الثقة بنصر الله ـ 1 ـ

 
الشيخ مجد مكي
 
نحن في بداية القرن الخامس عشر الهجري... ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إنَّ الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها) رواه أبو داود وصححه الحاكم.
وإنَّ التفاؤل يملأ قلوبنا، ويحدونا أن نتطلع بيقين وشوق لمشرق جديد لأمة الإسلام... وقد بدت لنا إرهاصات هذا المشرق مع إطلالة هذا القرن الجديد...
هناك حوادث نراها بقلب الإيمان إرهاصات ويراها غيرنا نذر سوء..
فاشتداد الحملة على الإسلام والمسلمين نعدها من إرهاصات النصر القريب، ويراها غيرنا نذر سوء لا تبشر بخير ولا تبعث على الأمل... ونرى بحس المؤمنين أن هذه الحملات الشرسة على الإسلام وأهله، ما كانت لتنبعث من أعداء الله بهذا العنف لولا شعورهم بضخامة الصحوة الإسلامية وبخطورتها عليهم.
وها هي طلائع المجاهدين في كل مكان قد انطلقت، وبدأ رجال الإسلام يحملون أرواحهم فوق أكفهم، ويقذفون بها في ساحات الوغى، دفاعاً عن الإسلام، وجهاداً في سبيل إعلاء كلمة الله لتكون الحاكمية لله وحده.
لقد هبَّ دعاة الإسلام في هذا الخضم المتلاطم من الهزائم والنكبات يسيرون بالأمة نحو الطريق القويم، طريق الجهاد في سبيل الله، الطريق الذي يؤدي إلى النصر المبين.
ومما يدعَمُ الثقة بالنصر حاجة العالم اليوم إلى دعوة الإسلام لانقاذه من الشقاء والضياع والتمزق النفسي... فإن التجربة التي خاضتها شعوب العالم لكل مبادئ المعسكرين الشيوعي والرأسمالي، أظهرت إفلاسهما، ناهيكم عن التطلعات التي نسمعها هنا وهناك في رحاب المعسكر الغربي والشرقي إلى منقذ جديد، يعيد للروح رُواءَها، بعد أن تلطخت على سعير المادية، وفي قمامة المدنية الحديثة، وقهر الميكانيكية الصماء، وما حملات الجرائم التي تغيب فيها مطية الأمن... وما الإحصائيات المتعاقبة التي تشير إلى تفاقم جرائم الاعتداء على الحياة إلا دليلا ً على ما نقول... ولن تجد البشرية المنقذ إلا في الإسلام.
ومما يبشر بالنصر أيضاً وجود القاعدة الصلبة الواعية المتينة التي تتمثل في جيل مؤمن راسخ الإيمان بعقيدة الإسلام يصبغ بها حياته، ويضحي من أجلها بكل غالٍ ويحميها ويدفع عنها كيد الأعداء... ولا يهدأ له بال حتى تكون كلمة الله هي العليا وتقوم دولة الإسلام لتؤدي دورها نحو البشرية... هذا الجيل المؤمن هو الذي يقوم عليه البناء في استقرار وشموخ ويكون السعير الموقد للمعركة يبذل الدماء واللهب، ويتجلى بالوعي والفهم عن كتاب الله، وعلى أكتافه يبنى النصر بإذن الله. وهناك سنن ثانية للنصر بين يسار عليها ظفر ومن تنكبها خسر.
ومقومات النصر النهائي سبعة أمور.
1 ـ الطاعة: وتستمد الطاعة مصادرها من النصوص القرآنية الآمرة:[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ] {النساء:59}. فإذا كانت طاعة الله ورسوله واجبةً فقد وجبت طاعة الفئة المتعينة لنصرة دين الله... وعبر الرسول صلى الله عليه وسلم عن ذلك فيما يرويه البخاري ومسلم: (من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله ومن يطع الأمير فقد أطاعني... ومن يعصي الأمير فقد عصاني)، والأمير هنا وأولو الأمر هم أولو السلطة الذين يحكمون بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ولا تلزم طاعتهم في معصية الله، ولما فُقد الخليفة في هذا الزمان وجب الإسهام بكل طاقة مع من يقومون بنصر الدين لإقامة الخلافة... هذا وإن انتصار أيِّ فئة تدخل حلبة الصراع لا يتم إلا بتعاون أفرادها والتزامهم لأمر قيادتهم الالتزام غير المستأني خشية فوات المبادهة وما أكثر ما يسارعنا العدو... ولنا في مخالفة الرماة يوم أحد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم وما أصاب المسلمين يومها، عظة وأي عظة: [وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآَخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى المُؤْمِنِينَ] {آل عمران:152}.
2 ـ القائد الكفء: فالقيادة المتميزة عامل من عوامل النصر... ومن أهم صفات القائد أن يكون موضع ثقة رجاله، وأن يتحمل المسؤولية ولا يلقي بتبعاتها على الآخرين.
وأن يعرف مزايا رجاله ويولي الرجل المناسب العمل المناسب... ويساوي نفسه برجاله ولا يستأثر دونهم بالغُنْم ويلقي عليهم بالغُرْم... مثل هذا القائد يسير جنوده معه حتى الموت... ويقود جنوده إلى النصر المبين.
وهذا أبو بكر رضي الله عنه الذي تتمثل فيه أهمية القائد الكفء... بموقفه الجازم أمام المرتدين بعد أن تراخى عمر وطالبه بمهادنتهم في أمر الزكاة، فقال أبو بكر رضي الله عنه: (والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونها لرسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلهم على منعه) وبذلك حَسَمَ مادة الخلاف وحمل الصحابة على القتال وقضى على المرتدين.
والمسلمون في اليرموك كانوا يقاتلون أرسالاً وعزين حتى جاءهم خالد بن الوليد فجمعهم تحت راية واحدة وكتب الله النصر على يديه... وكان لكفاءته الحربية وحنكته العسكرية الأثر الكبير في إحراز النصر على الروم... وفي معركة حطين كان الفضل الأول لانتصار المسلمين على الصليبيين يعود إلى قيادة صلاح الدين... وفي معركة عين جالوت يعود الفضل في انتصار المسلمين على التتار إلى قيادة قطز... وها نحن اليوم بحاجة إلى قائد جديد تجتمع عليه الكلمة ويبادر العدو ويناجزه...
3 ـ الكلمة المجتمعة: إن وحدة الصف واجتماع الكلمة عامل من أهم عوامل النصر... والله سبحانه وتعالى: [إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ] {الصَّف:4}. وإن الذين يواجهون الإسلام يواجهونه بقوى جماعية، وتجمعات ضخمة، فلابد لجنود الإسلام أن يواجهوا أعداءه صفاً صفاً سوياً منتظماً صفاً متيناً راسخاً.
وصوناً لهذا البنيان المرصوص أن يتهاوى ولهذه الرابطة القوية أن تضعف حذر القرآن الكريم المؤمنين من التخاصم والتنازع وحثهم على التواد والتحاب وإصلاح ذات البين:[ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ] {الأنفال:46}. وإن من العوامل الأساسية لجمع الكلمة وتناسي الخلاف وضع المسلمين أمام هدف مشترك وعدو متربص فهل آن لنا أن نوحد صفنا نوجه جهودنا لمناجزة عدونا المتربص بنا.
إن هذه القضية بمنتهى الأهمية... وقد تبدت ثناياها من خلال الفكرتين السابقتين فلولا اجتماع الجنود حول أبي بكر وخالد وسعد وصلاح الدين لما كان ثمة نصر، ولما تفرقت كلمة المسلمين في الأندلس ذهبوا حديث التاريخ، ويد الله مع الجماعة حيثما تكون.
4 ـ التقوى: إن التزام التقوى أساس كل ما ينبني عليه... والله سبحانه وتعالى يحب المتقين، وهو وليهم وناصرهم في كل معركة يخوضونها في سبيله: [وَاللهُ وَلِيُّ المُتَّقِينَ] {الجاثية:19}.:[ فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُتَّقِينَ] {آل عمران:76}. [إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ] {النحل:128}.
وإن الله عودنا ـ نحن المسلمين ـ أن لا يكون التمكين إلا بمقدار قربنا من جنابه... وسلوا التاريخ وواقعنا المرير واستخرجوا من ذلك العبر... وما أحرانا اليوم أن نتدبر وصية عمر بن الخطاب رضي الله عنه لقائد جيشه سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: (آمرك ومن معك من الأجناد أن تكونوا أشدَّ احتراساً من المعاصي منكم من عدوكم، فإن ذنوب الجيش أخوف عليهم من عدوهم، وإنما ينصر المسلمون لمعصية عدوهم لله، ولولا ذلك لم تكن لنا قوة بهم؛ لأن عددنا ليس كعددهم،ولأن عدتنا ليست كعدتهم فإن استوينا في المعصية كان لهم الفضل علينا.
5 ـ الصبر والثبات: الصبر والثبات عند لقاء العدو هو بداية طريق النصر... وقد أمرنا الله عزَّ وجل بالصبر والثبات:[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] {الأنفال:45} . وقال عز وجل:[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] {آل عمران:200}. وقد ناط القرآن الغلبَ على الأعداء الكثيرة بالصبر فقال تعالى [يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ المُؤْمِنِينَ عَلَى القِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ(65) الآَنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ(66)]. {الأنفال}..
والصبر على مشاقِّ الجهاد وما يصحبه من نقص الأموال والأنفس والثمرات...:[أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ البَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ] {البقرة:214}. [أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ] {آل عمران:142} .
والصبر على النصر المؤقت... عندما يكون للمؤمنين غلب في أثناء المعركة... فهو صبر النفس أن يصيبها غرور النصر، وإن النعم كالنقم تحتاج إلى صبر وثبات... ولقد كان درس غزوة أحد درساً لا ينسى للغرور بالنصر المؤقت... فلو صبر الرماة لما كانت تلك الجراح الشديدة التي أصابت إخوانهم وغيَّرت وجه المعركة من النصر إلى الهزيمة.
6 ـ إعداد العدة: من أهم دعائم الجهاد، وركائز النصر الاستعداد للجهاد، والله سبحانه و تعالى يقول: [وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ...] {الأنفال:60}.
ومن حق هذه الآية أن نتدبرها ونقف عند كل كلمة من كلماتها.
فكلمة (أعدوا) كلمة واسعة الدلالة تشمل كل ما يمكن الاستعانة به في مقاومة الأعداء من قوى مادية ومعنوية... وقوله تعالى:[وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ] {الأنفال:60} . ففيه حدود التكليف بإعداد القوة... وهي في حدود الطاقة إلى أقصاها بحيث لا يقصر المسلمون عن سبب من أسباب القوة يدخل في طاقتهم... أما كلمة قوة: فقد وردت نكرة لتشمل جميع أنواع القوة المعروفة اللازمة للانتصار في كل زمان ومكان، وتمشياً مع توجيه الوحي وسياسة الواقع، درب النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه على فنون الحرب واشترك معهم في الاستعداد للمعارك، فقد كان عليه الصلاة والسلام يحث المسلمين على أن يتدربوا على الفروسية والسباحة والرمي بالنبال.
جاء في صحيح مسلم عن عقبة بن عامر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر يقول: ( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة، ألا إن القوة الرمي، ألا إنَّ القوة الرمي، إلا إن القوة الرمي )
وأخرج البخاري عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم مرَّ على نفر ينتصلون فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ارموا بنو إسماعيل فإن أباكم كان رامياً، ارموا، وأنا مع بني فلان، قال: فأمسك أحد الفريقين بأيديهم، فقال عليه الصلاة والسلام: ما لكم لا ترمون؟ قالوا: كيف نرمي وأنت معهم فقال النبي ارموا فأنا معكم كلكم).
ولقد كشف القرآن الكريم للمؤمنين منابع القوة وعناصرها، وتبين لهم أنها في الحديد، و ما يستخرج منه من المصنوعات النافعة:[لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الكِتَابَ وَالمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالغَيْبِ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ] {الحديد:25}.
وفي هذا تأكيد بأن الحق لابد له من قوة تحميه وتدافع عنه حتى تتحقق سنة الله في النصر، وهذه قضية يشهد لها التاريخ ويقرها الواقع... وإذا نظرنا إلى تاريخ الإسلام وجدنا أمته لما تسلحت بالقوة واعتمدت عليها عاشت مهيبة الجانب مرهوبة المكانة، فكان سلطانها هو السلطان، وكان الإسلام هو القوة والقوة هي الإسلام، وظل الإسلام وبلاد الإسلام بمنأى عن عبث العابثين، وطمع الطامعين، ولما نزعت القوة من أيديهم أصبحوا أشلاء مبعثرة تهددهم قوى الباطل في كل مكان وتنذرهم بالفناء في كل وقت، فما أحرانا أن نبذل أقصى الجهد في إعداد القوة المادية والمعنوية ليتحقق لنا النصر المبين.
7 ـ البذل والتضحية: وإن القرآن ليحرض المؤمنين على القتال وبذل المهج في سبيل الله وذلك بتصحيح حقيقة الحياة والموت في نفوس المؤمنين حتى لا تحجم عن القتال في سبيله فالحياة والموت بيد الله وحده، وأن لكل نفس أجلاً لا يقدمه القتال ولا يؤخره القرار: [أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ المَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ] {النساء:78}.  [قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ القَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ] {آل عمران:154}.
وبعد أن حرَّر الله سبحانه النفس من الخوف من الموت أبان سبحانه عن مصير الذين يقتلون في سبيله: [وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ] {محمد:4}.  [وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ] {البقرة:154}.  [وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ] {آل عمران:169}. [وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ] {الحج:58}. [وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ] {آل عمران:157}.
وقد باع المجاهدون أرواحهم لله بالجنة، وقد أشاد القرآن الكريم بهذه الصفقة الرابحة:[وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ وَاللهُ رَءُوفٌ بِالعِبَادِ] {البقرة:207}.
وما أجمل ههنا كلام الإمام ابن القيم في تزهيده من الحياة أثناء حديثه عن الحياة بعد الموت في كتابه مدارج السالكين، المرتبة التاسعة من مراتب الحياة حياة الأرواح بعد مفارقتها الأبدان وخلاصها من هذا السجن وضيقه، فإنَّ من ورائه فضاء وروحاً وريحاناً وراحة، نسبة هذه الدار إليه كنسبة بطن الأم إلى هذه الدار أو أدنى من ذلك قال بعض العارفين: لتكن مبادرتك إلى الخروج من الدنيا كمبادرتك إلى الخروج من السجن الضيق إلى أحبتك والاجتماع بهم في البساتين المونقة.
قال الله تعالى في هذه الحياة: [فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ المُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ] {الواقعة:89}.  
ويكفي في طيب هذه الحياة مرافقة الرفيق الأعلى، ومفارقة الرفيق المؤذي المنكد الذي تنغص رؤيته ومشاهدته الحياة، فضلاً عن مخالطته وعشرته إلى الرفيق الأعلى مع الذين أنعم عليهم من النبين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً في جوار الرب الرحمن الرحيم، ـ مدارج السالكين ص 274 ـ.
إننا نثق بنصر الله وإن وعد الله واقع، وكلمة الله قائمة: [وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ المَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الغَالِبُونَ] {الصَّفات:173} . هذه هي الحقيقة أن دعوة الله غالبة منصورة مهما وضعت في سبيلها العوائق، وقامت في طريقها العراقيل، ومهما رصد الباطل من قوى الحديد والنار، وقوى الدعاية والافتراء وقوى الحرب والمقاومة.
وإن هي إلا معارك تختلف نتائجها ثم تنتهي إلى الوعد الذي وعده الله لرسله الذي لا يختلف، ولو قامت قوى الأرض كلها في طريق، الوعد بالنصر والغلبة والتمكين... [وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ المَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الغَالِبُونَ] {الصَّفات:173}.
والمؤمن يتعامل مع وعد الله على أنه الحقيقة الواقعة وحين ينظر الإنسان اليوم إلى الحرب الهائلة التي شنَّها أعداء الإيمان على أهل الإيمان في صورها المتنوعة من بطش وضغط وكيد في عهود متطاولة بلغ في بعضها من شدة الحملة على المؤمنين أن قتَّلوا أو شرِّدوا وعذبوا وقطعت أرزاقهم وسلطت عليهم جميع أنواع النكاية، ثم بقي الإيمان في قلوب المؤمنين.. حين ينظر الإنسان إلى هذا الواقع في المدى المتطاول يجد مصداق قول الله تعالى:[إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ] {المجادلة:21}  .
إن وعد الله قاطع جازم:[إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ] {غافر:51}. بينما يشاهد الناس أن الرسل ومن سار على دعوتهم... منهم من يقتل، ومنهم من يهاجر من أرضه وقومه مكذباً مطروداً... وإن المؤمنين فيهم من يسام العذاب، وفيهم من يلقى في الأخدود وفيهم من يستشهد، ومنهم من يعيش في كرب وشدة واضطهاد... فأين وعد الله لهم بالنصر في الحياة الدنيا؟ ويدخل الشيطان إلى النفوس من هذا المدخل ويفعل بها الأفاعيل... ولكن الناس ينظرون إلى ظواهر الأمور بالمقاييس المادية ويغفلون عن قيم كثيرة وحقائق كبيرة... إن الناس يقسون بفترة قصيرة من الزمان، و حيِّز محدود من المكان وهي مقاييس بشرية صغيرة، فأما المقياس الشامل فيعرض القضية في الرقعة الفسيحة من الزمان والمكان، ولا يضع الحدود بين عصر وعصر ولا بين مكان ومكان... إن عنصر الزمن لا يقاس بأعمار الأفراد ولكن يقارن بأعمار الأمم والدعوات وإن المعركة صراع بين الحق والباطل والحق باق والباطل زهوق:[بَلْ نَقْذِفُ بِالحَقِّ عَلَى البَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ] {الأنبياء:18}. [فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ] {الرعد:17}.
إن الابتلاء طريق النصر والله سبحانه وتعالى يقول:[حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا] {يوسف:110}.
روى البخاري عن خباب بن الأرت رضي الله عنه قال:أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو متوسد ببردة في ظل الكعبة، وقد لقينا من المشركين شدة، فقلت، ألا تدعو لنا... فغضب النبي صلى الله عليه وسلم لهذه العجلة من صاحبه وألقى عليه درساً في الصبر على بأساء اليوم، والأمل في نصر الغد فقال: (قد كان من قبلكم يمشط بأمشاط الحديد ما دون عظم من لحم أو عصب، ويوضع المنشار على رأسه فيشق باثنين ما يصرفه ذلك عن دينه، وليتمنَّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضر موت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون).
وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد هاجر من مكة مطارداً مضطهداً... يسير بالليل ويختفي بالنهار... فيلحقه الفارس المغامر سراقة بن مالك وفي رأسه أحلام سعيدة بمائة ناقة من حمر النعم... ولكن قوائم فرسه تسوخ في الأرض، ويدركه الوهن، وينظر إليه الرسول صلى الله عليه وسلم ويقول له: يا سراقة كيف بك إذا ألبسك الله سواري كسرى؟ فيعجب الرجل ويقول: كسرى بن هرمز؟ فيقول: نعم.
ويذهب الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، ويبدأ في كفاح دام مرير، وتأتي غزوة الأحزاب، فيتألب الشرك الوثني بكل عناصره، والغدر اليهودي بكل تاريخه، ويشتد الأمر على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، قريش وغطفان من خارج المدينة، واليهود والمنافقون من الداخل ؛ موقف عصيب صوره القرآن بقوله:[إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ القُلُوبُ الحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا هُنَالِكَ ابْتُلِيَ المُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا] {الأحزاب:11}.
في هذه الساعات الرهيبة التي يذوي فيها عود الأمل ويخبو شعاع الرجاء، ولا يفكر المرء إلا في الخلاص والنجاة... في هذه اللحظات والنبي صلى الله عليه وسلم يسهم مع أصحابه في حفر الخندق حول المدينة، يحدث النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه عن الغد المأمول، والمستقبل ا لمرتقب حين يفتح الله عليهم بلاد كسرى، حديث الواثق المطمئن الذي أثار أرباب النفاق، فقالوا في حنق وضيق: إنَّ محمداً يعدنا كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا لا يأمن أن يذهب إلى الخلاء وحده! كما حدث عنهم القرآن الكريم: [وَإِذْ يَقُولُ المُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا] {الأحزاب:12}.
ماذا تسمي هذا الشعات الذي يبزغ في دياجير الأحداث، فينير الطريق، ويبدد الظلام؟ إنه الأمل والثقة بنصر الله:[ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ العَزِيزُ الرَّحِيمُ وَعْدَ اللهِ لَا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ] {الرُّوم:6}.
وأختم هذه الكلمات بباقة عطرة من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم تنير القلوب بأشعة الأمل، وقوة الرجاء في مستقبل الإسلام، وانتصار المسلمين بعون الله الواحد:
1 ـ روى ابن حبان في صحيحه: ( ليبلغن هذا الأمر (يعني هذا الدين) ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعزُّ الله به الإسلام، وذلاً يذل الله به الكفر).
2 ـ وروى أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجه من حديث ثوبان مرفوعاً: (إن الله زوى لي الأرض ـ أي: جمعها وضمَّها ـ فرأيت مشارقها ومغاربها، وإنَّ أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها).
3 ـ روى أحمد والدارمي وابن أبي شيبة والحاكم عن أبي قبيل قال: كنت عند عبد الله ابن عمرو بن العاص وسئل: أيُّ المدينتين تفتح أولاً: القسطنطينية أو رومية؟ فدعا الله بصندوق له حِلق، قال: فأخرج منه كتاباً، قال: فقال عبد الله: بينما نحن حول رسول الله صلى الله عليه وسلم نكتب إذ سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي المدينتين تفتح أولاً القسطنطينية أو رومية؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مدينة هرقل تفتح أولاً، يعني القسطنطينية وروية هي ـ روما ـ عاصم ايطاليا، وهكذا كانت تلفظ كما في معجم البلدان وقد فتحت الأولى وبقيت الثانية ولن يتخلف ما بشَّر به الصادق المصدوق.
4 ـ روى أحمد والبزار عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه مرفوعاً: ( تكون النبوة فيكم ما شاء الله لها أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً عاضاً ـ يعني فيه ظلم ـ فتكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً جبرياً ـ فيه قهر وجبروت ـ فتكون ماشاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة ) وقد تحقق جلَّ ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من الخلافة الراشدة، والملك العضوض، والملك الجبري، وبقيت الخلافة المنشودة الموعودة بها، ولابد أن تتحقق إن شاء الله ولكن يجب أن نعمل لتحقيقها وإيجادها، وإنما توجد وفقاً لسنن الله بعمل العاملين وجهود المؤمنين.
5 ـ روى أحمد والبخاري: (لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون للناس).
إن هذه الأحاديث تطمئن القلب أن هذا الدين سيعود لينقذ الإنسان المعذب ويأخذ بيده من الهوة السحيقة إلى المرتقى السامق بعون الله تعالى.
وهناك أحاديث كثيرة صحيحة تشير أن نهاية اليهود ستكون في فلسطين وأن الجيش الذي سيقاتلهم جيش مسلم حتى يقول الشجر والحجر: (يا مسلم يا عبد الله هذا يهودي ورائي فاقتله). وسيتحقق ذلك بعون الله كما تشرق الشمس وتغرب بعون الله تعالى.
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم
وكتبه مجد أحمد مكي في الحرم الشريف بمكة المكرمة الخميس 4/ربيع الآخر/1401 هـ

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين