إشبيلية شاهد على عظمة الأندلس

 

د. أحمد الصاوي
عندما دخل المسلمون إلى الأندلس قبل اختتام القرن الهجري الأول، كانت إشبيلية مجرد مدينة صغيرة، وقبل أن تسقط المدينة في أيدي ملوك قشتالة من نصارى الأسبان، كانت إشبيلية الأندلسية واحدة من أكبر وأشهر مدن القارة الأوربية.
وعلى الرغم من محاولات ملوك الأسبان لتغيير معالم هذه الحاضرة الإسلامية فما برحت -بما تبقى من أوابدها المعمارية- تقف شاهد عيان على عظمة حضارة الأندلس.
أسست العناصر الأيبيرية هذه المدينة الواقعة في جنوب البلاد تحت اسم "أشبالي"، وبعدما دخلها الرومان سنة 205 قبل الميلاد صارت تعرف بالاسم اللاتيني "أشباليس"، وعرّب المسلمون هذا الاسم الأخير إلى إشبيلية، واشتق الأسبان بدورهم منه الاسم الحالي للمدينة سفيليا sevilla.
جارة المغرب
تقع إشبيلية على الضفة اليمنى لنهر الوادي الكبير قرب مصبه في خليج عميق، بحيث كانت مؤهلة لأن تكون ميناء بحريًّا في جنوب الأندلس.
وكانت المدينة قبل دخول المسلمين إلى شبه جزيرة أيبيريا حاضرة لدولة القوط الغربيين، إلى أن نقل الملك ليوفخلدو العاصمة إلى طليطلة سنة 567م.
ولم يستطع الفاتحون المسلمون أن يستولوا على إشبيلية في موجة الهجوم الأولى التي قادها طارق بن زياد، ولكنهم وصلوا إليها في موجة ثانية من الفاتحين قادها موسى بن نصير، الذي افتتحها بعد حصار دام عدة شهور؛ نظرًا لحصانة أسوارها.
حاضرة الولاة
وقع اختيار موسى بن نصير أول ولاة الأمويين بالأندلس على إشبيلية لتكون حاضرة لولايته، وذلك لوقوعها على مقربة من الشاطئ المغربي حيث توجد قواعد الجيوش الإسلامية، ولارتباطها في ذات الوقت في يسر ودون عوائق تذكر بسائر المدن الأندلسية، ولكن هذا الامتياز لم يستمر إلا لثلاث سنوات فقط، إذ أدى تسارع الأحداث بعد عزل موسى فاتح الأندلس إلى مقتل ابنه والوالي من بعده عبد العزيز بن موسى في سنة 98هـ/ 717م، وفشل خاله أيوب بن حبيب اللخمي في الاحتفاظ بكرسي الولاية لأكثر من أشهر قليلة، وعندما تولى الحر بن عبد الرحمن الثقفي الأندلس في نهاية عام 98هـ، أمر بتحويل العاصمة الأندلسية إلى مدينة قرطبة.
وقد أثر هذا التحول على التواجد العربي بالمدينة، إذ فضّل أغلب الفاتحين النزوح للإقامة في العاصمة قرطبة، ولم يبق بالمدينة سوى عدد قليل من العرب، فيما زخرت المدينة بعدد كبير من النصارى الأسبان باعتبارها المركز الديني المسيحي الأول في إسبانيا منذ عهد القوط الغربيين. ولكن هذا الوضع الاستثنائي لم يستمر لأكثر من ربع قرن، ذلك أن الخلافة الأموية أرسلت فرقة من الجيش الأموي كانت تعسكر بمدينة حمص للإقامة بإشبيلية ولحماية سواحلها، وما إن دخلت المدينة في عام 742م حتى أخذت القبائل العربية في التدفق على إشبيلية مثل بني موسى من بيت غافق، وبني زهرة، وبني حجاج، وبني خلدون.
مهد التسامح
ونظرًا للتسامح الذي عامل به العرب نصارى إشبيلية، فقد توطدت العلاقات فيما بين العنصرين وكثر زواج الفاتحين من الأندلسيات، ونشأ عن ذلك جيل من الأسبان المسلمين عرفوا بالمولدين، حتى أصبحوا في نهاية القرن الثالث الهجري يشكلون غالبية سكان إشبيلية.
اهتمام أموي
شهدت إشبيلية أزهى عصورها بعد نجاح عبد الرحمن الداخل (صقر قريش) في تأسيس الدولة الأموية الغربية بالأندلس، وقد عني أمراء وخلفاء هذه الدولة بالمدينة التي كانت المحطة الأولى في رحلة صقر قريش لاستعادة ملك أجداده.
فقد أنشأ الأمير عبد الرحمن الثاني (الأوسط) مسجدًا جامعًا بإشبيلية في سنة 829م، ولكن غزاة الشمال من النورمانديين (الفايكنج) الذين هاجموا إشبيلية سنة 884م، ونجحوا في دخولها بقواربهم الشراعية السريعة، قاموا بإضرام النار في هذا المسجد وخربوا بعض قصور الأمويين بالمدينة أثناء قيامهم بالسلب والنهب، قبل أن يتمكن المسلمون من هزيمتهم وطردهم من المدينة.
وقد أدت هذه الهجمات التي شنها النورماند إلى تنبيه الأمويين إلى أهمية تحصين إشبيلية، فأنشئوا سورًا حولها، وأقاموا بها دارًا لصناعة السفن الحربية التي شكلت نواة الأسطول الأموي فيما بعد.
وقد شهدت إشبيلية خلال عهد الدولة الأموية الغربية تمردًا واسعًا، أدى إلى نجاح العصاة في الاستقلال بها، حيث استبد بها إبراهيم بن حجاج أحد زعماء المدينة وأشرافها، واستمر بنو الحجاج يحكمون إشبيلية إلى أن تولى عبد الرحمن بن محمد المعروف عبد الرحمن الثالث (الناصر) إمارة قرطبة، وعزم على إخضاع الثائرين وتوحيد الأندلس تحت راية خلافية، ونجح عبد الرحمن الناصر بالفعل في القضاء على أولاد عمر بن حفصون الثائرين بقلعة ببشتر، واستسلم له أيضًا أحمد بن مسلمة بن حجاج.
وبذلك انضوت إشبيلية تحت لواء قرطبة، وعقب سقوط دولة الخلافة في قرطبة استولى المعتمد بن عباد على مقاليد الأمور في إشبيلية سنة 1042م، وفي عهد بني عباد شهدت المدينة ازدهارًا لم تشهده من قبل، وأضحت أعظم مدن الأندلس بعد انهيار قرطبة، وفي قصور ابن عباد ازدهرت الحركة الأدبية والفنية في إشبيلية التي أصبحت قبلة الشعراء والأدباء والمهندسين.
عاصمة الموحدين
سرعان ما انهارت دولة بني عباد وأصبحت تدفع الجزية لملوك قشتالة من النصارى، وما لبث المرابطون الذين جاءوا من المغرب للدفاع عن مدن الأندلس التي كانت تتساقط في أيدي الأسبان أن التفتوا بعد انتصارهم في موقعة الزلاقة الشهيرة إلى ملوك الطوائف، الذين كانوا السبب الرئيسي في نكبة الأندلس، وراح المرابطون يعزلون ملوك الطوائف الواحد تلو الآخر، وقد دخلوا إشبيلية في سنة 1091م وقبضوا على المعتمد بن عباد وجردوه من ثرواته قبل أن ينفوه إلى المغرب، حيث مات هناك فقيرًا معدمًا.
ومع انهيار دولة المرابطين اجتازت جيوش الموحدين مضيق جبل طارق قادمة من المغرب وبايع أهل إشبيلية عبد المؤمن بن علي خليفة الموحدين سنة 1156م، فاختارها حاضرة لملكه في الأندلس، وعادت إشبيلية لتحتل موقع الصدارة بين مدن الأندلس.
ثم تولى أبو يعقوب يوسف بن عبد المؤمن الخلافة سنة 1164م، وكان محبًّا للفنون والآداب رغم ميوله الحربية، فكانت إشبيلية أقرب إلى قلبه من مراكش حاضرته في المغرب، إذ إنه من مواليد قرطبة قضى في إشبيلية قدرًا كبيرًا من طفولته.
وقد اختص يوسف هذه المدينة بعدد من أجمل عمائر الموحدين بالأندلس، فشيد بها القصور والمساجد، وحرص على تجميل حاضرة ملكه التي ازدانت في حلل من الجمال خلال عهد ابنه أبي يوسف يعقوب المنصور.
الخيرالدا
استحق يعقوب أن يلقب بالمنصور بعد انتصاره على جيوش قشتالة في موقعة الأرك الشهيرة (يوليو 1195م)، وقد أراد هذا القائد أن يخلد انتصاره التاريخي، فقرر أن يشيد مئذنة سامقة لمسجد إشبيلية الجامع، فجاءت صومعة شاهقة الارتفاع تطل في إباء ورشاقة على حديقة إشبيلية وما يحيط بها من المنطقة المعروفة بالشرف، وقد أمر المنصور بعد موقعة الأرك بصنع فتاحات أربع مذهبة لتكلل المئذنة ورفعت في حضوره، وركبت بالسفود البارز بأعلى القبة وأزيحت عنها الأغشية التي كانت تكسوها، فبهرت ببريقها أنظار الحاضرين.
وقد تحولت هذه المئذنة التي كانت رمزًا للسيادة الإسلامية إلى برج نواقيس للكنيسة التي حلت مكان المسجد الجامع وهي تعرف اليوم باسم "الخيرالدا"؛ لأنها زودت في أعلاها بتمثال من البرونز يرمز للسيادة المسيحية صنعه برتولومي موريل سنة 1567م بحيث يدور مع الرياح؛ ولذلك أطلق عليه اسم خيرالديو أي دوارة الرياح، ومنها جاءت تسمية المئذنة باسم الجيرالدا أو الخيرالدا، ويبلغ ارتفاع الجزء الإسلامي من هذه المئذنة 65.69 مترًا.
نهاية الحكم الإسلامي
وعقب هزيمة جيوش الموحدين أمام الأسبان في موقعة العقاب سنة 1212م، بدا واضحًا أن نهاية الحكم الإسلامي قد باتت وشيكة، وقد حاول الخليفة الموحدي (أبو العلاء إدريس بن أبي يوسف يعقوب) أن يعيد لإشبيلية رونقها الذي كانت عليه أيام أبيه المنصور، فعمد إلى تحصينها أمام الخطر المسيحي فأقام بها سنة 1221م برجًا ضخمًا هو برج الذهب المشهور، والذي لا يزال قائمًا حتى اليوم، ثم جدد أسوار المدينة وشيد أمامها سورًا جديدًا يتقدمه خندق مائي.
وبموت هذا الخليفة الموحدي تتابع سقوط المدن والحصون التي كانت تشكل خط الدفاع الأول عن إشبيلية، مثل قرطبة وقرمونة وحصن القصر والقلعة وحصن الفرج وقلعة جابر.
وفي 22 ديسمبر سنة 1248م دخلت جيوش قشتالة مدينة إشبيلية بعد حصار دام قرابة العام والنصف، وقاست المدينة أهوال الجوع قبل أن تستسلم للنصارى.
ونظرًا لقرب المدينة من الساحل المغربي، فقد خشي فرناندو الثالث أن تطرقها الجيوش الإسلامية من أجل تحريرها؛ ولذا عمد إلى إعادة تجديد قلاعها وأسوارها، كما دفع المزيد من المقاتلين الأسبان للإقامة بها.
المصدر: موقع إسلام ويب، نقلاً عن جريدة البيان الإماراتية

 

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين