حدث في الرابع من شوال

 الأستاذ : محمد زاهد أبو غدة

 

في الرابع من شوال سنة 854 توفي في القاهرة، عن 64 عاماً، القاضي الزيني، زين الدين عبد الباسط بن خليل بن إبراهيم، ناظر الجيش في دولة المماليك في مصر، وهو دمشقي الأصل والمولد والمنشأ، مصري الدار والوفاة، وهو أول- كما قال السخاوي رحمه الله تعالى في الضوء اللامع - من سُميَّ عبد الباسط، وقصة حياته تعطينا لمحة عن الاضطراب والتخبط الذي كان سمة الحكم في العصر المملوكي.
 
نشأ القاضي الزيني بدمشق في خدمة كاتب سر دمشق القاضي بدر الدين محمد بن موسى، المعروف بابن الشهاب محمود، ثم اتصل بخدمة نائب الشام الأمير المملوكي شيخ المحمودي، وفي سنة 814 تمرد شيخ المحمودي على السلطان الناصر، فرج بن برقوق، فجاء السلطان من مصر إلى دمشق لقمع التمرد، ولكنه قُتِلَ واستولى الأمير شيخ المحمودي على السلطنة وتلقب بالملك المؤيَد.
 
ولما أصبح شيخ المحمودي سلطان مصر أدنى القاضي الزيني ورقّاه حتى صار ناظر الخزانة الشريفة وكاتبها، ولكن القاضي الزيني كان يطمح إلى ما هو أعلى وأسمى فاستقلَّ في نفسه نظر الخزانة، ولم يسعه طلب وظيفة أعلى منها لوجود من هو أعظم منه من جماعة الملك المؤيد، ولقلة خبرته وتمرسه بالوظائف السلطانية العالية في بلد مثل مصر واسع الأرجاء وفير الثروات، ولكنه مع ذلك أخذ يتصرف كأحد عظماء الدولة في الاستكثار من الحشم والخدم والمماليك من سائر الأجناس والندماء والأصحاب.
 
وكان عنده شَمَمٌ فصار لا يُسلِّم على أحد إلا نادراً، فلزمته العامة وصاروا يقولون: يا باسط خذ عبدك، فشكاهم إلى الملك المؤيد فتوعدهم المؤيد بكل سوء، فصاروا يقولون: يا جبال... يا رمال ... يا الله... يا لطيف، فلما رأى ذلك منهم، وعلم أنه لا يقدر عليهم، ذَلَّ لهم وصار يسلم عليهم ويرحب بهم، فسكتوا عنه وأحبوه بعد ذلك.
 
وأثرى زين الدين في دولة المؤيد وعمر أملاكاً كثيرة، واستمر على ذلك مدة عشر سنوات إلى أن مات الملك المؤيد شيخ في سنة 824، وانتقل العرش من بعده إلى ولده الملك المظفر أحمد بن شيخ، وهو رضيع لم يبلغ من العمر عامين، وقام بأمره وتدبير مملكته الأمير ططر، فخرجت البلاد الشامية عن طاعته وحشد نوابها الجموع، فقصدهم طَطَر، ومعه الملك المظفر في محفة، وأمه خَوَند سعادات ومرضعته، فلما بلغوا الشام تزوج ططر بأم المظفر، وقتل رؤوس الفتنة، وخضعت له البلاد، ثم لم يلبث أن خلع المظفر وتسلطن متسمياً بالملك الظاهر، وطلق خوند سعادات خوفا من انتقامها لابنها، وعاد من دمشق فدخل مصر، وأرسل المظفر إلى السجن بالإسكندرية ومعه مرضعته، فمات فيها بالطاعون.
 
وعين الملك الظاهر ططر القاضي زين في منصب ناظر الجيش بعد عزله القاضي كمال الدين محمد بن البارزي، ولم تطل مدة ططر ومات بعد ثلاثة أشهر، وتسلطن ابنه الملك الصالح محمد وسنه 22 عاماً، وقام بتدبير المملكة الأمير بِرِسباي الدقماقي، وقويت شوكة برسباي فخلع ابن ططر سنة 825، فكانت مدة سلطنته ثلاثة أشهر.
 
وأخذ القاضي الزيني يتقرب إلى الملك الأشرف برسباي بالهدايا الهائلة والتحف الظريفة، وفتح له أبواباً في جمع الأموال، وإنشاء العمائر، وكان عند الملك الأشرف شيء من الطمع، فطال عبد الباسط بذلك واستطال حتى صار هو المشار إليه والمعول عليه في الدولة، ونالته السعادة، ورأى من الوجاهة والحرمة ما لم ينله أحد في زمانه، و إن كان قد تعرض لمنافسين وكائدين في بلاط الملك الأشرف لكنه كان لا يظهر ذلك عنه لكل أحد لما كان يبذله من الأموال والهدايا والتحف.
 
واتسم القاضي الزيني بإحسانه للخاص والعام، ومحبة العلماء والفقراء والصلحاء، والإحسان إليهم والمبالغة في إكرامهم، والتنويه بذكر العلماء والصلحاء عند السلطان، وقضاء حوائج الناس مع إحسانه هو إليهم، وما قصده أحد إلا ورجع بمأموله، من غير منه تطلع منه لمال ونحوه لقاء خدماته.
 
ولما قدم القاهرةَ شيخُ القراء والإقراء محمد بن محمد ابن الجَزري، أنزله القاضي الزيني بمدرسته وحضر مجلسه يوم الختم، وأجاز له ابن الجزري، وكذلك سمع الحديث على عدد من علماء عصره.
 
وكان للقاضي الزيني اهتمام بالعمران، وأول ما بناه في القاهرة جامعاً نسب إليه فسمي بالجامع الباسطيّ في خط الكافوري، فأنشأه في سنة 822، وعلى غير ما هو معهود في تلك الأيام، لم يُسَخِّر أحداً في عمله بل وفىّ لهم أجورهم، حتى كمل في أحسن قالب، ترتاح النفوس لرؤيته وتبتهج عند مشاهدته، وابتُدِئ فيه بإقامة الجمعة في يوم الجمعة الثاني من صفر سنة 823.
 
ثم تولى القاضي الزيني الإشراف على قيسارية أنشأتها سنة 825 خوند أم الملك الأشرف شعبان بن حسين بن محمد بن قلاوون، وكذلك لم يسخر في عمارتها أحد من الناس كما أحدثه ولاة السوء في عمائرهم، بل كان العمال من البنائين والفَعَلة ونحوهم يوفَّون أجورهم من غير عنف ولا عسف.
 
ثم بنى لنفسه في القاهرة في سنة 826 داخل باب زويلة مبنىً تجارياً يتكون من فندق ومخزن ويصطلح عليه بالوكالة، وسار على نفس السيرة فلم يُعسَفِ العمالُ فيها، ولا بُخِسوا شيئاً من أجرهم، فجاءت من أحسن المواضع وكثر النفع بها، وتولى كذلك في نفس العام بناء مدرسة للسلطان فيما بين المدرسة السيوفية وسوق العنبريين، وكان موضعها حوانيت وفنادق موقوفة على المدرسة القطبية وغيرها، فاستبدل بها أملاكاً أخرى من غير إجبار المستحقين، وجعل الاختيار لهم فيما يستبدل به حتى تراضوا، و لم يشق عليهم.
 
وفي سنة 828 أنشأ القاضي الزيني في القاهرة بناحية بركة الحاج بستاناً وساقية ماء، وعمر فسقية كبيرة تملأ بالماء ليردها الحجاج، فعظم الانتفاع بها.
 
وفي سنة 830 وقع تمردٌ في ديار بكر تهدد حلب بالخطر فأوفدت السلطنة زين الدين على الهُجن إلى حلب لعمارة سورها فرتب ذلك خير ترتيب في مدة وجيزة، وعُمِلَ به بين يديه في يوم واحد ألف ومئتا حجر، ولما عاد إلى القاهرة استُقبِل استقبالا حافلا، وقدم هو هدية إلى السلطان فيها مئتا فرس قيمتها نحو عشرين ألف دينار، إلى جانب ما أهداه لرجال الدولة والأمراء.
 
وفي سنة 836 أنشأ القاضي زين الدين الخانقاه الباسطية بدمشق عند الجسر الأبيض غربي المدرسة الأشعرية وشمالي الخانقاه العِزِّية، وكانت داراً له فلما نزل السلطان الملك الأشرف برسباي إلى آمد - ديار بكر - في تلك السنة خاف من نزول العسكر بها فجدد لها محراباً وأوقفها،وأنشأ كذلك المدرسة الباسطية بالمدينة المنورة بعد سنة 840 ، ومدرسة بمكة المكرمة وأخرى بالقدس الشريف.
 
وحيث كان الحرمان الشريفان ضمن دولة السلطان المملوكي، فقد اهتم سلاطين المماليك وكبار دولتهم بعمارة الحرمين وتأمين طرق الحج، وتخصيص الأوقاف لذلك وكان للقاضي الزيني مساهمة مشكورة مأجورة، فقد كانت منطقة تعرف بعيون القصب على طريق الحجاز قد انقطع ماؤها وجفت، فتولى حفر بئر فيها فعظم النفع بها وأغاث الله العباد بهذه البئر، وخرج ماؤها عذباً.
 
كذلك عهِدَ السلطان المؤيد شيخ إلى القاضي الزيني بالإشراف على كسوة الكعبة المشرفة فبالغ في تحسينها بحيث يعجز الواصف عن وصف حسنها.
 
ورتب في ركب الحاج المصري والشامي سحابتين وما يحتاجان إليه من الجمال والرجال وغير ذلك، وهما خيمتان كبيرتان للفقراء والمساكين، ورتب أيضاً لكل منها خمسة وعشرين قنطاراً من البقسماط وما يكفيهما من أحمال الماء، جزاه الله خيراً.
 
وحج القاضي الزيني مرات كثيرة، ولما توجهت إلى الحج في سنة 834 زوجة الملك الأشرف جُلُبان بن عبد الله الشركسية الملقبة بخوند، كان في معيتها القاضي الزيني، إلى أن قضت المناسك وعادت.
 
ولما توفي الملك الأشرف برسباي في سنة 841، نودي بابنه يوسف البالغ من العمر 14 عاماً سلطاناً بعهد من أبيه، وتلقب بالملك العزيز، وتولى الأمير جقمق العلائي تدبير مملكته، واستولى على أمور الدولة صغيرها وكبيرها، ثم خلعَ جقمقُ الملكَ العزيز بعد ثلاثة أشهر، وتولى هو السلطنة وتلقب بالملك الظاهر.
 
وأبقى الملك الظاهر جقمق القاضي الزيني في وظيفة نظر الجيش بضعة أشهر، ثم قبض عليه وصادره على ألف ألف دينار، فتوسط له القاضي كمال الدين البارزي صهر السلطان وكاتب سره، وساعده جماعة من أعيان الدولة، ولا زالوا بالسلطان حتى أطلقه بعد أن أخذ منه مئتي ألف دينار وخمسين ألف دينار، منها ثلاثين ألف دينار ذهباً، وخمسين ألف أردب من الغلال، ومئة هجين فيها ما تبلغ قيمة الواحد منها آلاف، وبهار قيمته خمسون ألف دينار، وعدد كثير من الجمال.
 
ثم استأذن القاضي الزيني في الحج سنة 843 فأذن له الملك الظاهر واستقبله قبل سفره في محفل من أعيان أهل الدولة، وخلع عليه، وأقام بمكة إلى سنة 844 ثم استأذن في العودة منها إلى الشام فرُسِم له بذلك، فتوجه إلى دمشق وأقام بها.
 
ثم قدم إلى القاهرة سنة 847 بشفاعة أحد الأمراء، فكان يوم قدومه يوماً مشهوداً، وطلع إلى السلطان بالحوش السلطاني وقبل الأرض، وخلع عليه كاملية صوف أبيض بفرو سمور، وعلى أولاده، ونزل إلى داره، ثم قدم هو هدية هائلة تضمنت أربعة وأربعين قفصاً من أقفاص الحمالين مشحونة بالأقمشة من أنواع الفراء والصوف والمخمل والحرير، وخيول نحو مئتي فرس وأربعين فرساً، فقبل السلطان ذلك كله، وخلع عليه وعلى أولاده الثلاثة ، وظنَّ الناس أن السلطان سيعيده إلى الولاية، ولكن لم يتحرك له حظ عند السلطان، ولا تجمَّل معه بوظيفة من الوظائف، فأظهر عبد الباسط أنه لا إرَبَ له في ولاية من الولايات، وإنما يريد أن يشتي بالقاهرة ويصيف بالشام، ثم استأذن في الرجوع فأذن له فودع وسار، وحصل لأصحاب الوظائف طمأنينة زائدة بعد قلق كثير، لأن كلاًّ منهم ما كان يدري ما يؤول أمره معه، وأعطى السلطان لولده الكبير بالشام إمرة عشرين.
 
واستمر بدمشق سنين قليلة، ثم قدم إلى القاهرة ثانياً واستوطنها وتوجه في رجب سنة 853 إلى الحج ثم عاد إلى القاهرة في سنة 854، واستمر بها حتى مرض أشهراً ومات، ودفن بتربته التي أنشأها بالصحراء، رحمه الله.
 
وبعد وفاته بأشهر تزوج السلطان جقمق- وقد قارب الثمانين - بإحدى بناته.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين