حدث في الخامس عشر من شوال

 في الخامس عشر من شوال في سنة 86 توفي، عن 60 عاماً، عبد الملك بن مروان بن الحكم الأموي القرشي، خامس الخلفاء من بني أمية، وأحد أعاظم الخلفاء ودهاتهم.

ولد عبد الملك في المدينة المنورة سنة 26، وشهد وهو ابن عشر سنين مع أبيه الدفاع عن عثمان رضي الله عنه المسمى بيوم الدار، وطلب العلم قبل الخلافة وجالس العلماء والفقهاء وحفظ عنهم وسمع من عثمان بن عفان وأبي هريرة وأبي سعيد الخدري وجابر بن عبد الله ‏وعبد الله بن عمر وغيرهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان قليل الحديث، فقيهاً واسع العلم، متعبدا، ناسكاً.
قيل لابن عمر: إنكم معشر أشياخ قريش توشكوا أن تنقرضوا، فمن يُسأل بعدكم؟ فقال: إن لمروان ابناً فقيهاً فسلوه. ومدحه فقال: وَلَدَ الناسُ أبناء ووَلَدَ مروانُ أباً. ومن كلام الشعبي: ما ذاكرت أحدا إلا وجدت لي الفضل عليه، إلا عبد الملك، فما ذاكرته حديثا ولا شعرا إلا زادني فيه.
ولما تولى معاوية رضي الله عنه الخلافة سنة 41 جعله والياً على المدينة وهو ابن 16 سنة،  وكان به معجباً، دخل عبد الملك بن مروان على معاوية وعنده عمرو بن العاص، فسلم وجلس فلم يلبث أن نهض، فقال له معاوية: ما أكمل مروءة هذا الفتى! فقال عمرو: إنه أخذ بأخلاقٍ أربعة وترك أخلاقاً ثلاثة: أخذ بأحسن البِشرِ إذا لُقيَ، وبأحسن الحديث إذا حدَّث، وبأحسن الاستماع إذا حُدِّث، وبأيسر المؤونة إذا خولف، وترك مزاح من لا يثق بعقله، وترك الكلام فيما يُعتذر منه، وترك مخالفة لئام الناس.
وفي سنة 65 توفي والده بعد سنة واحدة من توليه الخلافة، وكان قد عهد إلى عبد الملك بالخلافة، فتولاها وسنه 39 عاماً، فضبط أمورها وظهر بمظهر القوة، فكان جبارا على معانديه، قوي الهيبة.
وكان أقرب تهديد لملكه يأتيه من قبل عمرو بن سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس ابن عبد مناف، فإنه كان يرى نفسه أحق بالخلافة، وتمرد عليه ثم أمَّنه عبدُ الملك، وأقام بضع سنين يزاول قتله، فمرة يرجئه، وأخرى يهم به، ومرة يحجم، وأخرى يقدم، حتى قتله سنة 69 وأمن تمرده.
وكان عبد الله بن الزبير رضي الله عنه قد أعلن نفسه خليفة في مكة، وأرسل أخاه مصعب والياً على العراق، فسار عبد الملك  إلى العراق سنة 71 وقتله، ودخل الكوفة فصعد المنبر وقال: أيها الناس إنَّ الحرب صعبة، وإنَّ السلم أمن ومسرة، فاستقيموا على سبيل الهدى، ودعوا الأهواء الموجبة للردى، وتجنبوا فراق جماعة المسلمين، ولا تكلفونا أفعال المهاجرين الأولين وأنتم لا تعملون أعمالهم، ولم تسلكوا سبيلهم، ولا أظنكم تزدادون بعد الموعظة إلا صعوبة، ولن تزدادوا بعد الإعذار إليكم إلا عقوبة، فمن عاد عدنا، وإن زاد زدنا.
ولما صفت لعبد الملك بن مروان  الشام ودانت له العراق، وقمعَ الخارجيَّ ابن الأشعث، أرسل الحجاج بن يوسف الثقفي لقتال عبد الله بن الزبير في مكة، فانهزم عبد الله واحتمى بالحرم، فحاصره الحجاج فيه ورماه بالمنجنيق حتى خذله أصحابه وانفضوا من حوله، وقُتِلَ عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما.
ولما فرغ الحجاج من أمر عبد الله بن الزبير دخل مكة فبايعه أهلها لعبد الملك بن مروان، وأمر بكنس المسجد الحرام من الحجارة والدم، وهدم الكعبة في سنة 74، وكان ابن الزبير قد أعاد بناءها وأدخل فيها حِجْرَ إسماعيل فأعادها الحجاج إلى البناء الأول وأخرج الـحِجْرَ منها، وكان عبد الملك يقول: كذب ابن الزبير فيما رواه عن عائشة رضي الله عنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر إعادة بناء الحجر، وأنه من البيت. فلما قال له العلماء: إن عائشة رضي الله عنها روت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: وددت أني تركتُه وما تحمَّل.
وفي سنة 73 اجتمعت على عبد الملك كلمة المسلمين بعد مقتل مصعب وعبد الله ابني الزبير، وكتب إليه بالبيعة عبدُ الله بن عمر: لعبد الملك بن مروان، من عبد الله بن عُمر: سلامٌ عليك، فإني أقررتُ لك بالسَّمع والطاعة على سُنة الله وسُنة رسوله صلى الله عليه وسلم. وبيعةُ نافع مولاي على مثل ما بايعتُك عليه.
وكتب إليه أخو الحسن والحسين محمدُ بن علي بن أبي طالب المعروف بابن الحنفيّة ببيعته، وكان في كتابه: إني اعتزلتُ الأمة عند اختلافها، فقعدتُ في البلد الحرام الذي مَن دخله كان آمناً، لأُحْرزَ ديني وأمنعَ دمي، وتركتُ الناسَ ﴿ قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا ﴾، وقد رأيتُ الناسَ قد اجتمعوا عليك، ونحن عصابة من أمتنا لا نُفارق الجماعة، وقد بعثتُ إليك منّا رسولا ليأخذ لنا منك ميثاقا، ونحن أحق بذلك منك، فإن أبيتَ فأرضُ اللّه واسعة، والعاقبة للمتقين.
فكتب إليه عبدُ الملك: قد بلغني كتابُك بما سألتَه من الميثاق لك وللعصابة التي معك، فلك عهد الله وميثاقه أن لا تُهاج في سلطاننا غائباً ولا شاهداً، ولا أحد من أصحابك ما وَفَوْا ببيعتهم، فإن أحببتَ المُقام بالحجاز فأقم، فلن نَدع صِلتك وبِرَّك، وإن أحببتَ المُقام عندنا فاشخَص إلينا، فلن نَدع مواساتك، ولعمري لئن ألجأتُك إلى الذهاب في الأرض خائفاً لقد ظَلمناك، وقَطعنا رَحِمك.
وكتب عبد الملك إِلى الحجاج بن يوسف تهييج الفتنة والتعرض لهؤلاء الأعلام: لا تَعْرِض لمحمد ولا لأحد من أصحابه، وكان في كتابه: جنّبني دماء بني عبد المطلب، فليس فيها شِفاء من الحَرَب، وإني رأيتُ بني سفيان بن حَرْب سُلبوا ملكهم لما قَتلوا الحسين بن علي. فلم يتعرض الحجاج لأحد من الطالبيّين في أيامه.
أما منهج عبد الملك بن مروان في الحكم، فقد بيِّنه للصحابي ثعلبة بن أبي مالك القُرَظي رضي الله عنه، فقد التقيا في الحج واختلفا في أمر من أموره، وكان عبد الملك يتبع فيها عثمان بن عفان، وثعلبة يتبع عمر بن الخطاب رضي الله عنهم: قال ثعلبة: قال عبد الملك لي: رحم الله عمر، لَعثمانُ كان أعلمَ بعمر؛ لو كان عمرُ فعل هذا لاتَّبعه عثمان، وما كان أحدٌ أتْبَعَ لأمر عمر من عثمان، وما خالف عثمانُ عمرَ في شئ من سيرته إلا باللين، فإن عثمان لان لهم حتى رُكِب، ولو كان غَـلَّظَ عليهم جانبه كما غلظ عليهم ابن الخطاب، ما نالوا منه ما نالوا، وأين الناس الذين كان يسير فيهم عمر بن الخطاب والناس اليوم يا ثعلبة؟! إني رأيت سيرة السلطان تدور مع الناس، إن ذهب اليوم رجلٌ يسير بتلك السيرة أُغيرَ على الناس في بيوتهم وقُطِعتْ السُبل وتظالم الناسُ وكانت الفتن، فلا بد للوالي أن يسير في كل زمان بما يصلحه. وقال: الفرقُ بين عمرَ وعثمانَ أنَّ عمر ساء ظنُّه فأحكم أمره، وعثمانَ حسن ظنه فأهمل ‏أمره.‏
وقال عبد الملك بن مروان لمؤدب ولده: علِّمهم الصدق كما تعلمهم القرآن، واحملهم على الأخلاق الجميلة، وروِّهم الشعر يشجعوا وينجدوا، وجالس بهم أشراف الناس وأهل العلم منهم، ووقرهم في العلانية، وذللهم في السر، واضربهم على الكذب، إن الكذب يدعو الى الفجور، والفجور يدعو الى النار، وجنبهم شتم أعراض الرجال، فان الحر لا يجد من عرضه عوضاً، واعلم أن الأدب أولى بالغلام من النسب.
ووقعت منازعة بين عبد الملك بن مروان في شبابه وعبد الرحمن بن خالد بن الوليد، فغلبه عبد الرحمن، فقيل لي: اشكه إلى عمك ينتقم لك منه؛ فقال: مثلي لا يشكو، ولا أعد انتقام غيري لي انتقاما. فلما استُخلِف ذكروه بذلك فقال: حقد السلطان عجز.
وكان عبد الملك بن مروان لا يستهين بخصومه ويعرف لهم أقدارهم، ذُكِر أمامه عمرو بن سعيد بعد أن قتله فقال: كان والله ذا طيٍّ لسرّه، نموماً بإعطاء ماله، فارغَ القلب بفَهمِ من حدّثه، مشغول القلب بمعرفة ما أشكل عليه. وشهد عبد الملك لخصمه مصعب بن الزبير بكمال مروءته، فقد قيل له وهو يحارب مصعباً: إن مصعباً قد شرب الشراب – يعني الخمر - فقال عبد الملك: مصعب يشرب الشراب؟ و الله، لو علم مصعب أن الماء ينقص من مروءته، ما رَويَ منه.
ومن محاسن عبد الملك بن مروان تأسيس كثير من قواعد الدولة وإجراءاتها، ومن أهمها نقل دواوين الدولة من الفارسية والرومية إلى العربية، أمر سليمان بن سعد أن ينقل الديوان إلى العربية، فلم تنقضِ السنة حتى فرغ من الديوان ونقله، وأتى به عبد الملك فدعى سرجون الرومي كاتبه فعرضه عليه، فغمَّه وخرج كئيبا، فلقيه قوم من كتاب الروم، فقال لهم: اطلبوا المعيشة من غير هذه الصناعة فقد قطعها الله عنكم.
 وضُبِطت في أيام عبد الملك الحروف بالنقط والحركات، وهو أول من صك الدنانير في الإسلام، وكان عمر بن الخطاب قد صك الدراهم، وعبد الملك هو أول من نقش بالعربية على الدراهم، ولذلك قصة طويلة ليس هنا موضعها.
توفي عبد الملك في دمشق وعهد لابنه الوليد بالحكم من بعده، ولما حضرته الوفاة أوصى بنيه فقال: يا بَنيَّ، أوصيكم بتقوى الله، فإنها أحصن كهف، وأزين حلية، ليعطف الكبير منكم على الصغير، وليعرف الصغير منكم حقّ الكبير، وإياكم والاختلاف والفرقة، فإن بها هلك الأولون قبلكم، وذلّ ذوو العدد والكثرة، انظروا مَسلَمة فاصدروا عن رأيه، فإنه مِـجنَّـكم الذي به تستجِنّون، ونائبكم الذي عنه تفترُّون، أكرموا الحجّاج فإنه وطَّأ لكم المنابر، وكونوا عند القتال أحرارا، وعند المعروف منارا، وكونوا بني أمّ بررة، لكم حلاوة في مرارة، ولين في شدّة.
ثم أقبل على الوليد وقال: يا وليد، اتق الله فيما أخلفك فيه، واحفظ وصيتي، وخذ بأمري، وانظر أخي معاوية، فإنه ابن أمي، وقد ابتُلِيَ في عقله بما قد علمت – وكان أحمقاً - ولولا ذلك لآثرتُه بالخلافة عليك، فصِلْ رحِمه واعرف حقه، واحفظني فيه. وانظر أخي محمد بن مروان فأقرره على عمله بالجزيرة ولا تعزله عنه، وانظر أخاك عبد الله بن عبد الملك، ولا تؤاخذه بشيء كان في نفسك عليه، واقرره على عمله بمصر. وانظر ابن عمنا هذا علي بن عبد الله بن عباس فإنه قد انقطع إلينا بمودته وهواه ونصيحته، وله نسب وحق، فصل رحمه، واعرف حقه، وأحسن صحبته وجواره. وانظر الحجاج بن يوسف فأكرمه فإنه هو الذي وطئ لكم المنابر، وهو سيفك يا وليد، ويدك على من ناوأك، فلا تسمعن فيه قول أحد، واجعله الشعار دون الدثار، وإن كان في نفسك عليه إحْنَة فلا تؤاخذه بها، فإن الإحنة ليست من الخلافة في شيء، وأنت إليه أحوج منه إليك.
ولا ألفينك إذا أنا مت تعصر عينيك، وتخنُّ خنينَ الأَمَة، شمر وائتزر والبس جلد النمر، وضعني في حفرتي، وخلني وشأني، وعليك بشأنك، وخذ سيفي هذا، فإنه السيفُ الذي قتلتُ به عمرو بن سعيد، وادع الناس إلى البيعة، فمن قال بسيفه هكذا فقل بسيفك هكذا.
وكان أكبر ابنائه مَسلمة بن عبد الملك موصوفاً بالشجاعة والإقدام والرأي والدهاء، ولي أرمينية وأذربيجان غير مرة، وإمرة العراقين، وسار في مئة وعشرين ألفاً وغزا القسطنطينية في خلافة سليمان أخيه، وروى عن عمر بن عبد العزيز، وهو مذكور في سنن أبي داود وكانت وفاته سنة 120.
وتزوج عمر بن عبد العزيز فاطمة بنت عبد الملك بن مروان،  طلبه عبد الملك من المدينة إلى دمشق، فزوجه ابنته فاطمة

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين