حدث في الثالث والعشرين من رمضان

الأستاذ محمد زاهد أبو غدة
في الثالث والعشرين من رمضان من سنة 273 توفي، عن 64 سنة، الإمام المحدِّث أبو عبد الله محمد بن يزيد الرَبعي القزويني، المعروف بابن ماجه: أحد الأئمة في علم الحديث. كان أبوه يزيد يلقب بماجه، والرَبعي نسبة إلى قبيلة ربيعة العربية التي كان من مواليها.
 
ولد ابن ماجه في قزوين وهي مدينة شمالي غربي طهران، ورحل في طلب الحديث إلى العراق والبصرة والكوفة وبغداد ومكة والشام ومصر والرَّي، وأصبح من أعلام المحدثين، ويُعدُّ كتابُه في الحديث المسمى سُنَن ابن ماجه أحد الكتب الستة التي هي أصول الحديث وأمهاته، وإن كان بعض المحدثين يقول: السادسُ هو موطأ الإمام مالك. وقد قدم المحدثون سنن ابن ماجه على الموطأ لكثرة ما فيه من الأحاديث الزائدة على ما أورده أصحاب الكتب الخمسة، وذلك بخلاف الموطأ، وإن كان الموطأ رائد
 
ابتدأ ابن ماجه كتابه في السنن بباب اتِّباع سنةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأول حديث أورده هو حديث أبي هريرة رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أمرتكم به فخُذوه، وما نهيتكم عنه فانتهوا. ويعلق ابن ماجه على بعض الأحاديث مصححاً لوهم من الراوي أو مبيناً لشاهد فقهي، وكل تعليقاته رحمه الله تعالى تدل على علمه وفقهه ونباهته ودقته في رواية حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
 
ونستعرض بعضاً من هذه التعليقات تبياناً لذلك:
فمنها ما هو لتبيان أهمية الحديث، فعندما أورد حديث أبي أمامة الباهلي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدجال،قال ابن ماجه: سمعت أبا الحسن الطنافسي يقول سمعت عبد الرحمن المحاربي يقول ينبغي أن يدفع هذا الحديث إلى المؤدب حتى يعلمه الصبيان في الكتاب
 
ومنها ما هو لبيان الدقة في الرواية، فعندما روى عن أحمد بن سنان حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن بالمدينة رجالا ما قطعتم واديا ولا سلكتم طريقا، إلا شركوكم في الأجر حبسهم العذر. عقب ابن ماجه بقوله: أو كما قال؛ كتبته لفظا.
 
ومنها ما يدخل في فقه الحديث، فعندما أورد حديث أبي هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: البحرُ الطهورُ ماؤه الحِلُّ ميْتته. قال ابن ماجه: بلغني عن أبي عبيدة الجواد أنه قال: هذا نصف العلم، لأن الدنيا بر وبحر، فقد أفتاك في البحر وبقي البر.
 
ومنها ما هو تأكيد لصحة النقل، فعندما أورد حديث العباس بن عبد المطلب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تزال أمتي على الفطرة ما لم يؤخروا المغرب حتى تشتبك النجوم. قال ابن ماجه: سمعت محمد بن يحيى يقول اضطرب الناس في هذا الحديث ببغداد، فذهبت أنا وأبو بكر الأعين إلى العوَّام بن عباد بن العوام، فأخرج إلينا أصل أبيه فإذا الحديث فيه.
ومنها ما هو تبيين للفظ مشتبه، فعندما روى حديث أنس بن مالك: صنع بعض عمومتي للنبي صلى الله عليه وسلم طعاما، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: إني أحب أن تأكل في بيتي وتصلي فيه، قال: فأتاه وفي البيت فحل من هذه الفحول، فأمر بناحية منه فكُنِّس ورُّشَّ، فصلى وصلينا معه. قال ابن ماجه: الفحل هو الحصير الذي قد اسّوَد.
 
ومنها ما هو تبيين لتفرد راوٍ، مثل مارواه عن أبي بكر بن أبي شيبة حدثنا ابن أبي غنية عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله أنه سئل أكان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب قائما أو قاعدا قال أوما تقرأ { وتركوك قائما }. قال ابن ماجه: غريبٌ لا يُحدِّثُ به إلا ابن أبي شيبة وحده.
 
وقد قيض الله لسنن ابن ماجه عدداً من العلماء من الهند إلى المغرب الذين شرحوها أو بينوا مزاياها وملاحظاتهم عليها، وما يلي نبذة تبين للقارئ الكريم أنموذجاً من الحوار العلمي في هذا الصدد.
 
قال ابن ماجه: عرضتُ هذه السُّنن على أبي زرعة - وهذا من أدب العلماء وكمال تهذيبهم - فنظر فيه وقال: أظنُّ إن وقع هذا في أيدي النّاس تعطّلت هذه الجوامع أو أكثرها. ثمّ قال: لعلّ لا يكون فيه تمام ثلاثين حديثاً ممّا في إسناده ضعفٌ، أو نحو ذا. وعنى بقوله الجوامع: الكتب الجامعة لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
 
وعلَّق على ذلك الإمام الذهبي في سِيَرِ أعلام النبلاء فقال: قد كان ابن ماجه حافظاً ناقداً صادقاً، واسع العلم، وإنما غضَّ من رتبة سننه ما في الكتاب من المناكير، وقليل من الموضوعات، وقول أبي زرعة - إن صحّ - فإنما عنى بثلاثين حديثا، الأحاديث المطَرَّحة الساقطة، وأما الأحاديث التي لا تقوم بها حجة، فكثيرة، لعلها نحو الألف.
 
ويرى بعض المحدثين أن الجوامع التي عناها الإمام أبو زرعة الرازي إنما هي الجوامع التي صنفها الحفاظ في بلاد الري وقزوين وطبرستان وتلك البلاد، ويؤيد هذا ما قاله ابن طاهر المقدسي عند ذكره سنن ابن ماجه: وهذا الكتاب وإن لم يشتهر عند أكثر الفقهاء، فإن له بالري وما والاها من ديار الجبل وقوهستان ومازندان وطبرستان شأن عظيم؛ عليه اعتمادهم، وله عندهم طرق كثيرة.
 
وإنما عرضَ الإمامُ ابن ماجه سننه على الحافظ أبي زرعة الرازي، عبيد الله بن عبد الكريم المتوفى سنة 264 عن 64 عاماً، جرياً على أدب العلماء وبخاصة المحدثين الذين عرض كثير منهم ما صنفوه على غيرهم من الحفاظ سواء كانوا أساتذة لهم أم من أقرانهم، وهذا رغبة منهم في أن تخلو مصنفاتهم- ما أمكن- من الخلل والزلات، وهو منهج عريق في تصحيح المؤلفات والمصنفات والاستدراك عليها، ونجده اليوم في الأبحاث المحكَّمة التي تنشرها المجلات العلمية المتخصصة. ومن قبله عرض الإمام مسلم صحيحه على أبي زرعة، قال الإمام مسلم: عرضت كتابي هذا على أبي زرعة الرازي، فكل ما أشار، أن له علة تركته، وكل ما قال إنه صحيح وليس له علة خرجته.
 
وتشتمل سنن ابن ماجه على اثنين وثلاثين كتابا، وألف وخمسمئة باب، وقد حقق سننَ ابن ماجه صديق والدي الأستاذُ محمد فؤاد عبد الباقي، وكان رحمه الله يصوم الدهر وتوفي عام 1388 = 1968 وقد قارب التسعين، وطبعتها مطبعةُ عيسى البابي الحلبي وأولاده في القاهرة عام 1372، وأحصى الأستاذ عبد الباقي أحاديث سنن ابن ماجة إحصاءً دقيقاً، فكان مجموعها 4341 حديثاً، منها 3002 حديث أخرجها أصحاب الكتب الخمسة كلهم أو بعضهم، وباقيها وعددها 1339 حديثاً هي الزوائد على ما جاء بالكتب الخمسة، ومن هذه الزوائد 428 حديثاً رجالها ثقات صحيحة الإسناد، ومنها 199حديثاً حسنة الإسناد، ومنها 613 حديثاً ما بين واهية الإسناد أو منكرة أو مكذوبة.
 
ولابن ماجه أيضاً كتاب تفسير القرآن ضخم مما لم يُعثر عليه، وقد أثنى عليه الإمام الحافظ ابن كثير الدمشقي المتوفى سنة 774، في كتابه البداية والنهاية، ووصفه بأنه تفسير حافل، كما ذكر الحافظ الـمِزِّي، يوسف بن عبد الرحمن المتوفى سنة 742، في كتابه تهذيب الكمال في أسماء الرجال أنه رأى جزأين منتخبين من هذا التفسير، مما يشير إلى ضخامة هذا التفسير.
 
وألف ابن ماجه كتابه تاريخ قزوين، مؤرِخاً لبلده على الرجال والأمصار من لَدُنِّ الصحابة إلى عصره، ولم يصلنا هذا الكتاب كذلك.
 
ولابن ماجه أخ محدث كذلك هو أبو محمد الحسن بن يزيد بن ماجه القزويني، المتوفى بعد سنة 280.
 
ومما تجدر الإشارة إليه أن أهم راوٍ عن ابن ماجه هو الإمام الحافظ أبو الحسن القطان القزويني، علي بن إبراهيم المولود سنة 254 والمتوفى سنة 345، أي أن سنه كانت 19 عاماً عند وفاة ابن ماجه في سنة 273، فتأمل متى بدأ في طلب العلم ورواية الحديث حتى أصبح وهو شاب راوي ابن ماجه، ثم تابع الرحلة وطلب العلم حتى صار إمام قزوين في علوم التفسير والفقه والنحو واللغة.
 
ولما توفي ابن ماجه رثاه أحد شعراء قزوين محمد بن الأسود القزويني بأبيات غير مألوفة لا قافية لها فقال:
 
لقد أوهى دعائمَ عرشِ علمٍ ... وضعضع ركنه فَقْدُ ابن ماجه
وخاب رجاء ملهوف كئيب ... يداويه من الداء ابن ماجه
ألا لله ما جَنَتِ المنايا ... علينا بخطفها مِنَّا ابن ماجه
محمد الذي إن عُدَّ يوماً ... مصابيح الدجى عد ابن ماجه
ومن لمصنفات مسندات ... ومنتخباتها بعد ابن ماجه
ومن يُعطى الذي أعطاه ربى ... من التمييز والفقه ابنَ ماجه
فمن يرجى لعلم أو لحفظ ... بشرحٍ بَيِّنٍ مثلُ ابن ماجه
فما أدرى لمن آسى حياتي ... لفقدي العلم أو فقدي ابن ماجه
لئن جُرِّعتَ كأساً للمنايا ... لقد جَرَّعتَ حُزنا يا ابن ماجه
يذكرنيك آثار حسان ... وود خالص لي يا ابن ماجه
ألا لا ريب ما ترني وأني ... بأني لاحق بك يا ابن ماجه
فأسكنك المليك جنان عدن ... ولقّانيكَ فيها يا ابن ماجه
أيا عبد الاله مضيت فرداً ... وما خلفت مثلك يا ابن ماج

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين