رمضان

 

ما أحب الحديث عن رمضان إلى النفس، وما أقربه إلى القلب، فإن النفوس المؤمنة تستقبل هذا الشهر كما تستقبل النسيم الغض في إثر الحيا، وتهش له كما يهش زهر الروض حين يمسه ندى الإصباح، وتحس للصوم بشاشة ترتفع بالصائمين إلى عليين، وتصل بينهم وبين الأفق النوراني فتجعلهم في عالم غير محدود من النور والبهجة، لا يصل إليه إلا أولئك الذين استمدت له نفوسهم، وصقلت بالنداء الإلهي أفئدتهم، في كل مطلع فجر من رمضان فكر، وفي كل مغيب شمس ذكر، وكأنما الإنسان فيه ملاك يعيش في الأرض، والناس أحباء قد صفا بعضهم لبعض.

 

ولكن هذه روحانية لا تتهيأ إلا لمن استشعر معنى الصيام، وفهم ما قصده الله جلَّ شأنه من تربية عباده بتلك الفريضة الكريمة. أما الذين يصومون عن الطعام والشراب وقلوبهم في غفلة عن معنى الصيام، ونفوسهم غارقة في الأوزار والآثام، فأولئك ليس لهم في صيام رمضان مثوبة، ولا يصلهم من جزاء الصائمين نصيب!.

 

إن الصائم إذا عمق النظر في معنى صومه، عرف أن الصيام معلم يرشد الإنسان إلى ما لا يرشد إليه سواه، ومهذب يسمو بصاحبه إلى السوى الذي يتمناه، فبالصيام تصفو الأفئدة، وتتقارب الأفكار، فيسود العالم الوئام، ويشيع فيه التجانس، وتتوحد الأهداف، وما الفساد والظلم والطغيان، وما الجفوة والتقاطع، وما الصفات الذميمة التي تقود الإنسان إلى مهاوي الهلكة.

 

ما كل هؤلاء الخصال إلا أثر من آثار المادة التي يدور الإنسان في أفلاكها، محروماً من التطلع إلى الجوانب العليا في الحياة، ومسلوباً تلك المعنويات التي تمكن النفس الإنسانية من الاتصال بعالمها البديع وتلقى الفيض من مبدعها العظيم.

 

إن الصوم رياضة روحية، والناس جميعاً يعلمون هذه القضية، ولكن قليلاً منهم هم الذين يعلمون أن تلك الرياضة تؤكد التوازن، وتخلق الصلة الكاملة بين البشرية، وتصلها بخالقها، وجدير بالصائمين جميعاً أن يتعلموا هذه الحقائق، وأن يعلموا أن الصوم يدفع الإنسانية إلى الأمام، ويرسم لها سبل الهداية التي دعا إليها الإسلام، وهدى إليها القرآن، وبينها النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، فأخرج بها العالم من الظلمات إلى النور، وصار بها المسلمون العاملون هم سادة الدنيا بأسرها، وقادة العالم كله إلى الرشاد، وكأنهم في سموهم وتراحمهم أمة وحدهم، تهدي إلى الخير، وإلى طريق مستقيم، بينما الناس حولهم في الإفك والضلال المبين!

 

الصوم عفة وقناعة، وفيه الأخلاق الفاضلة يعانق بعضها بعضاً، وكل خلق فاضل يستدعي سائر الأخلاق، فالعفة زهد في جمع المال، وإعراض عن المادة، وما فيها من تهافت، وصدوف عن الدنيا، وما تحتوي من متاع، وإقبال على الآخرة، وما أعد فيها للمحسنين، وتزود بزاد الأبرار من عباد الله، وقد ذم الله المال الذي يتخذه صاحبه مطية للنزغات فيلهو به عن ذكر الله تعالى، ويرغب عن رضاه!.

 

 قال تعالى:[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ] {المنافقون:9}. وقال جل شأنه: [إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ] {التغابن:15}.

 

فمن اختار ماله وولده على ما عند الله وما أعد للصائمين والمحسنين، فقد غبن غبناً عظيماً، وخسر خسراناً كبيراً، ودخل في الوعيد الذي تضمنته الآية الكريمة.

 

قال تعالى: [مَنْ كَانَ يُرِيدُ العَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا] {الإسراء:18}.

 

وقد أخبر الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم أن قوماً يحبون الدنيا ويهيمون بالمال، يهدمون الإسلام هدماً، وينقضون عراه نقضاً، وجعل على المسلمين أن يجتنبوهم، ولا يخالطوهم، ولا يعتبروهم من الأمة التي قال الله فيها:[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] {آل عمران:110}.

 

ـ قال صلى الله عليه وسلم: ( هلك المكثرون إلا من قال به في عباده الله هكذا وهكذا، وقليل ما هم) رواه أحمد ، وعبد الرزاق وغيرهما. ومن أخذ من الدنيا فوق ما يكفيه، أخذ حتفه وهو لا يشعر.

 

وفي الحديث الشريف عن مطرف عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يقول ابن آدم: مالي ! وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت) رواه أحمد والترمذي.

 

وقال الحواريون لعيسى عليه السلام: مالك تمشي على الماء ولا نقدر على ذلك؟ فقال لهم: ما منزلة الدينار والدرهم عندكم ؟ قالوا: حسنة. قال: لكنهما والمدر عندي سواء.

 

 وقد هذب الصوم المسلمين، وغرس في نفوسهم الزهد، فعافوا الدنيا وسخطوها، وكان ينصح بعضهم بالإعراض عنها وطرحها ظهرياً، وكتب سلمان الفارسي إلى أبو الدرداء إلى سلمان الفارسي رضي الله عنهما: > يا أخي إياك أن تجمع من الدنيا ما لا تؤدي شكره، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: > يجاء بصاحب الدنيا الذي أطاع الله فيها، وماله بين يديه، كلما تكفأ به الصراط قال له: امض فقد أديت حق الله فيَّ، ثم يجاء بصاحب الدنيا الذي لم يطع الله فيها، وماله بين كتفيه، كلما تكفأ به الصراط قال له ماله: ويلك ألا أديت حق الله فيَّ !! فما يزال كذلك حتى يدعو بالويل والثبور!!< رواه البيهقي ، وأبو نعيم ، وغيرهما ، وفيه انقطاع.

 

وقال أبو العتاهية:

ما أحسن الدنيا وإقبالهـــــــا    إذا أطاع الله من نالها

من لم يواس الناس من فضله      عرَّض للإدبار إقبالها

وكل طمع ابن آدم وشحه وحبه للمال والمتاع، يرجع إلى الشره، والتهافت على ملذات النفس، وإرخاء العنان لها، ترتع كما ترتع إليهم، دون رادع من قناعة، أو كابح من كفاية، ولا حظ له إلا تربية جسمه، وتمتعه بزينة الحياة الدنيا!! ومثل أولئك ليسوا من المفلحين، وقد كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ينصح لعامل من عماله وينهاه عن الانغماس في الترف والتغالي في المتاع فقال له: >وإياك يا عبد الله أن تكون كالبهيمة، حظها في السمن، وإنما حتفها في ذلك السمن< وكل هذه رذائل ينهي عنها الصوم، ويطهر النفس منها، وينقيها كما ينقي الثوب الأبيض مما يعلق به.

 

ثم هو بعد ذلك سبيل إلى ما أمر به الإسلام من الورع، وعلو النفس، والصدق في الوعد، و الحذر في الحديث، وهو ما أرشد إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم الأعرابي حين قال له: يا رسول الله، عظني وأوجز. فقال: ( إذا صليت فصل صلاة مودع،، ولا تحدثن بحديث تعتذر منه غداً، وأجمع اليأس مما في أيدي الناس) وقال عوف بن مالك الأشجعي: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم تسعة أو ثمانية أو سبعة فقال: (ألا تبايعون رسول الله ؟ ) قلنا: أو ليس قد بايعناك ؟ فعلى ماذا نبايعك ؟ قال: (أن تعبدوا الله، ولا تشركوا به شيئاً، وتصلوا الخمس، وأن تسمعوا وتطيعوا، وأسر كلمة خفية ـ ولا تسألوا الناس شيئاً ). قال: فلقد كان بعض أولئك النفر يسقط سوطه، فلا يسأل أحداً أن يناوله إياه!رواه مسلم . وهكذا يعلم الإسلام أهله أن يتحلوا بحلية العباد المخلصين، وأن يكون لهم عزة المؤمنين، فما أحسن أن يذكر المرء في صلاته أنها سبيل الآخرة، وأن يبتهل ليكون ذكر الله مالئاً قلبه، وليستحضر عظمة مولاه الذي خلقه فسواه وأن يكون إنساناً حريصاً صادقاً، لا يتحدث بالحديث يرسله إرسالاً من غير روية ولا تدبر، فإذا جاء الغد رجع عنه واعتذر عما بدر منه، وأن يكون عفا كامل النفس لا يتطلع لما في أيدي الناس، ففي ذلك العزة ورفعة النفس، وكرامة الإنسان التي كتبها الله لبني آدم وأعزهم بها إعزازاً.

 

وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إن الطمع فقر، وإن اليأس غنى، وإنه من ييأس عما في أيدي الناس استغنى عنهم، وكل هذه الخصال يربيها الصيام في الصائمين ويغرسها في قلوب المؤمنين الخاشعين.

 

إن الصائم إذا أقبل على ربه، ونسي بذكره شأن غيره، كثر صمته، وطال خشوعه، وكان سكونه فكراً، وكلامه ذكراً، وعلم أن الله تعالى عند لسان كل قائل، فيتقي الله في كل ما ينطق وما يذر.

 

وقد جاء في الحديث الشريف: ( إذا رأيتم المؤمن صموتاً وقوراً فادنوا منه، فإنه يلقن الحكمة)رواه ابن ماجه بلفظ آخر ، وهذا اللفظ لم أجده

 

 قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( الناس غانم، وسالم، وشاحب، فالغانم الذي يذكر الله تعالى، والسالم الساكت، والشاحب الذي يخوض في الباطل) الطبراني وأبو يعلى عن أبي سعيد الخدري

 

 وليس أحق بتعليم الإنسان ذلك كله من الصيام الذي يكبح جماح النفس عن الحرام، وينهاها عن لغو الكلام، ويزجرها أن تتورط في الضلال والآثام، ويخلق في المسلم فضائل لا تتاح له بغير الصيام، ولا تتهيأ إلا بأن يكون سلطان المرء على نفسه مفروضاً، وقهره لها محتوماً، لا تغلبه شهوة جسم ولا جاه، ولا مال ولا نشب ! يصوم ليكون مؤمناً خالصاً، ويعبد ليكون عبد الله، لا تفتنه شهوة عن إخلاص، ولا يصرفه عرض من أعراض الدنيا عن رضا مولاه، ولا يكون كالمغرورين الذين يتكلمون ليصرفوا وجوه الناس إليهم

 

 قال يزيد بن أبي حبيب : (من فتنة العالم أن يكون الكلام أحب إليه من الاستماع ) ـ جامع بيان العلم وفضله ـ ، ولا كالمفتونين بالسلطان والجاه، يصومون رئاء الناس لتكون لهم زعامة في قومهم، أو إمامة في رهطهم، أو ليقال إنهم عابدون ولربهم طائعون، فينضوي حولهم الناس، وهم شر على تابعيهم من الوسواس الخناس!!

 

الصوم قهر للنفس البشرية التي طغت وبغت، وكادت من غرورها وعتوها تقلب العالم رأساً على عقب، وتمحو ما شيدت أيدي البشرية من حضارة وعمران، وتمادت في طغيانها حتى استذلت إخوانها من بني الإنسان، وظلمتهم، وسلبتهم ما أعطاهم الله من الحرية، لا يخشون بأس ربهم، ولا نكالاً في آخرتهم، والله يملي لهم، وسينالهم ما أعد للظالمين، إن الصيام ينهى عن هذا كله ويأمر الناس بالعدل والإحسان، ولكن أين هم المؤمنون الصائمون؟!

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم

([1]) مجلة لواء الإسلام العدد الأول من السنة السادسة عشرة (1381هـ=1961م).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين