكت أيمانكم...
    3ـ لا تتخذوا قبري عيداً...
*   * *
 
 
 
1)       من اجتماع الدم في الرحم وهذا الاجتماع إن أريد به أول بأول فهو الطهر و من نظر إلى اجتماعه في نهاية الأمر و خروجه قال هو الحيض.
2)       معجم العين للفراهيدي والمحيط ومحيط المحيط وغيره.
3)       يعتمد بعض دعاة اليوم أساليب غير علمية في الدعوة مثل الاستشهاد بأحاديث موضوعة أو قصص ماجنة أو نظريات علمية غير ثابتة أو تفسير النص تفسيراً لا يحتمله فيسيء وهو يظن أنه يحسن صنعاً.
 
 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين