كيف يتلذذ السادي بقتل شعبه

                                 الدكتور عثمان قدري مكانسي

 
ونحن صغار كنا نقرأ عن إحراق نيرون عاصمته روما لشعوره بالخطر الذي يتهدده في إقصائه عن السلطة ، فكنت أقول في نفسي : أمعقول أن يطلب المرء سيادة شعب لا يريده ، ويفرض عليه نفسه بقوة السلاح ، فإذا لم يصل إلى هدفه أمعن في شعبه قتلاً وتشريداً وحرقاً وتدميراً؟
ثم حين وعينا أكثر وبدأنا نقرأ القرآن الكريم بفهم وتدبر رأينا فرعون يستعبد شعبه ويقول لهم : (ما علمت لكم من إله غيري) وكأن رؤيته وحدها حسب ظنه الواهي - هي الواعية الثاقبة ، ورأي غيره هباء منثور! وتساءلنا أهذا يحصل في البشر أصحاب العقول النيّرة؟! ثم تزداد الوتيره حين يقرر أنه الإله الأوحد وأن مصر ملك شخصي له يفعل بها ما يشاء ، فلا يرى هنا غير ذاته عليّة ومسددة حين يقول بصفاقة ( أنا ربكم الأعلى). ونقول : أمر عجيب أن لا يرى الإنسان غير نفسه ولا يعبأ بالآخرين ، أو لايراهم ابتداءً .
وتتالت هذه التساؤلات في قصة تيمورلنك في حروبه ، وفي تدمير الصليبيين للمسجد الأقصى وقتل سبعين ألفاً في ساحته حتى سالت الدماء إلى الركب ، وتتالت الصور في ذاكرة الفتيان ، فالحرب العالمية الأولى تطحن سبعة عشر مليوناً ويبيد قادة الاتحاد السوفياتي شعب الشيشان المسلم ويحمل الباقي إلى مجاهل سيبيريا ، وتمر في ذاكرتنا صور الإبادة الجماعية في أماكن متعددة ومتفرقة في العالم ، فنقول : هذا يحصل في بلاد الفساد والكفر التي لا تحسب للآخرة حساباً وترى حياتها في الدنيا فقط ، فلا تأبه للدين ولا للخلق ولا للحقوق الإنسانية .
ثم نكبر ونبلغ مبلغ الرجال فنرى في بلادنا سورية قانونا يحكم بالإعدام على مساحات واسعة من جيلنا لأنهم خالفوا رغبة الحاكم المتأله ، ويصدر قانونُ العار عام ثمانين وتسع مئة وألف ، ويبيد هذا المتأله في مجازر عديدة في سورية عشرات الآلاف ، ثم يختمها في ذلك الوقت بمذابح يشيب لهولها الولدان في حماة الباسلة بعد عامين اثنين من ذلك التاريخ ويدمر أحياء كاملة ، وكأنه يذبح دجاجة أو دجاجتين ولا تهتز في جسمه شعرة واحدة ، بل يقتل عشرات الآلاف من المعتقلين ولا ترمش له عين .
فإذا ما جاء بعد وريثه – وكأننا في مملكة – يسلب الحكم فيها ويفرض بقوة الحزب والسلاح نفسه بعد أبيه قلنا : لعله شاب متنوّر يسير غير سيرة أبيه فقد تعلم في بلاد الديموقراطية ، وكم من ولد خالف حياة أبيه ورفع ظلمه من بعده . ويعد هذا وعوداً يتبين بعدها أنها حبر على ورق أو كلمات جوفاء في ظلام الصحراء ، فقد أعلن بعد عشرة أعوام من حكمه أن ما قاله لم يكن وعوداً وإنما رؤية رآها لا تفرض عليه سلوكاً معيناً ولا خطاً معتمداً . وهذا يعني أنه جاء ليرث مزرعة أبيه بما فيها من خدم وعبيد ، ولا يحق للعبيد أن ينبسوا ببنت شفة . فهو يفعل بهم ما يشاء . وصدق المثل القائل :
              كلا الأخوين ضراط ولكن ***** شهاب الدين أضرط من أخيه  
والأنكى من ذلك أن الناس – لشدة الظلم والفساد في عهده - بدأوا يترحمون على النباش الأول ، وما أدراك ما النباش الأول! فما إن أعلن الشعب أنه يريد الإصلاح – أول الأمر – حتى بدأت الاعتقالات وحملات التغييب والمداهمات وكأن كلمة الحرية والمطالبة بالحقوق البشرية ليس لها في قاموس نظام آل أسد مكان ولو كان في قمقم قارورة صغيرة . فلما رفع الشعب بعد طول زمن صوته ينادي بآدميته انهالت عليه أدوات القمع من أمن النظام وجيشه وزبانيته قتلاً وذبحاً واعتقالاً ، فما ينبغي أن يرتفع في سورية سوى صوت الإجرام والفساد الأسدي المتمثل في بطانة دموية ووسائد نتنة وأتباع مخبولين ومصاصي دماء .
في سورية اليوم حمام دماء تنبثق منها ينابيع الحرية ، وفي سورية اليوم براكين غضب تتفجر عن سيل هادر من الكرامة والإباء ، وعلى الرغم من آلاف القتلى وعشرات الآلاف من المعتقلين والمغيبين ، وعشرات الآلاف من الجرحى فإن الشعب مصمم على إسقاط النظام الدموي في بلادنا الحبيبة .
ولكن ما بال النظام ورئيسه يمعن في القتل وسفك الدماء وهو وشك الانتهاء والسقوط المريع في حفرة الفناء إلى الابد إن شاء الله تعالى؟ .. لماذا الإسراع في تحريك آلة الموت وأنت على وشك السقوط وكان أولى بك أن تعي وتعقل وتعتذر إلى شعبك وتقر بالخطإ وتعترف بالذنب؟ عساه يرحمك وأنت لا تستحق الرحمة ، وعساه يعفو عن جرائمك وأقل ما يجب فيك تقطيع الأوصال كما قطعت أوصال عشرات الآلاف ودمرت حياة الآمنين ؟ ولكنه السادية في وضاعة الأصل وسفاهة العقل وبلادة الشعور والإحساس.
في كلمة واحدة معبرة عن الواقع أقول : قبل انبثتق ضوء الحرية يزداد الظلام ، لكنه يتبدد سريعاً غير مأسوف عليه . ولئن قضى آلاف الشباب في هذه الثورة المباركة ، فإنهم في مقعد صدق عند مليك مقتدر سبقونا إلى رب رحيم وجنة عرضها السموات والأرض : فهناك الحياة الحقيقية ، وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور ، وما حياتنا في هذه الدنيا إلا اختبار وتمحيص .
أرأيتم أننا الرابحون الحقيقيون في الدنيا والآخرة ؟ هكذا نفكر وهكذا نؤمن ، وهذه هي الحقيقة التي يسهو عنها من ليس يملك قلباً سليماً ولا عقلاً متدبراً ولا فهماً ناقداً .  
   

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين