حوار مع السيدة نوال السباعي
حوار أجراه موقع "الداعيات" مع الأديبة والصحفية نوال السباعي، وقد نشر الحوار بتصرف، وهذا نص الأجوبة  كاملا كما حرر بتاريخ 21.8.2011 
هل حقاً نعاني من أزمة مثقفين؟ وما سبب اغتراب كثير من المثقفين عن واقع أمتهم وقضاياها وتحولهم إلى أبواق للنظام؟
نعاني مشكلة حقيقية في تعريف كلمة "الثقافة"، فهي مقارنة بالحضارة والمدنية، مجموعة السلوكيات والافكار السائدة في جماعة من الجماعات البشرية تميزها عن غيرها وتشكل معالم هويتها، وهي كائن معرفي متغير ومتطور.
أما معنى الثقافة الوارد في السؤال فيشمل مجموعة المعارف والعلوم التي توجه التفكير لدى شخص من الأشخاص أو مجموعة "ما"،وامتلاك الآليات الضرورية لتحويل هذه المعلومات إلى سلوك، وفكر.
القدرة على إيصالها إلى الناس وتحويلها لدى صاحبها ولدى الآخرين إلى سلوك وتوجه فكري أو سياسي أو اجتماعي معين، يعني أن صاحبها هو "مثقف" بامتياز، والقدرة على تحويل المعارف إلى منتج ثقافي تعني "الإبداع"، والقدرة على هضمها ودعمها بالتجارب لإنتاج فكر جديد، تعني أن صاحبها "مفكر"، والقدرة على تسخيره للقضاء على الثقافة والإبداع والفكر تعني ان صاحبها "شبيح ثقافي"!!..إننا نعيش في أيام ثورة، والثورة ولدت لدينا كما كبيرا وهاما من المصطلحات، وعلينا أن نستثمرها ونستعملها ونتعلمها ونتعلم منها!.
 
 
ما هي مسؤولية المثقف تجاه قضايا أمته؟ وكيف تقوِّمين أداء النخبة المثقفة من ناحية بثّ الوعي في صفوف الشعوب في ظل الثورات التي تشهدها الدول العربية؟
 
المثقفون هم دماغ الأمة، لسان حالها، والمرآة التي نستطيع من خلالها معرفة وضعها الصحي، وتشخيص أمراضها ومعاناتها، لاأرى أن القضية قضية مسؤولية المثقف تجاه قضايا أمته، بل على العكس تماما، إنها حالة الأمة،هي التي تفرز هؤلاء المثقفين، لايمكن أن ندخل كل قضايانا من زاوية الالتزام، ولكن يجب أن تكون كل النوافذ والأبواب مفتوحة لكل إنسان ليعبر عن موقفه ورأيه، ومن خلال هذه الآراء وهذه المواقف يمكننا أن نفهم وضع الأمة.
هنا في اسبانيا يذكر بعض المواقع الالكترونية، أن اللوبي الصهيوني اشترى مايقارب من ثلاثين ألف قلم ناطق باللغة الاسبانية، لم يشتر "أقلاما" من محال القرطاسية!!، ولكنه اشترى أقلاما بأيدي أصحابها!!، لااعلم إن كان هذا الرقم مبالغ فيه، ولكنني أذكر لوائح المثقفين "العرب" الذين كان صدام حسين يمولهم، والذين لم يستحوا عندما كشف القناع عن هذه الكارثة الأخلاقية الثقافية في المنطقة العربية، بل إن بعضهم مازال يمارس الكتابة وفي أكبر المنابر ودون حياء لامن التاريخ ولامن الناس، وبعضهم، برر: من اين يعيش المثقف إذن؟! وأنهم كانوا يتقاضون مساعدات من النظام العراقي، ولكنهم كانوا يكتبون ماهم به مقتنعون.
هذا المشهد يضعنا أمام حقيقة خطيرة فيم يتعلق بعلاقة المثقف بأمته، أي امة كانت، ويطرح علينا سؤالا بالغ الأهمية: هل يقود المثقف عمليات التغيير في المجتمع، أم أن المجتمع هو الذي يفرز مثقفيه؟!.
وسؤال آخر على هامش سؤالكم هذا الخطير: "دور المثقف التاجر" في عمليات الترويج الفكري والثقافي، وصياغة العقلية الجماعية لأمة ما ومجتمع ما، ودور "المثقف الحر" في قيادة المجتمع والأمة!.
ليس إلا أن نراجع المنظومة الفكرية التي تقف وراء اندلاع هذه الثورة العظيمة الإنسانية السلمية التي تشهدها المنطقة العربية، والتي انطلقت من تونس بحادثة احتراق البوعزيزي.
لقد قاد "المثقفون الأحرار"عملية إعادة صياغة كثير جدا من عقول شبابنا المثقف في طول المنطقة وعرضها، قضية "سلمية الثورة"، موضوع "لا للطائفية ولا للفسيفسائية الإثنية والدينية"، موضوع "التغيير من الداخل"، من أنفسنا، سلوكيات شباب الثورة في تونس مع الجيش وقوى الأمن، تصرفات شباب الثورة المصرية في ساحة التحرير …..إذا أجرينا مسحا عاما لكل ماكتب خلال الثلاثين عاما الأخيرة، من قبل المثقفين الأحرار، لما استغربنا ولادة هذه الثورة، بالشكل الذي ولدت فيه.
وأشدد على المثقفين الأحرار، من هم هؤلاء المثقفون الأحرار؟! إنهم أولئك الذين لايباعون ولايشترون! يعني لايمكن بيعهم ولاشراؤهم! طبعا لكل إنسان ثمن! ولكن هنالك فرقا كبيرا بين أن يكون ثمنك أجرا مقبوضة أو دارا أو وسام "شرف"، وبين أن يكون ثمنك تكريما واعترافا بالفضل والجميل.
سأضرب مثالا واحدا عل هؤلاء المثقفين: الفيلسوف "عابد الجابري " رحمه الله، البحاثة، صاحب "نحن والتراث"، مات في بيت متواضع، وفوق مكتبه بللورة واحدة، مدها بسلك يخترق فضاء الغرفة، وهو الذي رفض استلام جوائز فكرية وفلسفية هائلة بمئات الآلاف من الدولارات من هذا النظام أو ذاك.
هناك نخبة من أمثال "خالص جلبي "، " جودت سعيد"، "عبد الوهاب المسيري"، "عمر عبيد حسنة"، "مطاع الصفدي"، "طه عبد الرحمن"، وغيرهم المئات، ولاأقول العشرات، من كل الأقطار في المنطقة العربية، من كل الانتماآت الدينية والقومية والسياسية والفكرية، مئات من الأقلام الحرة التي كان همّّ الأمة يؤرقها، وقد عملت هذه الفئة ليلا ونهارا للتمهيد لهذه الفترة التاريخية، وهذه الثورة العظيمة المذهلة التي نعيشها، والتي قام بها الشباب ولكنها ثورة أمة!.
 
كيف تتابع الجالية الإسلامية في بلاد الاغتراب ما يجري من أحداث على أرض سوريا؟ وماذا قدّم المغتربون للثورة؟ وهل من تحركات تقوم بها الجالية السورية دعماً لإخوانهم في سوريا؟
كثيرون جدا من سكان المنطقة العربية والمهاجرين منهم إلى أوربة وغيرها، كانوا مخدوعين تماما بالنظام السوري، الذي طبل وزمر طويلا باسم المقاومة والممانعة، والتي تمخضت عن مقاومة وممانعة شعبه أن يتململ طلبا للحياة الحرة الكريمة، وقد قضى أربعين عاما يعد ويستعد للمعركة الفاصلة التي ثبت أنها كانت معركته مع الشعب، الذي كان يعامل معاملة السوائم التي تحلب وتجبى خيراتها لجيوب البعض.
لذلك فقد تأخرت..وجداً، الجاليات العربية في دعم الثورة في سورية، وبعض الاخوة من بعض الدول الشقيقة حتى الآن غير مقتنعين بنضال الشعب السوري، وذلك على الرغم من المتابعة الدقيقة لكل مايحدث، شخصيا، ولأول مرة منذ أكثر من خمسة عشر عاما يفطر بيتنا على نشرة الأخبار، كنا ودائما نفطر في رمضان ونحن نستمع إلى إمام الحرم المكي في صلاة التراويح.
منذ اليوم الأول للثورة، تمخض الحال عن بعض السوريين ممن وقفوا مع الثورة دون قيد أو شرط، ومازالوا حتى اليوم على دأبهم ونشاطاتهم الكبيرة جدا، وتزداد الأعداد بازدياد إصرار النظام على القتل والذبح والفرم والبطش، قام شباب الجالية من الداعمين للثورة بتأسيس تنسيقية "مدريد " لدعم الثورة السورية، المظاهرات كل أحد أمام السفارة السورية، لم تنقطع، وهناك اعتصام يومي كذلك يقوم به بعض الشباب بشكل دوري، نشاطات ثقافية وبعض النشاطات السياسية، لدينا كثيرون في التنسيقية من البحاثة في الجامعات الاسبانية، اثنان منهم من الكتاب الأكاديميين في البحوث السياسية والإنسانية، إحداهما استُكتِبَت عن سورية في صفحات الرأي في صحيفة مثل الباييس والموندو الاسبانيتين الشهيرتين، ولدينا كاتبا رأي في صفحة ويب إسلام الناطقة بالاسبانية التي يطلع عليها الملايين من المسلمين الناطقين بالاسبانية، وكلهم يكتبون عن الاوضاع في سورية، بقية الشباب ومعظمهم من طلبة الطب والدراسات العليا في الجامعة، يجرون المقابلات بشكل دائب مع مختلف وسائل الإعلام الإسبانية، والتنسيقية على اتصال مع مكتب الشرق الأوسط في وزارة الخارجية الإسبانية..لقد زرت ورأيت بعض النشاطات في بلدان أوربية أخرى، وتكاد التنسيقية السورية في مدريد تكون من أفضلها وأكثرها تنظيما، وذلك على الرغم من افتقار مدريد للشخصيات السياسية أو الفكرية أو الثقافية السورية المرموقة، وليس كما هو الحال في باريس أو لندن على سبيل المثال.
 
ما تقويمك لدور المرأة المسلمة في ثورات التغيير في البلدان العربية وسوريا خاصة؟
لا أجد للمرأة دورا خاصا يختلف عن دور المجتمع كله والشعب بكل مكوناته، رجالا ونساء، صغارا وكبارا، أحفادا وجدودا، أنا لاأحب تمييز المرأة بشيء لاسلبا ولاايجابا، إنها نصف المجتمع، جاهدت وكافحت وناضلت واعتُقلت واستشهدت وتظاهرت وعُذبت واغتُصبت وأهينت وانتفضت وخرجت وثبتت وتحدت وصمدت،جدة وأما وزوجة واختا وابنة، بالضبط كالرجل الذي جاهد وكافح وناضل واعتُقل واستشهد وتظاهر وعُذب واغتصب وأهين وانتفض وخرج وثبت وتحدى وصمد، جدا وأبا وزوجا وأخا وابنا…إنها ثورة أمة، في كل أقطارها، في كل مجتمعاتها، بكل انتماآتها الإنسانية، فلا أجد شيئا خاصا بالمرأة، هنا في اسبانيا، مايفتأون يسألوننا عن دور المرأة في الثورات، ولماذا لم يكن لها دور؟؟!! وهذا شيء غريب، فمن دعا الى النزول الى ميدان التحرير في مصر؟؟ فتاة لاتتجاوز الرابعة والعشرين من عمرها!!، كانت النساء جنبا الى جنب مع الرجال في الثورة تصديا وثباتا، كما عملاً تنظيميا وتقنيا، كنّ هناك بمقشاتهم كما كن هناك بكاميرات التصوير ونقل الحدث الى العالم، كما بآلامهن وآمالهن، جراحهن ومن قتل منهن.
من دعا الى الثورة اليمنية؟؟ الاستاذة "توكل كرمان" التي لم تتجاوز الخامسة والثلاثين من عمرها، وهل رأينا مظاهرات اليمن المليونية الحاشدة بغير نسائها؟ من بدأ الثورة في سورية؟ أليست الاستاذة "سهير الأتاسي" الصابرة الصامدة.
كانت النساء مع الرجال في كل خطوة وكلمة وفعل في هذه الثورة الإنسانية الكبرى، التي لم تهدف ولاتهدف إلى إسقاط رؤوس الفتنة والفساد والظلم السياسي فحسب، بل الى جرف كل المنظومة الفكرية التي أسست لكل هذا الفساد والاستبداد والاستعباد في منطقتنا، إنها الثورة التي يجب أن تطهر حياتنا الاجتماعية من الظلم المربع الذي كنا نعيشه وخاصة في بيوتنا، لقد شغلنا الاستبداد السياسي والتفكير في طرق الخلاص منه كثيرا جدا عن رؤية الظلم الاجتماعي الذي عمّ مجتمعاتنا، وخاصة فيم يتعلق بموضوع المرأة بالذات والأطفال، وهذه الثورة فرصة وحيدة وفريدة، لإجراء هذا التغيير في حياتنا، نحو التطهير الاجتماعي، والارتقاء بثقافاتنا المهترئة إلى مستوى حضارتنا وقيمها الأخلاقية الإنسانية الفريدة.
ثقافاتنا في المنطقة العربية بعيدة كل البعد عن الاسلام وعن روح الاسلام، ونحن نعيش وفق ماتمليه علينا العادات والتقاليد وأضيق النظرات الفقهية الممكنة للحياة والانسان والمجتمع، وهذا يجب ان يتغير جملة وتفصيلا، الاسلام مانزل لتعذيب الانسان وامتهانه، ليس سياسيا فقط، بل إنسانيا واجتماعيا.
لااستطيع ولااريد أن ارى المراة كيانا منفصلا عن المجتمع إنها إنسان في المجتمع، إنها مكون من مكونات الحياة البشرية، إنها فرد يجب أن يتمتع بالكرامة والحرية والحصانة، بالضبط كالرجل الذي يجب ان يتمتع بالحرية والكرامة والحصانة، وعندما نصل فعلا إلى هذه السوية من فهم ديننا وحضارتنا نكون فعلا قد تحررنا، ووصلت الثورة إلى حيث يجب أن تصل، لقد ملئت بيوتنا ظلما واستبدادا في طول المنطقة العربية وعرضها، فوُلِي أمرنا من لايخاف الله فينا ولايرحمنا، والظالم سوط الله في ارضه، ينتقم به ثم ينتقم منه، ومالم ترتفع هذه المظالم من حياتنا الاجتماعية، فلن ترتفع في حياتنا السياسية.
 
قلتِ في إحدى مقالاتك: (الثورة التي تشهدها المنطقة العربية اليوم، تعتبر واحدة من أكثر الظواهر البشرية السياسية العالمية إدهاشاً)؛ فما سبب ذلك؟
سمعت وزير خارجية مصر المؤقت البارحة أثناء حديث له في استامبول يقول:" إن المنطقة تشهد اوضاعا غير طبيعية"!!، وعجبت لذلك، فالمنطقة العربية ولأول مرة تقريبا منذ نصف قرن تشهد أوضاعا طبيعية تماما، هذا هو الوضع الطبيعي، الثورة!!، وإرادة التغيير!!، أن تخرج الجماهير لتقول كلمتها، ولتؤكد على حقها، ولتزيل الطغاة القتلة الذين استبدوا بالبلاد والعباد عقودا يسيمونهم مر العذاب.
الثورة تعني التدمير بقصد إعادة البناء، وتعني التغيير الجذري ليخرّ السقف من القواعد – حرفيا-، لم يكن من الطبيعي ان تثور الجماهير المغلوبة على أمرها في العالم العربي، بهذه الطريقة الحضارية الإنسانية المذهلة، كان من المنتظر ان تتفجر المجتمعات من داخلها، ولايحدث التغيير إلا بمخاضات عنيفة وطويلة الأمد، أو عن طريق كوارث طبيعية أو سياسية خارجية أو حروب عالمية، أما أن يأتي التغيير بهذا الشكل الإنساني المذهل فهو ظاهرة مذهلة بحاجة إلى الدرس والتمحيص والمراقبة، بصرف النظر عن هذه الاغوال التي تريد أن تنحرف بالثورة وترغمها على حمل السلاح أو تغيير مسارها.
انظروا معي الى ثورة اليمن، هذا الشعب الذي أثبت أنه من أكثر شعوب العالم تحضرا، والذي يمتلك أكثر من خمسين مليون قطعة سلاح ولكنه لم يستعمل أيا منها على الرغم من ضغط "الأسرة المتحكمة " في البلاد لدفع الناس نحو حرب أهليه، وهذا هو الشعب السوري الذي يذبح ويفرم ويغتصب على مرأى ومسمع من العالم، وهو ثابت محتسب، يقوم بثورته في أجواء احتفالية تنسي المراقب هول الفظائع التي ترتكب بحقه، ومثله الشعب الليبي المغلوب على أمره بسبب الطبيعة الجغرافية لليبيا وقلة عدد السكان وقيامها على بحر من النفط، ولولا ذلك ماحمل الليبيون السلاح، ولاكانوا عرضة للاختراق الدولي المستكبر الذي انقض على الثورات وركب قطارها وهو ليس صاحب فضل فيها ألبتة.
إن هذه الثورة الإنسانية العظمى في المنطقة العربية، لهي ظاهرة استثنائية في التاريخ البشري اليوم، من حيث الأهداف، والدوافع، والأبعاد الاستراتيجية لأمة مللت من أن تكون مستعمرة، وهذا على الرغم من أن تحررها الكامل من الاستعمار لن يكون قريبا، "بفضل" هذه الغيلان التي كانت تحكمها بالنيابة، والتي تتشبث بالكراسي تشبث الروح بالجسد،– في غيبة من الشعوب التي اشتعلت بسفاسف الأمور وتخلت عن منظومتها الاخلاقية الحضارية ردحا من الزمان- استولت أسر "مجرمة" هنا وهناك على مقاليد الحكم، فحكمتنا تارة باسم القبيلة وتارة باسم الطائفة، وكثيرا مافعلوه باسم القضية المسكينة والقضية منهم براء، والأصل هو اختطاف أسرة لشعب وبلد والاستيلاء على مقدراته وثرواته واستعباد اهله.
إنها ثورة جديرة بالاحترام والاعجاب والدهشة، لانها فعل إنساني سلمي حضاري في منطقة طالما اختطفت باسم التدين والعنف والطائفية والفسيفسائية، إنها ثورة الإنسان عندما يشب عن طوق المعتاد في حياته البائسة، وينمو بسرعة رهيبة، ليتجاوز الحركات الدينية والسياسية والمخططات الاستعمارية والاستيطانية والاستلابية والاستكبارية، ويخالف فطرته،كالليل يخالف فطرته ويضيء.."كما يقول تميم البرغوثي الشاعر الشاب الفلسطيني".
ثورة لايد فيها للخارج ولا للحركات السياسية ولا الدينية ولا الأشخاص لا الكبار منهم ولا المرموقين ولا المعروفين، ثورة الشعب بأبنائه بأمواجه التي تكتسح كل شيء، بروحه المتطلعة إلى الخلاص من الأدران السياسية والاجتماعية بأبطاله المغمورين الذين لاأسماء لهم، يظهرون لنا في نشرات الأخبار وقد اجتثت حنجرة هذا، وفجر وجه ذاك،وقتلت الغيلان في ليبيا ذلك وهو يرفض ان يقول "الله ليبيا معمر"، وتتلوى أجسادهم الغضة النحيلة تحت ضغط الغازات السامة في تعز وصنعاء!!….بشبابها ونسائها وأطفالها ومساجدها وكنائسها واهازيجها واناشيدها ودمائها واختراعاتها المبدعة المذهلة وقد أخرجت لنا من طاقية الإخفاء الاستبدادية أسماء مدننا وشوارعنا وساحاتنا وقرانا، ووجوها ليبية، وسورية، ويمنية، وتونسية، ومصرية، ماكنا نظن وجودها، ثورة اعادت الحياة للأمة، وأعادت لها وجودها على خارطة العالم كما على خارطة قهرنا الممتدة من المحيط إلى الخليج، ثورة بأسلحتها العجيبة: لا للعنف، لا للطائفيةوالفسيفسائية العرقية والدينية، لا لطلب التدخلات العسكرية، نعم للاخلاق، نعم للثبات والرباط والصبر، نعم للمصداقية والطهر والغد والفجر والتحرر والكرامة والحياة.
نعم لتغيير كل شيء في حياتنا بدءا من إفهام الرؤساء انهم خدم لدى الامة إلى إفهام الشعوب بانهم ليسوا عبيدا لأحد.
 
ما انعكاسات هذه الثورات واقع المنطقة بأكملها؟ وما هي أبرز التحديات التي تواجهها؟
هذه الثورة بدات من سيدي بوعزيز في تونس، وشبت نيرانها في هشيم حياتنا الكئيبة المستنقعية، ولن تتوقف..ستغير وجه المنطقة كلها بإذن الله، سلبا أو إيجابا، هذا يتوقف على قدرة الشعوب على الصمود والرغبة في التغيير، لن يكون هنالك أحد في المنطقة العربية كلها بمنأى عن هذه الثورة، ومهما فعلت هذه الانظمة لتلافي أن تشب النار في أطراف ثيابها، ستصل الثورة الى كل بيت وزنقة ومسجد وكنيسة ورأس وفكر وسلوك وحكومة ومجلس شعب وكتاب وعمود صحفي، ستصل بإذن الله الى كل مدرسة سوق ودبابة وبندقية، وسيتعلم "العرب" أن يصوبوا بنادقهم إلى الأعداء ردعا لاعدوانا، وسيتعلمون كيف يعودون الى الحياة بعد كل هذا الموات الذي دفنوا أنفسهم فيه.
تحديات الثورة أكثر من أن تعد وتحصى، بدءا من النظام الدولي، والقوى الاستعمارية العالمية التي تريد للمنطقة ان تبقى راكعة مكسرة الرُكب، مرورا بالقوى الإقليمية وشبكة علاقاتها مع الأسر التي اختطفت البلاد في المنطقة، وإسرائيل..إسرائيل، السرطان المؤبد في أحشائنا، وانتهاءا بصغار الآدميين من المنتفعين من الأوضاع القديمة ومن المنافقين والمتسلقين وأصحاب الضمائر المنخورة والنفوس القذرة.
لكن اعظم التحديات ستأتي من أنفسنا نحن، أبناء هذه الشعوب التي قهرت طويلا وأذلوها طويلا ونهبوها حتى صارت البلاد قاعا صفصفا، التحدي هو أن لايستطيع الإنسان في المنطقة أن يرتقي الى مستوى الحدث، وأن تحاول الحركات والاحزاب التقليدية اختطاف الثورة دون ان تكون لديها القدرة على إحداث ثورة في كياناتها وهياكلها ومبادئها وتفكيرها وسلوكها، التحدي هو أن ندعي وصلاً بالثورة ونحن لانفقه من الثورة إلا الوصول الى كرسي الحكم، التحدي هو أن نسقط في مهاوي عجزنا عن أن نطور أنفسنا وأفكارنا وأخلاقنا وسلوكنا، التحدي في أن لاتترك الأجيال القديمة مكانا للأجيال الجديدة لاستلام الدفة وتسيير الركب بما تقتضيه المرحلة، وليس بموروثات القهر والاستبداد والارتكاس والأمراض المتراكبة.
التحدي هو أن نجهض الثورة بأيدينا، سلما أو سلاحا، وتضيق أنفسنا، فلا نفقه أن الثورات تحتاج إلى وقتها وضحاياها ومساحاتها إنسانيا واجتماعيا حتى تؤتي أُكلها.
 
الإعلام: كيف تقوِّمين دوره وتأثيره في الثورات العربية؟
لايوجد إعلام حر في عالمنا اليوم، ولكن يوجد من هو أكثر مصداقية من غيره،ومن هو أكثر إنسانية من غيره، ومن يعمل فيه رجال ونساء أكثر مهنية والتزاما بقضايا الأمة من غيرهم،ويوجد إعلام تتطابق توجهات القائمين عليه مع رغبة الجماهير، أو يتوافق مايعلن ويبدو من توجهات مالكيه مع ماتريد التعبير عنه قطاعات واسعة من الجماهير.
بعد هذا التوضيح الهام والضروري،أظن أن أهم وسائل الإعلام الرئيسية –غير الحكومية وغير الرسمية -الناطقة بالعربية، والإعلام الالكتروني لعب دورا هائلا جدا في دعم هذه الثورات، وينبغي لكل حر ان يقف احتراما للدور الكبير جدا الذي لعبه رجال ونساء قنوات إخبارية مثل البي بي سي الناطقة بالعربية، والعربية، والجزيرة بكل فروعها، والحوار، في هذه المعركة التي كانت إعلامية بنفس القدر الذي كانت فيه مصيرية في ساحات الرعب والسحل والفرم والتعذيب في ليبيا وسورية على وجه الخصوص، خاصة في تلك الفترة التي ماكانت الجزيرة نفسها تريد الحديث عن الثورة السورية،وقد تأخرت عن تغطية أحداث سورية سبعة عشر يوما ن كان الإعلاميون العاملون فيها يتمزقزن غيظا وقهرا من هذا الموقف بالغ الحرج بالنسبة إليهم، وحتى الساعة وعلى الرغم من مرور خمسة اشهر على اندلاع الثورة في سورية، وعلى الرغم من التغطية الكاملة الشاملة الجيدة للثورة في سورية، لم ينزل لسورية إعلان ثوري خاص بها في هذه القناة التي يحترمها الجميع.
لولا الإعلام لما سقط القناع عن عائلة "قذاف الدم" – وهذا اسم العائلة الأصلي- التي اختطفت دولة وشعبا باسم الجماهير، وباسم الاشتراكية، وباسم حكم الشعب، وإلى آخر هذه الترهات التي تمخضت عن رجل مجنون وأبناءه الذين استولوا على كل شيء، من تفكير الناس، إلى صياغة كلامهم، إلى سلوكياتهم، وحتى أموالهم ودمائهم وماضيهم وحاضرهم، لولا الإعلام ماسقط القناع عن الممانعين والمقاومين، من عصابات أسرة "الوحش" في سورية – وهذا هو اسم العائلة الحقيقي-، مصاصوا الدماء السورية، مغتصبوا الفتيان، الذين يدّعون مقارعة العصابات المسلحة، وهم يمضون في طول سورية وعرضها دمارا ونهبا وزلزلة، يريدون أن يمنعوا طلوع الشمس، وقد نسوا أن الليل كان هناك يعسعس بينما الصباح يتنفس، وقد أذن الفجر في سيدي بوعزيز، ولارادّ لأمر الله، وقد أتى أمره.. أراد الشعب، واستجاب الرب للدعاء، وبقي أن يستمر الشعب في الصمود حتى استكمال المسيرة 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين