هيبة العلماء

بقلم العلاّمة الشيخ محمد صالح فرفور (رحمه الله تعالى)
(إن أراد العالم بعلمه وجه الله عز وجل هابه كل شيء)
هكذا أجاب حمّاد بن سلمةَ (1) حينما أرادوا منه أن يأتي ديوان الأمير محمد بن سليمان (2) ليسأله عن فتوى , وقد أرسل له من يبلغه ذلك . قال مُقاتل بن صالح الخراساني :
دخلت على حمَّاد في بيته فلم أجد إلا حصيرا ً جالسا ً عليه , وبيده مصحف يقرأ فيه , وجراب فيه الكتب , ومطهرةٌ يتوضأ منها , وليس في البيت أثاث ولا رياش , فمكثت قليلا ً وأنا جالس أفكر في هذا الرجل وبيته , فبينما أنا جالس دُقَ الباب , فقال حمّاد بن سلمة :
يا صبية............اُخرجي فانظري مَن ْ هذا ؟
فقالت : رسول ٌ من محمد بن سليمان , قال : قولي له يدخل وحده , فدخل , فناوله كتابا ً , فإذا فيه : بسم الله الرحمن الرحيم , من محمد بن سليمان إلى حمّاد بن سلمة , أمَّا بعد , فصبَّحك الله بما صَـبَّح به أولياءه و أهل طاعته , وقعت مسألة فأتينا نسألك عنها , والسلام .
وظنَّ أنه سيجيب فرحا ً مسرورا ً بدعوة الأمير إليه , كما يفرح ُ كثير ٌ من العلماء بدعوة الأمراء إياهم .
قال : يا صبية , هاتي الدواة , ثم قال لي : ....... اقلب الكتاب واكتب على ظهره :
(أما بعد : وأنت فصبَّحك الله بما صبَّحَ به أولياءه وأهل طاعته , إنا أدركنا العلماء وهم لا يأتون أحدا ً , فإن وقعت لك مسألة فأتنا وسَل عما بدالك , ثم لا تأتني بخيلك ورجلك , فلا أنصحك ولا أنصح نفسي , والسلام ) .
وصَل الكتاب إلى محمد بن سليمان , فتسرب لقلبه إخلاص حمَّاد وعزته للعلم والعلماء , وجاء يسعى إلى دار حمَّاد ليسمع الفتوى , وينزل بمجالس العلماء التي تحيا بها القلوب , وينجلي صداها .
فدُق َّ الباب , فقال : يا صبية :
......اُخرجي وانظري من في الباب؟
قالت : ........ محمد بن سليمان.
قال : قولي له : يدخل وحده ليس معه أحد .
فدخل غرفة حمَّاد , وقد علت هيبتُه هيبةَ الملك , لا يدري من أين تسربت إليه , وجلس مُحتشما ً مُتهيبا ً , كأنما هو أمام ملك عظيم مهيب , ثم قال -وهو يتلعثم في كلامه-:
.......مالي إذا نظرتُ إليكَ امتلأتُ منك رُعبا ً ؟
فقال حمَّاد :
( إذا أراد العالم بعلمه وجه الله هابه كل شيء , و إن أراد بعلمه الكنوز هاب من كل شيء) .
فسكت محمد بن سليمان , وقال في نفسه : صدق والله , إنَّ عظمة العلم مع الإخلاص فوق عظمة المُلك , و إنَّ هيبة العلماء لا تكون إلا أن يقصدوا بعلمهم وجه الله , فإن قصدوا في علمهم الكنوز والدنيا أذهب الله هيبتهم من قلوب العباد .
ثم سأله مسألة ً فأفتى له بها , وقام ابن سليمان وعرض عليه مالا ً , وظن أنه يقبله لما به من فقر مدقع (3) وعَوَز , ولكن حمّادا ً ردَّه , ولم يقبل منه شيئا ً,و آثر دينه على دنياه .
أقولُ : (هكذا كان العلماء في الصّدر الأول , يقنعون بالقلة والفقر , فلا يأتون الأمراء إلا لحاجة الأمة , لأنهم قصدوا بعلمهم وجه الله , ونبذوا الجاه والدنيا وراءهم ظِهريا ً, فوقفت بأبوابهم الملوك والأمراء , وكساهمُ اللهُ هيبة ً فوق هيبةِ الملك والسلطان .
ــــــــــــــــــــ
1- حماد بن سلمة بن دينار البصري الربعي بالولاء , أبو سلمة , مفتي البصرة و أحد رجال الحديث , كان حافظا ً ثقة مأمونا ً , وكان إماما ً فقيها ً فصيحا ً , شديدا ً على المبتدعة , وله تصانيف توفي سنة 167هـ .
2- محمد بن سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس العباسي أبو عبد الله أمير البصرة , وليها أيام المهدي , وعزل , وأعاده الرشيد , وزوّجه أخته العباسة ابنة المهدي , وكان غنيا ً نبيلا ً ولد سنة 122 هـ وتوفي سنة 173 هـ . الأعلام
3- المُدقع : الفقير الذي قد لصق بالتراب من الفقر , وفقر مدقع : أي ملصق بالدقعاء , يعني التراب , اهـ لسان العرب

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين