حدث في الثالث عشر من شوال

 

في الثالث عشر من شوال من سنة 384 توفي في بغداد، عن 71 عاماً، أبو إسحاق الصابئ، إبراهيم بن هلال الحرّاني، نابغة كُتَّاب جيله، كان بليغاً في النثر والشعر، وصاحب يد طُولى في الرياضيات والفلك. والصابئة يعرفون بالكلدانيين اليوم.
ولد سنة 313 في بغداد لعائلة أصلها من حران - في جنوب تركيا اليوم - ونشأ وتأدب ببغداد، وكان أسلافه يُعرَفون بمهنة الطب، ومال هو إلى الأدب، فتقلد دواوين الرسائل والمظالم تقليداً سلطانياً في أيام المطيع لله العباسي، ثم قلده معز الدولة الديلمي ديوان رسائله سنة 349 فخدمه، ثم توفي معز الدولة سنة 356 فخدم بعده ابنه عز الدولة بختيار، ووقع صراع بين عز الدولة وعضد الدولة  فكانت تصدر عنه مكاتبات إلى عضد الدولة ابن عم بختيار بما يؤلمه فحقد عليه.
وفي سنة 363 جرت فتن داخلية في مملكة عز الدولة استغلها ابن عمه عضد الدولة ليخلعه ويستولي على بغداد، وكاد ذلك أن يتم له لولا أن والده ركنَ الدولة أنذره أن يصالح ابن عمه ويعيده إلى عرشه، وفي هذه المرحلة تعرف عضد الدولة على الصابئ وأكرمه وقدَّمه، وحاضره وذاكره، وطلب منه الخروج معه إِلى فارس، فعزم على ذلك ووعده به، ثم نظر في عاقبة الأمر وأن أحوال أهله والصابئة تفسد بغيبته فتأخر عنه، وبقي في بغداد
ولما تقرر الصلح بين عز الدولة وبين ابن عمه عضد الدولة، تقدم عز الدولة إلى الصابي بإنشاء صيغة قَسَم بين الطرفين على احترام الاتفاق، فكتب القسم واستوفى شروطه حق الاستيفاء، فلم يجد عضد الدولة مجالاً إلى نكث هذا القسم.
ولما قُتِلَ عز الدولة وملك عضد الدولة بغداد سنة 367 نقم على الصابئ هذا الأمر وأمثاله مما كان يكتب به عن لسان مولاه، فقبض عليه وسجنه، فتوسط له الفضلاء وعرّفوا عضد الدولة بفضله، وقالوا له: مثلُ مولانا لا ينقمُ على مثله ما كان منه، فإنه كان في خدمة قوم لا يمكنه إلا المبالغة في نصحهم، ولو أمره مولانا بمثل ذلك إذا استخدمه في أبيه، ما أمكنه المخالفة.
فقال عضد الدولة: قد سوغتُه نفسه، فإن عمل كتاباً في مآثرنا وتاريخنا أطلقته، فشرع في الحبس يكتب كتاباً أسماه التاجيّ في أخبار آل بويه ومفاخر الديلم وأنسابهم، وقيل إن بعض أصدقائه دخل عليه الحبس، وهو في تبييض وتسويد في هذا الكتاب، فسأله عما يعمله، فقال: أباطيل أنمقها، وأكاذيب ألفقُها، فبلغت تلك الكلمة عضد الدولة، فأمر بإلقائه تحت أرجل الفيلة، فشفع فيه وزيراه أبو القاسم عبد العزيز بن يوسف الشيرازي ونصر بن هارون، حتى أمر بسجنه وأخذ أمواله واستصفائه، فبقي في السجن إلى وفاة عضد الدولة وتولي ابنه صمصام الدولةفأطلقه سنة 371.
وقال يشتكي من هذه المحن المتلاحقة:
أخرج من نكبة وأدخل في ... أخرى وأخرى بهن تتصل
كأنها سنة مؤكدة ... لا بد من أن تقيمها الدول
يصف المؤرخون المسلمون أبا إسحاق الصابئ بأنه كان صلباً في دين الصابئة، لأن عز الدولة عرض عليه الوزارة إن أسلم، فامتنع، وذكروا أنه حضر يوماً مائدة المهلبي، فامتنع عن الأكل، لباقلاء كانت عليها، لأنه محرم على الصابئة كيفما كان مع السمك ولحم الخنزير ولحم الجمل وفراخ الحمام والجراد، فقال له المهلبي: لا تبرد وكُلْ معنا من هذه الباقلاء، فقال: أيها الوزير لا أريد أن أعصي الله في مأكول. فاستحسن ذلك منه.
وكان أبو إسحاق الصابئ يحفظ القرآن ويشارك المسلمين في صوم رمضان، ومن قوله في تحميدة كتاب: الحمد لله الذي لا تدركه الأعين بألحاظها، ولا تحده الألسن بألفاظها، ولا تُخلِقُه العصور بمرورها، ولا تُهرِمُه الدهور بكرورها؛ وقوله بعد ذلك في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم: لم ير للكفر أثراً إلا طمسه ومحاه، ولا رسماً إلا أزاله وعفاه.
ولما عزم شرف الدولة بن عضد الدولة على عمل مرصد فلكي ببغداد جمع لذلك جملة من العلماء كان منهم أبو إسحاق الصابئ، وكتب بخطه فِي المحضر الذي كُتِبَ بصورة الرصد وإدراك موضع الشمس من نزولها فِي الأبراج، وله مصنف في المثلثات وعدة رسائل في هذا العلم.
وإلى جانب كتاب التاجيّ، فإن للصابئ مؤلفات منها كتاب الهفوات النادرة، وأهمها رسائل الصابئ التي حققها الأمير شكيب أرسلان رحمه الله، وقد بقيت رسائله قروناً طويلة يحتذي حذوها الكُتَّاب ويُضرب بها المثل في حسن السبك وجودة المعاني والإحاطة بالغرض.
ومن جميل رسائله ولطيف ترسله كتابٌ عن لسان عز الدولة بختيار إلى صهره أبي تغلب وقد نقل إليه ابنته: قد وجدت الوديعة، وإنما نُقِلتْ من وطن إلى سَكن، ومن مَغرِس إلى مُعَرسّ، ومن مأوى بر وانعطافْ، إلى مَثوَى كرامة وألطاف، ومن مَنبِت درت لها نعماؤه إلى منشأٍ يجود عليها سماؤُه، وهي بضعةٌ مني انفصلتْ إليْك، وثمرةٌ من جَنَى قلبي حَصلتْ لديْك، ولا ضَياع علي مَن تصحبه أمانتك، ويشتمل عليْه حفظك ورعايتك.
وكتب أبو إسحاق الصابئ في صفة جارية: ممشوقة القد، أسيلة الخد، ساجية اللحظ، شاجية اللفظ، صادقةُ الدعج، ظاهرة الغنج، حوراء الطرف، قنواء الأنف، مائلة الرد، جائلة العطف، رائقة الشكل، بارعةُ الشكل، مليحة النحر، صحيحة الصدر، دقيقة الخصر، مشرقة الثغر، جعدة الشعر، مريضة النظر، كثير الخفر، شديدة الكحل، مبينة الخجل، نقية اللون، خمصانة البطن، زجّاء الحواجب، سبطاء الرواجب، سوداء الذوائب، بيضاء الترائب، غضة المحاجر، سهلة ما كف المعاجر، سقيمة الجفون، غليظة القرون، متراصفة الأسنان، باردة اللسان، رطبة الأطراف، أرِجة الأعطاف، معتدلة القوام، بطيئة القيام، مدورة السرة، واضحة الطرة، حسنة المنقب، جميلة المعصب، قائمة العنق، ناهدة الثديين، متساوية اليدين، كاسية الساقين، غليظة الفخذين، مناصفة الأعضاء، هضيمة الأحشاء، ذكية القلب، ممتلئة القلب، ريا السوار، سبغى الإزار، إن التفتت فخشف، وإن انفلتت فحقف، أو تبدت فوَثَن، أو تثنت فغصن، أو أقبلت فقضيب، أو ولت فكثيب، أو طلعت فشمس، أو سفرت فبدر، أو ابتسمت فعن بَرَد مرصوف، أو نطقت فعن در مشوف.
فرعها ليل، ووجهها صبح، وخدها ورد، وعرقها يمان، وصدغها نون كاتب، وأنفها حدب قاضب، تتأرجُ عن نسيم الرياض، وتضحك عن نقي البياض، وتفتر عن عذب المذاق، وتكشف عن حلو العناق، وتخطر بعطف الشباب، وترشف بطعم الشراب.
تحلو في كل جارحة منك جارحة منها أو معنى من معانيها: فالوجه لعينك، والنطق لسمعك، والريق لفمك، والعَرف لأنفك، والصدر لضمك، والنحر للثمك.
ومن نثر أبي إسحاق الصابئ هذه الحكم:
إن الشيطان يكسو الخدعَ والشبهات، سرابيلَ الحجج والبينات، ليستفز بها الأحلام، ويستزل الأقدام.
احذر أن تأمر بما تجانب فعله، وتنهى عما تأتي مثله.
 لسان العمل أنطق من لسان القول، وجميل الفعل أزجر من حسن الوعظ.
رب حاضر لم تحضر نيته، وغائب لم تغب مشاركته.
السيئة إذا حصلت بين حسنتين لم تكن إلا مغمورة مغفورة.
ولأبي إسحاق الصابئ أشعار كثرة منها ما قاله وهو في حبس عضد الدولة يرققه بوصف زوجته وأولاده وأهله ولوعتهم:
رسائلُهم تأتى بما يلدغ الحشا ... ويصدع قلب النازع المتشوق
فباكية ترثي أباها ولم يمت ... وبائنة من بعلها لم تطلق
وزُغبٌ من الأطفال أبناء منزل ... شواردُ عنه كالقَطا المتمزق
إذا حرقوا قلبي بنجواهم انثنت ... عِداك تناجيني فتطفي تحرقي
شهدتُ لئن أنكرتُ أنك صنتني ... ولم أرعَ ما أوليتَني من ترفق
لقد ضُيِّعَ المعروفُ عندي وأصبحتْ ... ودائعُه مودوعة عند أحمق
وحبسُك لي جاهٌ عريض ورفعةٌ ... وقيدُك في ساقيَّ تاجٌ لمفرقي
خَلا أن أعواماً كملن ثلاثة ... تعرَّقَت البُقيا أشدَّ تعرق
خدمتك مذ عشرون عاماً موفقاً ... فهبَّ لي يوماً واحداً لم أوفق
فإن يك ذنب ضاق عنديَّ عذره ... فعندك عفوٌ واسع غير ضيق
ومما قال في والديه:
أسرةُ المرء والداه وفيما ... بين حضنيهما الحياةُ تطيبُ
فإذا ما طواهما الموت عنه ... فهو في الناس أجنبي غريب
وقال، وقد عتب على بعض ولده:
أرضى على ابني إذا ما عقني حَذِراً ... عليه أن يغضب الرحمن من غضبي
ولست أدري بم استحققتُ من ولدي ... إقذاءَ عيني وقد أقررتُ عينأبي؟
 
ومما قاله في الهجاء:
يا جامعاً لخلال ... قبيحة ليس تحصى
نَقَصتَ من كل فضل ... فقد تكاملت نقصا
لو أن للجهل شخصاً ... لكنت للجهل شخصاً
وقال في الرد على من ناله بقبيح:
أيُّها النابحُ الذي يتصدَّى ... بقبيح يقوله في الجوابِ
لا تؤملْ إنِّي أقول لك اخسأْ ... لست أسخو بها لكلِّ الكلابِ
وقال:
يا ذا الذي صام عن الطُعم ... ليتك قد صمت عن الظلمِ
هل ينفع الصوم أمرأً ظالماً ... أحشاؤه ملأى من الإثم
ومن أجود ما قيل في البَخر - رائحة الفم الكريهة - لأبي إسحاق الصابي:
مَضَغ الأزديُّ للهرّةِ خبزاً فرماهَا
فدنتْ منه فَشمَّتهُ فظنتهُ خَراهَا
فحَثَتْ تُرباً عليه ... ثم ولَّتهُ قَفَاها
وكان نقيب الأشراف الشريف الرضي، محمد بن الحسين المولود سنة 359 والمتوفى سنة 406، صديقاً لأبي إسحاق الصابئ، وبينهما مودة كبيرة ووشيجة وثيقة، ويبدو نظراً لتباين السن أن الصابئ كان أستاذاً أو راعياً للشريف الرضي الذي عبر عن هذه العلاقة الوثيقة والارتياح الكبير بقوله لأبي إسحاق الصابئ:
لقد تمازج قلبانا كأنهما ... تراضعا بدم الأحشاء لا اللبن
أنت الكرى مؤنساً طرْفي وبعضهم ... مثل القذى مانعاً عيني من الوسن
ولما مات أبو إسحاق الصابئ سنة 384 رثاه الشريف الرضي، وكان في الخامسة والعشرين،  مراثي من أشهرها:
أعَلِمتَ من حملوا على الأعوادِ ... أرأيت كيف خبا ضياءُ النادي
ما كنت أعلم قبل حطك في الثَرى ... أن الثرى يعلو على الأطواد
كيف انمحى ذاك الجناب وعُطِلت ... تلك الفجاج وضلَّ ذاك الهادي
أعزِزْ عليَّ بأن أراك وقد خلت ... من جانبيك مقاعدُ العُوَّاد
أعزز علي بأن نزلتَ بمنزلٍ ... متشابه الأوغاد والأمجاد
قد كنت أهوى أن أشاطرك الردى ... لكن أراد الله غير مرادي
مَنْ للبلاغة والفصاحة إن هَمَى ... ذاك الغمام وعبَّ ذاك الوادي
وصحائف فيها الأراقمُ كُمَّنٌ ... مرهوبةُ الإصدار والإيراد
تُدمي طوابُعها إذا استعرضتَها ... من شدة التحذير والإبعاد
حُمرٌ على نظر العدو كأنها ... بدم تُخط بهن لا بمداد
يُقدِمن إقدام الجيوش، وباطل ... أن يُهزَمَنَّ هزائمَ الأجناد
أما الدموع عليك غيرُ بخيلة ... والقلب بالسلوان غير جواد
سوَّدت ما بين الفضاء وناظري ... وغسلت من عيني كل سواد
قل للنوائب: عددي أيامه ... يغني عن التعديد بالتعداد
يا ليت أني ما اقتنيتك صاحباً ... كم قِنيةٍ جلبت أسى لفؤاد
ويقول من لم يدر كُنهك: إنهم ... نقصوا به من جملة الأعداد
هيهات! أَدرجَ بين برديك الردى ... رجلَ الرجال وأوحد الآحاد
ما مَطعَم الدنيا بحلوٍ بعده ... أبداً ولا ماء الحيا ببراد
الفضل ناسب بيننا إذ لم يكن ... شرفي مناسبه ولا ميلادي
ضاقت علي الأرض بعدك كلها ... وتركت أضيقها علي بلادي
لك في الحشا قبر وإن لم تأوِهِ ... ومن الدموع روائح وغوادي
ما مات من جعل الزمان لسانه ... يتلو مناقب عُوَّد وبوادي
صفح الثرى عن حر وجهك إنه ... مُغرىً بطي محاسن الأمجاد
وتماسكت تلك البنان فطالما ... عبث البلى بأنامل الأجواد
وسقاك فضلك إنه أروى حَيَاً ... من رائح متعرض أو غادي
جدث على أن لا نبات بأرضه ... وقفت عليه مطالب الوراد
وعاتبه الناس في ذلك لكونه شريفاً يرثي صابئاً، فقال: إنما رثيت فضله، ولما سمع المرتضى أخو الشريف الرضي - وكان متقشفاً - هذا المطلع قال: نعم، علمنا أنهم حملوا على الأعواد كلباً كافراً، عُجِلَ به إلى نار جهنم

 

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين