الذوق حياة ـ 1 ـ
رشيد ناجي الحسن
الحمد لله الَّذي خلق الإنسان وعلَّمه البيان، وفضَّله على جَميع مَن خلق بنطقِ اللسان، وجعله سميعًا بصيرًا، ثمَّ هداه السبيلَ إمَّا شاكرًا وإمَّا كفورًا، وخلق كلَّ شيءٍ فقدَّره تقديرًا، كوَّر الليل على النَّهار، وكوَّر النَّهار على اللَّيل، وخلق الخلْق أطْوارًا، وجعل الثَّقليْن فريقَين، فله الحكم والتدبير، فريقٌ في الجنَّة وفريق في السَّعير.

أحمده حمدًا يُوافي نِعَمه، وأسأله المزيد من رفده؛ {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء: 44]، ثمَّ الصَّلاة والسَّلام على سيدنا محمَّد، وعلى آله وصحبه وسلم:
مَا قَالَ لا قَطُّ إِلاَّ فِي تَشَهُّدِهِ        لَوْلا التَّشَهُّدُ كَانَتْ لاؤُهُ نَعَمُ
 
وبعد:
أيُّها الإخوة الأعزاء:
المرء بفضيلتِه لا بفصيلته، وبكماله لا بماله، و بآدابه لا بثيابه، وبأخلاقه لا بِجماله، المرء من حيث يُثبِت لا من حيث يَثبُت؛ ومن حيث يوجد لا من حيث يولد.

حَسَنُ الأدب ذو قرابة ولو عند الأجانب، وسيئ الأدَب أجنبي ولو عند الأقارب.

قد يعجب الكثيرون من اختياري الحديثَ عن هذا الموضوع بالذَّات - أي: (الذَّوقُ) - في ظل ما تُعانيه الأمَّة من نكبات، بل قد يعتبِره الكثيرون أمرًا ثانويًّا.

وليس الأمر بِهذه البساطة التي تجعلنا نسْتَتْفهُ الحديث عنْه؛ لأنَّ الذَّوق عنصر هامٌّ من عناصر السُّلوك الحياتيِ، سواءٌ ما كان بين الإنسان وربِّه، أم بين الإنسان وأخيه الإنسانِ من علاقات وصلات شتَّى.

الذَّوق العامُّ، أو ما يسمَّى مجازًا "الإتكيت" اللَّفظي والفعلي ليس ترفًا؛ بل إنَّه ضرورة ملحَّة، وحاجةٌ في غاية الأهميَّة.

والآن وبعد هذه المقدِّمة، ما رأيُكم أيُّها الإخْوة والأخوات أن نتعرَّف على معنى الذَّوق وبعض تعريفاته؟

حقيقةً؛ لو أردت أن أعرِّفَ الذوق لقلت: إنَّ من الصعب وضعَ تعريفٍ شامل وافٍ له؛ ذلك لأنَّه أوسعُ وأشملُ من أن يُحْصَر في مجموعةٍ من الكلِمات.

هناك ألفاظٌ لا تجِد لها في اللغة معنًى حقيقيًّا وافيًا، كالحبِّ مثلا: ما هو الحب؟ ما هي الرحمة؟ ما هي المُرُوءة؟

واللُّغة العربيَّة لَم تشهد لفظة أوسعَ ولا أشملَ من لفظة الذَّوق، ولا أكون مبالغًا إذا قلت: إنَّ الذَّوق هو أسمى معنىً عرفتْه البشريَّة؛ لأنَّه يعني تَحقيق معاني الحقِّ والخير والجمال.

الذَّوق: هو النفس المرهفة، هو الرُّوح الجميلة، هو الشعور بالجمال، هو النظافة، هو النظام، هو الحس المرهف، هو سلوك الروح، هو النَّفس الشفَّافة التي تدرك الخطأ بِسُرعة، هو الرِّفْق بالحيوان، هو فنُّ التَّعامُلِ مع الآخرين، وإدراكِ غضبهم أو سعادتهم بسرعةٍ من نظرة العين وتفاصيل الوجْه.

الذَّوق: هو فن الاتِّصال بكل المحيطات الخارجيَّة للإنسان، سواءٌ أكان إنسانًا أم حيوانًا، أم نباتًا أم جمادًا.

وأمَّا في اللُّغة فيقال:
ذاق الشيء؛ أي: جرَّبه واختبره، وذاق الطعام: اختبر طعمه.

وتذوَّق العمل الفنِّي: استمْتَع بما فيه من جمال.

وفي "لسان العرب": أَمر مُستَذاقٌ؛ أَي: مُجَرَّبٌ معلوم.

ويقال: ذُقْ هذه القوس؛ أَي: انْزَعْ فيها لتَخْبُر لِينها من شدَّتها.

قال الشَّمّاخُ:
فَذَاقَ  فَأَعْطَتْهُ  مِنَ  اللِّينِ  جَانِبًا        كَفَى وَلَهَا أَنْ يُغْرِقَ النَّبْلَ حَاجِزُ
 
أَي: لها حاجز يَمنع من إِغراقٍ؛ أي: فيها لين وشدَّة.

وقوله - تعالى -: {فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا} [الطلاق: 9]؛ أَي: خبَرت.

وفي "تاج العروس": "وقوله - تَعالَى -: {فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الجُوعِ وَالْخَوْفِ} [النحل: 112]، استعْمل الذَّوق مع اللباسِ من أجل أنَّهُ أُرِيدَ بهِ التَّجْرِبَةُ والاخْتِبارُ؛ أَي: جَعَلَها بحيث تمارِسُ الجُوعَ، وقِيلَ: إنَّ ذلكَ على تَقدِير كَلامَينِ، كأَنَّه قِيلَ: أذاقَها الجُوعَ والخوْفَ وألْبَسَها لِباسَهما.

وفي القُرآن الكريم، وردت هذه اللفظة ثلاثًا وستِّين مرَّةً على اختِلاف مشتقَّاتِها، منها قولُه تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَن يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُم مِّن رَّحْمَتِهِ} [الروم: 46].

وأمَّا في السنَّة المطهَّرة:
ففي الحَديثِ: ((ذاقَ طَعْمَ الإيمانِ مَنْ رَضِيَ باللهِ رَبًّا، وبالإسلام دينًا، وبمُحَمَّد رَسُولاً))؛ رواه مسلم، فأخْبَر أَنَّ للإيمانِ طَعْمًا، وأنَّ القَلْبَ يَذُوقُه كما يَذُوقُ الفَمُ طَعْمَ الطَّعامِ والشَّراب، وقد عَبَّرَ النَّبيُّ - صلَّى الله عليْه وسلَّم - عن إدْراكِ حَقِيقَةِ الإيمان والإحْسانِ، وحصولهِ للقلبِ ومُباشرَتِه له، بالذَّوْقِ تارَةً، وبالطَّعام والشَّرابِ تارةً، وبوجْدان الحَلاوَةِ تارةً أُخرى.

وفي الحَدِيثِ في صفَةِ الصَّحابَةِ - رضْوان الله عنْهم أجْمعين -: ((يَدْخلُونَ رُوَّادًا ولا يتَفَرَّقونَ إلاَّ عَنْ ذَواق))، قال القُتَيبيُّ: الذَّواقُ: أصْلُه الطَّعْمُ، ولم يُرِدِ الطَّعمَ ههُنا ولكنَّهُ ضَربَهُ مثلاً لما يَنالُونَ عِنْدَه من الخَيْرِ، وقالَ ابنُ الأنْبارِيِّ: أراد لا يَتَفَرَّقونَ إلاَّ عَن عِلْمٍ يتَعَلَّمُونَه يقومُ لهم مَقامَ الطَّعامِ والشَّرابِ؛ لأنَّه كانَ يَحْفَظُ أرْواحهُم كما كانَ يَحْفَظُ الطَّعامُ أجْسامَهُم.

والحديث مرْوي في الشَّمائل.

وقد قيل: الذَّوقُ هو الأدب، وهو حسنُ الخُلق من دون إفْراط ولا تفريطٍ، ولا غلوٍّ ولا جفاء.
وقيل: حقيقةُ الذَّوق اجتماعُ الخير.
وقيل: الذَّوق هو الفطرة، فإذا انتكست الفِطْرة ذهب الذَّوق وهلك النَّاس.
وقيل: الذَّوق هو طريق الإيمان.

ووصف أعرابيٌّ الأدب في مجلس مَعْمَرِ بنِ سليمانَ، فقال: الأدب أدب الدِّين، وهو داعيةٌ إلى التَّوفيق، وسببٌ إلى السَّعادة وزادٌ من التقوى، وهو أن تعلم شرائعَ الإسلام، وأداءَ الفرائِض، وأن تأخُذ لنفسك بحظِّها من النَّافلة، وتزيدَ ذلك بصحَّة النية، وإخلاصِ النَّفس، وحبِّ الخير، منافسًا فيه، مبغِضًا للشَّرِّ نازعًا عنه، ويكونَ طلبُك للخير رغبةً في ثوابه، ومجانبتُك للشَّرِّ رهبةً من عقابه، فتفوزَ بالثواب، وتسلمَ من العقاب، ذلك إذا اعتزلت ركوب الموبقات، وآثرت الحسناتِ المنجيات.

وأقول: الذَّوق هو فوقَ الفوق، بل هو أساس الخيْر، وخيْر الأساس، هو صورة العقل فصوِّرْ عقلك كيف شئت.

وقد عَرَّفه الشيخ ابْنُ القيِّم - رحِمَهُ اللهُ - بقَولِه: "الأدَبُ: استِعْمَالُ الخُلُقِ الجَمِيل".

فكأنَّه جَعَلَ الخُلُقَ مَادَّةً تَحْتَاجُ مِن العَبْدِ إلَى استِعمَالٍ لِتَظْهَر ثِمارُها، وثِمَارُ الخُلُقِ: الأدَب.

وأمَّا عند الأطبَّاء، فحاسَّة التذوُّق وكذلك حاسَّة الشَّمِّ يؤثِّران على بعضِهما، ويُساعدان على التَّمييز بين الأطعِمة المختلفة وكذلك الشَّراب.

وتنتشِر على اللِّسان حليمات التذوُّق مختلفة الشَّكل والحجْم، تَحتوى على خلايا حسيَّة تميِّز بين الحلو والقابض والمالح والمر، والخلايا حسَّاسة لواحد أو اثنين منْها، وتنتقل النَّبضات العصبيَّة إلى القِشْرة المخِّية حيث يتم إدراك الطَّعم.

ومن عجبٍ - سبحان اللهِ! - أنَّ الله - سبحانَه وتعالى - أعطانا إشاراتٍ ذوقيَّةً من خلال انتشارِ الحليماتِ الذَّوقيَّةِ على اللسان؛ وذلك أنَّ علماء الطب يقولون: إنَّ مناطقَ التذوُّق تنتشر على النحو التالي:
• طرفُ اللسان يميِّز طعم السكر.
• جانبا اللِّسان يميزان الطعم القابض مثلَ الخلّ.
• نهايةُ اللِّسان يدرك الطعم المر.

أرأيتم - أيُّها الإخوة - الإشارةَ الذَّوقيةَ في هذا "التوضُّع"، فكأنَّ جعلَ طرفِ اللسان وبدايتِه لمعرفة الحلو إشارةٌ إلى أن يكونَ أوَّلُ ما يصدرُ من كلامِنا دائمًا حلوًا، وأن جعلَ معرفة المر في آخر اللسان إشارةٌ إلى أن يكون آخرُ ما يصْدر م 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين