من معاني العيد


البهي الخولي

 

 

 

روى الإمام ابن جرير أنَّ أبا العالية رضي الله عنه قال لأبي خلدة: إذا غدوت إلى العيد ـ يريد صلاة عيد الفطر ـ فمر بي، قال أبو خلدة: فمررت به فسألني: هل طعمت شيئاً؟ قلت: نعم. قال: هل أفضت على نفسك من الماء؟ قلت: نعم. قال: فأخبرني ما فعلت زكاتك؟ قلت: قد وجهتها. قال: إنما أردتك لهذه، ثم قرأ قوله تعالى: [قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى  وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى] {الأعلى:15}.

 

  ولهذا الخبر ثلاث دلالات واضحة:

   الأول: إن في الآية الكريمة بعض ما سن للمسلمين صباح يوم عيد الفطر من سنن البر والتقوى، فالمراد فيها بالزكاة زكاة الفطر، والمراد بالصلاة صلاة العيد.

 

والثانية: أن القوم كانوا في ذلك الصدر الأول من الإسلام يحيون بضمائرهم في حقيقة العيد لا في ظاهر صوره وأشكاله... فما كان هناك ما يعود على أبي العالية بالنفع أو الضر إذا كان أبو خلدة قد اغتسل أو لم يغتسل... وما كان له أو عليه إذا كان أبو خلدة قد طعم أو لم يطعم... ولكن ذلك التابعي الجليل لم ينظر إلى ما تؤديه تلك الضرورات للبدن، بل نظر إليها على أنها شعائر لله موصولة بتعظيمه سبحانه، فإذا كانت موضع احتفال ورعاية من أهلها، دلَّ ذلك على ما يؤازرها في الضمير من تعظيم شأن الله، وكان ذلك موجباً للطمأنينة على حال الأمة، ولذلك نرى أبا العالية يقول لصاحبه بعد أن اطمأنَّ إلى ما عنده: إنما أردتك لهذا.

 

ومن هنا نلحظ أن ذلك الاهتمام لمبدأ جليل، بل شارة أجل مبدأ للإنسانية جمعاء، فلابد للإنسان من مبادئ حق يتبعها ويحيا لها... والإنسان بدون مبادئ كائن تافه لا قيمة له... ولكن المبادئ تختلف باختلاف الميول والأمزجة أو باختلاف وجهات النظر في الحياة، والله سبحانه يقول: [وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ] {البقرة:148}....

وقد يتعصب بعضهم لوجهة نظره، وقد يلتبس الحق في ذلك التعصب بالباطل، وقد يجر ذلك إلى التفرق والبلبلة، فما لم يكن هناك مبدأ كبير عام تتفرع منه كل المبادئ ويتفق على الرجوع إليه عند اختلاف الرأي وبوادر التعصب، انفرط عقد الجماعة، وانقلبت رابطة الألفة نزاعاً يميت القلوب ويدمر الوحدة...

 

وليس هناك مبدأ عام أصيل، تتفرع منه كل المبادئ بحق، وتذعن الفطرة العامة له، إلا الإيمان بالله وتعظيم شأنه سبحانه، وما أحكم ما يقول القرآن الكريم في ذلك: [فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا] {النساء:59}.

 

فللجماعات ـ كما للأفراد ـ حياة تحيا بها، وحياتها هي فيما تتعارف عليه من  مثل الخير ومبادئ الحق، ومحور ذلك وقطبه الذي يلتقي عنده ويتماسك به، هو تعظيم شأن الله تعالى، فإذا ضعف ذلك القطب نزعت القداسة من بينهم، وسهل على الأهواء أن تبدد أفراد الجماعة كما يتبدد الهشيم حين تذروه الرياح...

 

وتلك هي الزاوية التي كان يَنظر منها أبو العالية.

 

ولا شك أنَّ الحضارة التي يَقوم فيها الإيمان بالله محوراً جامعاً لألفتها وفضائلها وأهوائها هي أسمى ما تنشده الإنسانية من حضارات.

 

ولابد للإنسانية على هذا من مواقف تراجع نفسها، وتنظر إلى ما لديها من رصيد الحق، وما حققت من مبادئ الخير... فإذا وجدت ما تطمئنُّ إليه هنَّأ بعضها بعضاً في الله، وقضت على نوره ومعرفته إلى غايتها مُتواصية بعزائم الحق والصبر عليه، وإذا وجدت غير ذلك جمعت أمرها، ولمَّت شعثها، وعادت إلى الله تلتمس وجودها في ظلله... وذلك معنى عظيم تطبقه الشعوب في حيز ضيق إذا احتفلت بذكريات بطولتها وأبطالها...وتطبقه المنظمات الدولية في أفق محصور أيضاً إذا احتفلت بذكرى خير حقَّقته للإنسانية، كذكرى نجاحها ـ مثلاً في الاعتراف بحقوق الإنسان في وثيقة رسمية دولية ـ على ما يشوب هذه المعاني من صبغة مدنية، تبعدها عن الضمير الديني الموصل بالله عزَّ وجل.

 

ومن سموِّ الإسلام وأصالته أنَّه سبق إلى تقرير هذه المواقف على نطاق واسع، ورسمها أعياداً يَحتفل فيها المسلمون على اختلاف مَواطنهم، وألوانهم، وأجناسهم بما حققوا من مَعانٍ مُقدَّسة، وانتصار لإرادات الحق على رغائب النفوس.

 

ولم يجعلها أفراحاً بما تنال الغرائز والحواس من متع وشهوات... وعيد الفطر الذي نحتفل به اليوم إن هو إلا فرحة كبرى بما وفق الصائمون إليه من طاعة الله، وبما عانوا من مجاهدات شاقَّة انتصروا فيها على غرائزهم وأهوائهم، وحققوا مثل الصبر، والبذل، والتعاطف وصون اللسان عن الهجر، وضبط النفس عن بدوات أهل الحمق بالحلم والسماحة.

 

ولقد كان من الجائز أن يسنَّ لنا الإسلام عيداً للربيع حين يعتدل الهواء، وتبتسم الزهور، وتبدو الثمار... أو يسن لنا عيداً في الشتاء أو في الصيف أو في الخريف لما لنا في كل فصل من تلك الفصول من مزايا تطيب بها مصالحنا الحسية... أو يسن لنا عيداً أو أعياداً للحصاد، والغراس، والبذر، ونتاج الماشية وفيضان النهر وغير ذلك مما تعلق به الناس قديماً وما زالوا يتعلقون به إلى اليوم... وكان من الجائز أن نجد من الأدباء والكتاب من ينبري للثناء على هذا الدين الواقعي الذي يقدس الحياة، ويقيم الأعياد لأفراح الغرائز كلما وجدت ما يسعدها في سخاء الطبيعة واعتدال الفلك من ثمار وقطوف وهواء ندى لين. إلى آخر ما يتفق عنه بيان عباد الغرائز وصرعى الفتنة والهوى.

 

كان من الجائز أن يسن لنا الإسلام أعياداً من هذا القبيل لو أنه دين سطحي ولن يجني بسطحيته على العقل إذ يقف به في نظره إلى الكون عند ظواهر الأشياء، ويحني بوثنيته على الروح إذ يرسم له تعظيم الكائنات، وعبادة شهوات الحس..ولكن الإسلام الذي يرسم لذويه أن للكون ظاهراً وباطناً. وينعى على أكثر الناس أنَّهم، لا يعلمون يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا. ويقرر بمنطقه الفطري أنَّ كل الكائنات مخلوقة مملوكة لله تعالى، منقمعة في قبضة نواميسه سبحانه يتصرف بها حيث أراد، وينعى على الكثيرين تعظيم الكائنات من دون بارئها [لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا للهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ] {فصِّلت:37}.

 

الإسلام بما يرسم من هذا ويقرر يدل من نفسه على أصالة وعمق يحرر بهما العقل والروح من آفة السطحية والوثنية، فلا يعبأ بظاهر سطحي، ولا بشهوة حسية، بل يعبأ بحقيقة إنسانية الإنسان، ومدى ما يَبذل من جهد لتحقيق المُواءمة بينها وبين ضمير الوجود من حيث القداسة والجمال، فكلما نجحت إرادته في تحقيق نصر تقترب به من تلك الغاية، كان ذلك هو الجدير عند الله أن ترسم له الأعياد، وأن تفرحَ له بصائر أهل الإيمان.

 

فإذا احتفلَ قومٌ بعيد للربيع ـ مثلاً ـ أو بعيد الحياة كما يَهرفون فأمرهم في عيدهم مردود إلى الجهل، وقصر الإدراك إذ ليس الربيع ـ لدى المتأمل ـ أولى بالحفاوة من الشتاء، وليست الحياة في أحدهما أجمل منها في الآخر، وكل ما في الأمر أنَّ عبادة البدن، وأنانية اللذة، ترى في الربيع مُواتاة لأهدافها لا تراها في الشتاء، وهو من جهل البصيرة والتورط في وثنية اللذات.

 

وقسْ على ذلك ما شئت من الأعياد التي يَحتفل فيها بصخب الخمر، وعبث اللذة، وتثبيت النية على الصبوة الآثمة فقد قصر إدراكهم لحقيقة الحياة وأهدافها، فساء تقديرهم لمعنى الأعياد.

 

وذلك لون من البدائية الساذجة، وإن بدا أصحابه في كل ما عرف من شارات التحضر، فإنَّ البدائي هو الذي يُسيء إلى نفسه من حيث يظن الإحسان، وليس هناك من أبلغ من أن ينسلخ المرء من مَعَاني إنسانيته الراقية ليرتد إلى أفق حيوانيته الصاخب، ويغلق على نفسه مَنافذ حواسِّه ككل حيوان أصم، ويطلق العنان لغرائزه فيعربد بها، وتعربد به ككل الكائنات الدنيا التي تسيرها طاقات الغريزة.

 

فإذا عجب امرؤ لأن يقام لتلك الردة الخاسرة أفراح وأعياد، أو أن تكون هي شارة الأعياد ومعالم بهجتها، فهو عجب يبرز امتياز الإسلام في أصالته، إذ يرسم الأعياد والأفراح لكل نصر تحققه إرادة المؤمن في أفق المثل والقيم الراقية.

 

وخير ما نتواص به ونحن نودع رمضان ونحتفل بعيدنا الميمون ـ هو لباب وصية أبي العالية، هو الحفاوة بتنظيم شعائر الله تعالى، وأن نتزود من معاني العيد لإنسانيتنا وعزائمنا فلا ننسى ما حققناه ـ بتوفيق الله تعالى ـ من معانٍ وغايات جليلة، كان الصيام فرصة للتدريب عليها زكاة للنفس والمُجتمع.

 

لا ننسى أنَّ من معاني العيد الفرح بأداء الواجب، وخير واجب للمرء هو واجبه نحو مثل إيمانه وإنسانيته، وكذا كان للصائم فرحتان ـ كما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ لا فرحة واحدة... وجمال الحياة في الإيمان بهذا الواجب، وأن تقضي أيامها في تحقيقه... فإذا خلت من هذا المعنى فقد خلت من كل جمال وعقَّها صاحبها كما عقَّ نفسه.

 

ولا ننسى أن من تلك المعاني الصدق في أداء الواجب، وتجريد السريرة له سبحانه من كل شائبة رياء، أو مطمع حسي، والصيام سرٌّ دائم بين العبد وربه، وكل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنَّه لله، ولا يطلع عليه سواه...

 

والصدق على هذا النحو هو الدعامة الأولى لكيان كل إنسان فاضل، وكل أمة فاضلة إذ هو قوام الضمائر وروح الأعمال، ومصدر الصلابة والقول في كل بنية روحية وحسية... ومن لا صدق له لا وجود له...

 

ومن تلك المعاني، وحدة المساواة في التكاليف، وكرامة الجزاء على أدائها، حيث ألزمنا جميعاً فريضة واحدة، وكان الجزاء عليها مقدوراً بالسبق في مضمارها، لا مقدراً بكرامة جنس، أو مولد، أو منصب، أو لون من الألوان... وأكرم الناس عند الله وأوفرهم مثوبة أتقاهم.

 

ومن تلك المعاني والحقائق، المُجاهدة لتغليب إرادات الحق على نزعات الباطل وتحرير النفس من عبودية العرض الأدنى والصيام كله مجاهدة ونزوع بالنفس إلى كرامة القيم العليا.

 

فإذا كنا بهذا العيد نودع رمضان فليس معنى ذلك أننا نودع عهدنا بتلك المبادئ والمعاني الخيرة، فإننا مُنادون إليها في كل آن، وما رمضان إلا موسم دوري لتعبئة كل قوى الإنسان الروحية، وتنشيط حوافز الخير فيه لتحقيق أهدافها من الجمال والحق...

 

أو هو فترة تدريب سنوية تدرب فيها إرادة المرء لابد على مجاهدة الأنانية وعوامل الفساد الخاص، ليتاح لفطرة الكمال فيه أن تنهض إلى غايتها... فإذا انتهت فترة التدريب، فليس معنى ذلك أن يعود جُند الإرادة للركون والكسل، فإنَّ المطلوب إليها دوام اليقظة، و بذل الوسع في إبداع الخير والفضيلة، وتحقيق البر والتعاون عليه في جميع صوره طول العام.

 

لا ننسى في عيدنا ذلك كله، فإنَّ فرحة العيد نفسها، إنما تنبثق منه، ولكن هو زاد عزائمنا وقوة ضمائرنا ليكون لنا في كل يوم إرادة ناهضة، ورغبة حافزة، فيكون لنا في كل يوم نصر جديد. وعيد أي عيد... وكل عام وأنتم بخير. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

المصدر: مجلة منبر الإسلام السنة الثامنة عشرة، شوال 1380 هـ العدد العاشر

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين