حدث في الحادي عشر من شوال

  في الحادي عشر من شوال من سنة 824 دفن في القاهرة قاضي القضاة جلال الدين البَلقيني، عبد الرحمن بن عمر، وقد توفي عن 61 عاماً. والبلقيني نسبة إلى بلقينة قرية بالقرب من بنها في غربية مصر.

ولد جلال الدين البلقيني سنة 763 في أسرة علم وفقه، فوالده سراج الدين البلقيني الشافعي، المتوفى سنة 805 عن 81 عاماً،  كان إمام عصره والمقدم بين علمائه، وأخواه  محمد وعلم الدين صالح كانا كذلك من الفقهاء. أما جده لأمه فهو العلامة الفقيه النحوي المقرئ قاضي القضاة بهاء الدين، عبد الله بن عبد الرحمن الحلبي، نزيل القاهرة والمتوفى بها سنة 769 عن 71 عاماً.
ومن تلاميذ والده: ابن حجر العسقلاني، أحمد بن علي المتوفى 853 عن 80 عاماً، ومنهم ابن قاضي شهبة تقي الدين أبو بكر بن أحمد المتوفى سنة 851 عن 72 عاماً، بل إن الإمام جلال الدين السيوطي المتوفى سنة 911 عن 62 عاماً، لما حج سنة 869 وسنه 20 عاماً، وشرب من ماء زمزم سأل الله أن يصل في الفقه إلى رتبة الشيخ سراج الدين البلقيني، وفي الحديث إلى رتبة الحافظ ابن حجر.
نشأ جلال الدين في كنف أبيه فحفظ القرآن ودرس النحو واللغة والفقه، وسمع من أبيه غالب كتب الحديث الستة وغيرها، واهتم والده بتحصيل الإجازة له من علماء مصر والشام، وكان مفرط الذكاء قوي الحافظة وصفه ابن حجر بأنه  كان من عجائب الدنيا في سرعة الفهم وجودة الحافظة.
مارس التوقيع في ديوان الإنشاء وسنه 16 عاماً، وأذن والده له بالإفتاء والتدريس وسنه 18 عاماً، وقال في إجازة كتبها له بخطه أنه رأى منه البراعة في الفقه وأصوله والفرائض وغيرها، وأنه اختبره بمسائل مشكلة وأبحاث معضلة فأجاد.
وعُيِّنَ أبوه قاضياً بدمشق دمشق سنة 793 فذهب معه إليها، وكان أبوه يقدمه بحضرة المشايخ، ويصغي إلى أبحاثه ويصوب ما يقول، وبقي نائباً عن والده في الفتوى إلى استقر في قضاء العسكر وهو في الثامنة والعشرين،  وسافر مع والده بصحبة السلطان إلى حلب ورجع وقد ازدادت مكانته وعظم جاهه وأبهته، وصار له ثلاثمئة مملوك، ودعي بقاضي القضاة ومن خاطبه بغير ذلك استهجن من ذلك، وجلس في بعض المرات التي قدم فيها دمشق مع السلطان المملوكي الناصر فرج بالجامع الأموي وقرئ عليه البخاري وشرح مواضع منه.
وفي سنة 803 خرج الناصر فرج إلى الشام لقتال الطاغية تيمورلنك، فخرج معه القاضي صدر الدين المناوي، محمد بن إبراهيم، فأُسِرَ القاضي ومات مقيداً غريقا في الفرات، فسعى القاضي ناصر الدين ابن الصالحي إلى المنصب وتولاه، فشق ذلك على جلال الدين البلقيني، وبذل الأموال لبعض الأمراء حتى ولي القضاء سنة 804، واستاء من هذا الأمر الدويدار الكبير جكم وجفا القاضي، فركب هو ووالده إليه في منزله فواجهه بالإنكار عليه في بذل المال على القضاء، فتعلل الشيخ بجواز ذلك لمن اضُطر إليه.
واستمر جلال الدين قاضياً إلى سنة 823، وأثناء تلك السنين عزل وأعيد لفترات متفاوتة تظهر هُزال الأوضاع في دولة المماليك. 
 ولكنه رحمه الله باشر القضاء بحرمة وافرة وعفة زائدة إلى الغاية، وامتنع من قبول الهدية من الصديق وغيره، حتى ممن له عادة بالإهداء إليه قبل القضاء، مع لين جانب وتواضع وبذل للمال والجاه، وكان يشترط على نوابه في الحكم أن من أخذ مالاً رشوة فهو معزول.
ويبدو أنه - غفر الله له - مع سعيه للقضاء كان لا يصلح له، فقد ذكر ابن حجر العسقلاني وكان من معاصريه ومدارسيه: كان سريع الغضب مع الندم والرجوع بسرعة، وقد صحبتُه قدر عشرين سنة فما أضبط انه وقعت عنده محاكمة فأتمها، بل يسمع أولها ويفهم شيئاً فيبني عليه، فإذا روجع فيه بخلاف ما فهمه أكثر النزق والصياح، وأرسل المحاكمة لأحد نوابه.
ويبدو أن القضاء قد أثر على ملكته العلمية، وأحس هو بذلك، فقد ذكر ابن قاضي شهبة أنه قال له مرة: نسيت من العلم بسبب القضاء والأسفار العارضة ما لو حفظه شخص لصار عالماً كبيراً.
وكان جلال الدين البلقيني عالماً متعلماً حريصاً أشد الحرص على تحصيل الفائدة، بحيث انه كان إذا طرق سمعه شيء لم يكن يعرفه لا يقرُّ ولا يهدأ ولا ينام حتى يقف عليه ويحفظه، وذَكَرَ أنه لم يكن له تقدم في علوم العربية، وأنه حج في حياة أبيه سنة 787 فشرب ماء زمزم وسأل الله فهمها، فلما رجع أدمن النظر فيها فمهر فيها في مدة يسيرة، وكان يحب فنون الحديث محبة مفرطة ويأسف على ما ضيع منها ويحب أن يشتغل فيها.
لجلال الدين كتب في التفسير والفقه ومجالس الوعظ وتعليق على البخاري سماه الإفهام لما في صحيح البخاري من الإبهام، ومناسبات أبواب تراجم البخاري، ورسالة في بيان الكبائر والصغائر، وحواشي على الروضة في فروع الشافعية، أفردها أخوه في مجلدين.
وكان من عادة الملوك والسلاطين أن يعقدوا مجلساً علمياً يُقرأ فيه صحيح البخاري ويُشرح، ويحضره العلماء وكبار رجال الدولة، ولما حضر البلقيني مجلس البخاري مع السلطان المؤيد في القلعة، أقبل على تحقيق الأسماء المبهمة من الرواة في الجامع الصحيح فحصَّل من ذلك شيئاً كثيراً بالمطالعة والمراجعة والمذاكرة، جمعها في كتابه الإفهام لما في البخاري من الإبهام.
وكان لجلال الدين رحمه الله دروس عديدة في كل يوم في مدارس القاهرة، وما أكثرها في الفترة المملوكية، حيث حرص السلاطين وكبار الأمراء على إقامة المدارس، ولم يقتصر في دروسه على علم واحد بل درَّس  التفسير والفقه والحديث، وكان له درس في التفسير كل يوم جمعة استمر 18 عاماً، انقطع بوفاته ووصل فيه إلى قوله تعالى في سورة فصلت ﴿ منْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ﴾
 وكان منهجه في التدريس كما ذكر ابن حجر: كان يحرر دروسه الفقهية والتفسيرية ويسردها في مجلس التدريس حفظاً، ثم يُقرأ عليه ما كتبه فيتكلم عليه فيجيد ويبدي في كل فن منه ما يدهش الحاضرين.
وكان لجلال الدين بصفته قاضي القضاة وعلامة البلاد مواقف سياسية واجتماعية منها ما جرى سنة 815 عندما اتفق الخليفة العباسي المستعين والأمير شيخ المحمودي على تنصيب شيخ سلطاناً على مصر، كان هو أول من مدَّ يده وبايعه، ثم بايعه الناس بعد ذلك، ولقب بالملك المؤيد.
ولما أراد السلطان استبدال دنانير عملها هو وأسماها المؤيدية بدنانير الملك الناصر عارضه جلال الدين البلقيني مبيناً أن في هذا إتلاف كثير من الأموال، فلم يعجب السلطان ذلك.
وأمر السلطان مرة الخطباء أن ينزلوا درجة على المنبر عند ‏الدعاء له، فامتنع من ذلك البلقيني في جامع القلعة، فسئل عن ذلك، فقال: ليس هو السنة. فتغير عزم السلطان عن ذلك، وترك ‏الناس ذلك بعده.
وكان جلال الدين البلقيني محبوباً من الناس، ففي إحدى المرات التي قرر فيها السلطان إعادته إلى القضاء  نزل السلطان إلى جامعه بجوار باب زويلة، واستدعاه إليه ، فارتجت القاهرة، وخرج الناس من الرجال والنساء على اختلاف طبقاتهم لرؤيته، فرحاً به، حتى غصت الشوارع، فعندما رآه السلطان، قام له وأجلَّه، وبالغ في إكرامه وأفاض عليه التشريف، وشافهه بولاية القضاة، وتوجه جلال الدين البلقيني من الجامع إلى المدرسة الصالحية، وأبصر السلطانُ من كثرة الخلق، وشدة فرحهم، وعظيم ما بذلوه من الزعفران والشموع ومجامر العود والعنبر، ورش ماء الورد، وضجيجهم بالدعاء للسلطان، ما أذهله، وقوَّى رغبته فيه، وسار كذلك حتى أن بغلته لا تكاد أن تجد موضعاً لحوافرها، فكان يوماً مشهوداً، واجتماعاً لم يعهد لقاض مثله.
ومن الطريف أنه في إحدى المرات التي عُزِلَ فيها جلال الدين عُينَ محله قاض آخر اسمه شمس الدين الهَروي، واتفق مع ذلك زينة القاهرة لدوران المحمل، فغالى في الزينة شخص يسمى الترجمان، وعلق على باب بيته حماراً حياً على رؤوس الناس، بأحسن هيئة، وتردد الناس إلى الفرجة على الحمار المذكور أفواجاً، فقال أحد الشعراء ويدعى شعبان بن محمد بن داود الآثاري هذه الأبيات:
أقام الترجمان لسان حال ... عن الدنيا يقول لنا جهارا:
زمانٌ فيه قد وضعوا جَلالاً ... عن العَليا وقد رفعوا حمارا
وعاش جلال الدين البلقيني رحمه الله في نعمة ويسر، يتحدث بنعمة الله عليه، وفي إحدى زياراته لحلب اجتمع به العالم المحدث سِبط ابن العجمي، إبراهيم بن محمد المتوفى 841 عن 88 عاماً ، وسأله عن حاله فقال معترفاً بالنعمة: وظيفتي أجلُّ المناصب، وزوجتي غاية، وكذا سكني، وفي ملكي ألف مجلد.
وزوجة جلال الدين البلقيني هي هاجر بنت الأمير المملوكي الكبير تغري بردي المتوفى بدمشق سنة 815، و نشأ في حجر البلقيني شقيقُها المؤرخ الكبير الأديب يوسف بن تغري بردي، المتوفى سنة 874 عن 61 عاماً، ومؤلف النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة، وكتاب المنهل الصافي والمستوفي بعد الوافي، أما دار البلقيني فقد ذكرها معاصره تقي الدين المقريزي، أحمد بن علي المتوفى سنة 845،  في كتابه المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار، ووصفها بأنها من أجلِّ دور القاهرة صورة ومعنى.
وخلَّف جلال الدين عدداً من الأبناء ساروا على نهجه في طلب العلم، منهم تاج الدين محمد المولود سنة 787 ، والمتوفى سنة 855، والذي ولي قضاء العسكر ودرَّس كذلك في مدارس القاهرة، وكان عفيفاً صالحاً، حريصاً على مصالح الأوقاف التي يتولى نظرها. ومنهم زين الدين قاسم المتوفى سنة 861، وهو في عشر السبعين، وكان نشأ تحت كنف والده، وناب في الحكم سنين، وتولى نظر ضريبة أهل الذمة المسماة بالجوالي، وكان فيه كرمٌ أفقرَه في أواخر عمره، واحتاج منه إلى تحمل ديون والحاجة للناس.
أصيب جلال الدين البلقيني بالقولنج قبل موته بأسبوعين، وتوفي في ليلة الخميس حادي عشر من شوال ودفن بجانب أبيه وأخيه في مدرسة البلقيني، ورثاه بعضهم بقوله:
يا دهر بِعْ رُتبَ العلا من بعده ... بيعَ الهوان ربحت أم لم تربحِ
قدِّم وأخِّر من أردتَ من الورى ... مات الذي قد كنت منه تستحي

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين