حدث في الثامن عشر من رمضان

محمد زاهد أبو غدة

 في الثامن عشر من رمضان من سنة 124 توفي، عن 66 عاماً، التابعي الجليل محمد بن مسلم ابن شهاب الزُّهْري القرشي، وكانت وفاته بشَغْب، آخر حد الحجاز وأول حد فلسطين.
روى الزهري حديث الرسول صلى الله عليه وسلم عن أنس بن مالك، وسهل بن سعد، وسمع من عبد الله بن عمر، وروى عن آخرين من صغار الصحابة رضي الله عنهم.
وهو من أول من دوّن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الإمام المحدث عبد الله بن ذكوان المعروف بأبي الزِّناد، المولود سنة 65 والمتوفى سنة 131: كنت أطوف أنا وابن شهاب نكتب الحلال والحرام، ومع ابن شهاب الألواح والصُحُف، فكنا نضحك به، وكان ابن شهاب يكتب كل ما سمع، فلما احتيج إليه علمتُ أنه أعلم الناس.
وقال الفقيه المحدث صالح بن كيسان المدني المتوفى سنة 140 وقد ناهز المئة: كنت أطلب العلم أنا والزهري، فقال: تعال نكتب السنن، فكتبنا ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: تعال نكتب ما جاء عن الصحابة، فكتَبَ ولم أكتب، فأنْجَحَ وضيعتُ!
وقال المحدث إبراهيم بن سعد بن إبراهيم الزهري، وكان أبوه قاضي المدينة في عصره: قلت لأبى: بِمَ فاقكم الزهري؟ قال: كان يأتي المجالس من صدورها ولا يأتيها من خلفها، ولا يُبقي في المجلس شابًا إلا سأله، ولا كهلاً إلا سأله، ثم يأتي الدار من دور الأنصار، فلا يُبقي فيها شابًا إلا سأله، ولا كهلاً إلا سأله، ولا فتى إلا سأله، ولا عجوزًا إلا سألها، ولا كهلة إلا سألها، حتى يحاول ربات الحجال.
وقال الزهري: لولا أحاديث سالت علينا من المشرق نُنكُرها لا نعرفها، ما كتبتُ حديثاً ولا أذِنتُ في كتابه.
حفظ ابن شهاب الزهري القرآن في ثمانين ليلة، ولزم عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود أحد فقهاء المدينة السبعة سنوات، وقال: كنت أخدم عبيد الله بن عبد الله حتى كنت أستقي له الماء، وإن كان ليسأل الجارية مَنْ بالباب؟ فتقول: غلامُك الأعمش، تظن أني غلامه.
وحدث الزهري عن طَلَبِه العلم فقال: نشأت وأنا غلام لا مال لي، منقطع من الديوان، فكنت أتعلم نسب قومي من عبد الله بن ثعلبة بن صُعَير العذري، وكان عالماً بنسب قومي، وهو ابن أختهم وحليفهم، فأتاه رجل فسأله عن مسألة من الطلاق، فعيَّ بها وأشار له إلى سعيد بن المسَيَّب، فقلت في نفسي: ألا أراني مع هذا الرجل المسن يعقل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مسح على رأسه وهو لا يدري ما هذا! فانطلقت مع السائل إلى سعيد بن المسيب، فسأله فأخبره، فجلست إلى سعيد وتركت عبد الله بن ثعلبة، وجالست عروة بن الزبير، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة، وأبا بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، حتى فهمت، وجالست سعيد بن المسيب عشر سنين كيوم واحد.
وكتب عبد الملك بن مروان إلى أهل المدينة يعاتبهم، فوصل كتابه ذلك في صحيفتين، فقُرئ الكتاب على الناس عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما فرغوا وافترق الناس، اجتمع إلى سعيد بن المسيب جلساؤه، فقال لهم سعيد: ما كان في كتابهم؟ ليت أنَّا وجدنا من يعرف لنا ما فيه، فجعل الرجل من جلسائه يقول فيه كذا، ويقول الآخر أيضا فيه كذا، فكأن سعيد لم يشتَفِ فيما سأل عنه لخبرهم، فبان ذلك لابن شهاب فقال: أتحب يا أبا محمد أن تسمع كل ما فيه؟ قال: نعم. فأمْسَكَ الزهري فهذَّهُ عليه هَذّاً حتى كأنما في يده يقرأه، حتى جاء عليه كله، وقال ابن شهاب: والله ما استودعت قلبي حِفظَ شيء قط فنسيتُه ولا خرج منه.
كان الزهري لا يترك أحداً يكتب بين يديه ما يحدث به، فأرسل إليه الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك أنِ اكتب لبَنيَّ بعضَ أحاديثك، فقال له: لو سألتني عن حديثين ما تابعتُ بينهما، وتكريرُ الحديث في المجلس أشد عليَّ من نقل الصخر، ولكن إن كنت تريد فادعُ كاتباً إذا اجتمع الناس إليّ فسألوني كتبتُ لهم ما تريد، فأرسل هشام بن عبد الملك كاتباً ومكث سنة ما يأتي يوم إلا ملأه، فلقيه بعض بني هشام فقال: يا أبا بكر ما أرانا إلا قد أنقصناك! قال ابن شهاب فقلت له: إنما كنت في عَزاز الأرض - ما صَلُبَ من الأرض وخَشُن - وإنما هبطتَ بطون الأودية الآن!
خرج الزهري بعد أن أملى على كاتب هشام فقال: أين أنتم يا أصحاب الحديث؟ فلما اجتمعوا إليه قال: إني كنت منعتكم أمراً بذلته لأمير المؤمنين آنفا، هلمَّ فاكتبوا، فحدثهم وكتب عنه الناس من يومئذ.
ثم أقام هشام شهراً أو نحوه، ثم قال للزهري: إن ذلك الكتاب الذي أمليت علينا قد ضاع، قال: فلا عليك، ادعُ بكاتب، فدعا بكاتب فحدثه بأربعمئة حديث، ثم قابل هشامٌ ذلك بالكتاب الأول فإذا هو لا يغادر حرفاً واحدا.
في سنة 113 حجَّ إمامُ مصر الليث بن سعد، المتوفى سنة 175 عن 81 عاماً، والتقى بالزهري وقال: ما رأيت عالماً قط أجمع من ابن شهاب، يحدّث في الترغيب، فتقول: لا يُحسِن إلا هذا، وإن حدّث عن العرب والأنساب، قلتَ: لا يُحسِن إلا هذا، وإن حدّث عن القرآن والسنة كان حديثَه.
قال الليث: كان ابن شهاب من أسخى من رأيت: كان يعطي كل من جاء وسأله، حتى إذا لم يبق معه شيء، يستسلف من عبيده، فيقول لأحدهم: يا فلان أسلفني كما تعرف وأُضعِفُ لك كما تعلم، فيسلفونه، ولا يرى بذلك بأساً، قال: وربما جاءه السائل فلا يجد ما يعطيه، فيتغير عند ذلك وجهُه، ويقول للسائل: أبشر فسوف يأتي الله بخير، قال: فقيض الله لابن شهاب على قدر صبره واحتماله، إما رجلاً يهدي له ما يسعهم، وإما رجلاً يبيعه فيُنظِره.
كان يطعم الناس بالثريد في الخصب وغيره، ويسقيهم العسل، وكان ابن شهاب يسهر على العسل، كما يسهر أصحاب الشراب على شرابهم، ويقول اسقونا وحدثونا، فإذا رأى بعض أصحابه قد نعس يقول له: ما أنت من سمّار قريش الذين قال الله تبارك وتعالى ﴿سامراً تهجرون﴾، وقال للأوزاعي: إنما يُذهِبُ العلمَ النسيانُ وتركُ المذاكرة
 قال عمر بن عبد العزيز لجلسائه: هل تأتون ابن شهاب؟ قالوا: إنا لنفعل، قال: فاتُوه، فإنه لم يبق أحد أعلم بسُّنة ماضية منه، وكتب عمر بن عبد العزيز إلى عماله: عليكم بابن شهاب، فانكم لا تجدون أحداً أعلم بالسُّنة الماضية منه.
قال الشافعي: ذُكِر ابن شهاب الزهريُّ يوماً عند عمرو بن دينار، الإمام المحدث مفتي مكة المتوفى سنة 126، فقال: أي شيء عند الزهري؟ أنا لقيتُ جابراً ولم يلْقَه، ولقيت ابن عمر ولم يلقه، فقدِم الزهري مكة، فقيل لعمرو بن دينار قد قدم الزهري مكة، فقال عمرو احملوني إليه، وكان عمرو قد قعد، فحُمل إليه فلم يأت إلى أصحابه إلا بعد ليل، فقالوا له: كيف رأيتَ الزهري، فقال: والله ما رأيت مثل هذا القرشي قط!
وقال عمرو بن دينار: ما رأيت أحداً أنَصَّ - أي أعلى إسناداً - في الحديث من ابن شهاب، وما رأيت أحداً الدينارُ والدرهم أهونُ عليه من ابن شهاب، وما كانت الدنانير والدراهم عنده إلا بمنزلة البعر.
ولما كان في أواخر حياته، قال الليث بن سعد: سمعته يبكي على العلم بلسانه ويقول: يذهب العلم وكثير ممن كان يعمل به، فقلت له: لو وضعتَ من علمك عند من ترجو أن يكون خَلَفاً في الناس بعدك، قال: والله ما نشر أحد العلم نشري، ولا صبر عليه صبري، ولقد كنا نجلس إلى ابن المسيب فما يستطيع أحد منا أن يسأله عن شيء إلا أن يبتدئ الحديث، أو يأتي رجل فيسأله عن أمر قد نزل به، قد طالت مجالستنا إياه حتى ما كنا نسمع منه إلا الجواب.
نزل الزهري الشام واستقر بها، وقال سفيان بن عيينة: قالوا للزهري: لو جعلت آخر عمرك تقيم بالمدينة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم تجلس إلى عَمَدٍ من عمدها وتُفتي الناس؟ فقال: إني لو فعلت ذلك وطئ الناس عَقِبي - أي كَثُر أتباعيّ المقتدين بي - ولا ينبغي لي أن أفعل ذلك حتى أزهد في الدنيا، وأرغب في الآخرة.
قال الزهري: لا يرضى الناسُ قولَ عالمٍ إلا بعمل، ولا عملَ إلا بعلم.
قال سفيان الثوري: بلغني عن الزهري كلامٌ حسن أنه قال: ليس الزُهد بتقَشُفِ الشَعر وتفل الريح - أي بترك الاغتسال والطيب - وخشونة الملبس والمطعم، ولكن الزهد ظَلَفُ النفسِ – أي منعها - عن محبوب الشهوات

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين