مراجعات في مسيرة العمل الاسلامي المعاصر 17

د. موسى إبراهيم الإبراهيم

ثالثاً ــ أهم إخفاقات الحركات الإسلامية في النصف الثاني من القرن العشرين
كلمات في منهج التقويم والنقد الذاتي
لقد تربينا في صغرنا – وجزى الله خيراً جميع شيوخنا وأساتذتنا – على أن نذكر الحسنات والإيجابيات لأهلها، ونغض الطرف عن السلبيات والسيئات ستراً لأهلها.
وعلى ما في هذا الأسلوب من أدب وصفاء راق جداً، إلا أنني بدأت أشعر بعد تجارب الحياة وتقلباتها، وبعد تأمل المنهج الإسلامي في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أن الصواب في غير المنهج الذي تعودناه من قبل.
وأنه لا بد من رسم صورة الحياة كاملة بما لها وما عليها ليحيا من حي عن بينة ويهلك من هلك عن بينة.
فها هو القرآن الكريم يرسم لنا صورة المجتمع الذي رباه رسول الله صلى الله عليه وسلم على عينيه، وهو المجتمع الأنقى والأصفى والأطهر والأكمل، ومع ذلك فقد كانت له هنات وتراجعات وسقطات، وقد خلدها القرآن الكريم للحقيقة وللتاريخ وللتربية وللعبرة ولبيان أن طبيعة البشر هكذا يحلقون ويهبطون، يرتفعون وينزلون، وهم في جميع ذلك غير معصومين وليسوا ملائكة أطهاراً، ولنتأمل في مثل هذه الآيات الكريمات (عبس وتولى…)، (عفا الله عنك…)، (والله أحق أن تخشاه…)، (إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا...)، (قل هو من عند أنفسكم...)، (إن الذين جاؤوا بالإفك...)، (وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها وتركوك قائماً...)، إنها لفتات قرآنية تربوية، وأمثالها كثير.
والقضية إنما هي مرتبطة – والله أعلم – بالنية والطوية وصحة القصد أو فساده، فمن ذكر مواضع الخلل والسلبيات تشفياً وتجريحاً وانتصاراً للنفس والهوى فهو ونيته وله جزاؤه على عمله في الدنيا والآخرة، ومن ذكر ذلك لبيان المنهج التربوي الذي يجب أن تتربى عليه الأمة الإسلامية، ولبيان أسباب الخلل وآثاره اعتباراً واتعاظاً لصاحبه ولغيره فهذا بحسب قصده أيضاً وله جزاؤه في الدنيا والآخرة.
وعلى هذا المعنى وجد علم الرجح والتعديل وعلم الرجال وأحوالهم ذلك العلم الشامخ والميزان الذهبي الذي وزنت به رجالات الأمة وعلماؤها ومحدثوها وفقهاؤها وقياداتها، فعلت أقوام وسقط آخرون، وتوضحت حجة الله فيمن يؤخذ عنه هذا الدين ممن يجب أن يهمل ويكشف للناس زيفه ليحذروه.
ومن هنا، وبالقصد الحسن إن شاء الله ألمح إلى أبرز سلبيات الحركات الإسلامية المعاصرة بعد ذكر إنجازاتها ومحاسنها لنصل إلى فقه الواقع وتصويبه وترشيده إن شاء الله.
1 – الانشقاقات الداخلية
إن من أخطر ما منيت به الحركات الإسلامية وسجلت فيه إخفاقاً كبيراً وتركت وراءها خللاً خطيراً على الأجيال اللاحقة هو قضية الانشقاقات الداخلية وتمزق صف الحركة الواحدة وشيوع الروح الحزبية لدى الأجنحة المختلفة التي تولدها الانشقاقات والانقسامات، وكم جر هذا الحال إلى سوء الأخلاق من قبل كل فريق تجاه الآخر!!
تلك هي مصيبة الحركات الإسلامية الكبرى، وهذا هو الخلل الأهم والإخفاق الأعظم عندها.
ولئن كان هذا شأن البشر جميعاً، ولئن كان هذا الأمر عند الحركات الإسلامية هو أقل وأدنى بكثير مما عند الآخرين، فهذا حق ظاهر ولكنه يبقى إخفاقاً كنا نتمنى ألا يكون.
ولئلا يشمت الشامتون، ولئلا يأخذ المتربصون دليلاً تلوكه ألسنتهم ويسارعون في أكل لحوم الحركات الإسلامية، لئلا يحدث هذا أبادر للقول بأن الجميع يعرفون رفاق السلاح في الاتجاهات القومية والوطنية المختلفة وماذا فعلوا ببعضهم عندما اختلفت آراؤهم، وسل الرفاق الحمر في عدن وماذا حدث بينهم، وسل القوميين والقطريين من البعثيين وما هي أخبارهم في هذا المضمار؟ فستجد أن الروائح تزكم الأنوف ولكن لا بد من ذكرها لئلا يفرح الجاهلون بسلبية عند الإسلاميين تسجل عليهم، ولكن بقدرها وحدودها.
ومهما يكن من شيء، فإن الآثار التي تترتب على ظاهرة الانشقاقات كبيرة جداً، وتعوق النصر وتبعد عن الهدف وتعكر النفوس وتحجب الصفاء.
ولئن كان مثلها عند غير الإسلاميين يؤدي إلى الجرائم والمذابح والدماء التي تهراق بلا حساب، فإن أدبنا الإسلامي لا يبيح لنا ذلك، وشعارنا في هذا الميدان قوله تعالى: (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم).
وللأسف فإنه أحياناً تسوء خلافات الإسلاميين فتسوء تبعاً لذلك أخلاقهم فيقتربوا من حماقات غيرهم وربما استخدموا السلاح كذلك، كما فعله الأفغان غفر الله لنا ولهم وللجميع.
2 – الغلو والتطرف لدى بعض الحركات الإسلامية
إن جمهور الحركات الإسلامية قيادات وقواعد يمثلون الاعتدال والوسطية في الفهم والمنهج والسيرة والسلوك والحمد لله.
غير أن ظروف القهر والكبت والإرهاب وأجواء السجون والمعتقلات وفظائع التعذيب الوحشي الذي مورس على الآلاف من أبناء الحركات الإسلامية، كل ذلك أوجد لدى بعضهم غلواً في الفهم ورغبة في الانتقام وحباً في الانتصار للحق الذي حورب وأهين.
إن بعضاً ممن تربوا في الحركات الإسلامية المعتدلة لم يصبروا كما صبر غيرهم، ولم يتحملوا ما تحمله غيرهم، مما أوجد هذه الظاهرة عندهم، وهي مهما تكن أسبابها تبقى مسجلة في خانة السلبيات والإخفاقات.
وهذه القضية بحاجة إلى دراسة وتمحيص وتقويم، للاهتداء بها والاعتبار، وليس هذا موضع بحثنا هنا وإنما هي الإشارة المعبرة إلى هذا الملمح بما يكمل رسم الصورة التي نحن بصددها.
 3 – الصراع المسلح مع بعض الأنظمة الحاكمة "إشارات لها دلالاتها"
ليس في مناهج الحركات الإسلامية ولا في مشاريعها الإصلاحية ولا في أدبياتها التي جرت عليها، ليس في شيء من ذلك ما يسمى بالصراع المسلح مع الأنظمة الحاكمة، وليس هذا هو سبيل تلك الحركات للوصول إلى أهدافها.
وقد صدقت تلك الحركة شعارها في الواقع وقدمت ملاحم بطولية في حرب فلسطين 1948 وفي حرب قناة السويس 1956، والتاريخ سجل تلك البطولات ووثقها وشهودها ما زالوا أحياء وذاكرتهم لم تنس بعد ما شاهدوه بأعينهم.
وما زال هذا المنهج متواصلاً، وساحات الأقصى اليوم تشهد بذلك، وفضائيات العالم توثق بطولات الشباب الذين تربوا في أحضان الحركات الإسلامية ضد اليهودية والصهيونية الغاصبة.
هذا هو المنهج الأساس في مفهوم الحركات الإسلامية، ولكن حدث خلل في المسيرة جعل فصائل الحركات الإسلامية تتبنى المجابهة مع بعض الأنظمة الحاكمة في بعض البلدان وفي بعض المراحل، وأوضح ذلك كالتالي:
أسباب تبني خيار المجابهة المسلحة مع الأنظمة الحاكمة
السبب الأول:
فقه المحنة الذي تولد في المعتقلات وتحت سياط الجلادين، ووسط انتهاك أعراض البرءاء من الناس، وتحت سمع وبصر بعض الأنظمة الحاكمة، بل وبتخطيط من أجهزتها الأمنية وبالتعاون مع القوى الخارجية كما أشرت إلى ذلك من قبل.
السبب الثاني:
أن بعض الأنظمة الحاكمة تبنت سياسة المجاهرة بحرب الإسلام حرباً صريحة سافرة استئصالية على مستوى الدساتير والقوانين وعلى مستوى السياسات التعليمية والإعلامية والاقتصادية والاجتماعية، وعلى مستوى تمزيق الأمة وتحكم الأقليات الطائفية بجمهور الأمة وأكثريتها، وعلى مستوى غسل عقول الجيش من أي أثر للدين والأخلاق الإسلامية، وعلى مستوى الخيانات الوطنية والقومية، وأخيراً على مستوى التعاون الموثق مع أعداء الأمة ضد مصالحها وعلى حساب سلب خيراتها ومقدراتها جميعاً.
إن كلا السببين كان لهما أثر في المجابهة المسلحة مع الأنظمة الحاكمة، وفي تلك الظروف الاستثنائية المعقدة.
ولا يفهم من هذا تحديد المسؤولية وتوجيهها للحكام وحدهم وإن كانوا هم الأساس في جميع ما حدث، ولكن لا تعفى الحركات التي غلت في فهمها واجتهادها، وكان عليها أن تلتزم الوسطية والاعتدال أساساً في منهجها، وما كان ينبغي أن تخرجها ردات الفعل عن الاتزان في الموقف مهما كان ذلك الفعل طائشاً وجائراً.
وعلى أية حال فإن تلك المجابهة كان لها ظروفها وحيثياتها وأسبابها، وقد أصبحت الآن تاريخاً مضى عهده وعلى الجميع ان يدرسه بعمق للوقوف على الحقيقة وللاعتبار بها، ولسنا الآن بصدد الحكم على الماضي بل نحن بصدد التأمل في الحاضر والنظر البعيد للمستقبل وما يحمله من تحديات تستهدف الأمة كلها قيادات وحركات وشعوباً وثروات، وفي مثل هذا الحال يصدق علينا المثل القائل "إنقاذ الضحية قبل محاكمة الجاني" فحال أمتنا اليوم كما لا يخفى بحاجة إلى إنقاذ وبحاجة إلى وحدة الكلمة ورص الصفوف أمام عدو مكشر يريد استئصال الأخضر واليابس.
ولا يليق بقيادات الأمة الفكرية والعلمية والتربوية والسياسية والعسكرية أن تبقى رهينة الماضي حتى تصير كلها ماضياً ولا يبقى لها حاضر ولا مستقبل لا قدر الله.
وإن كان بعض الجهات من الحكومات أو الحركات الإسلامية يصر على معرفة الجاني وما كسبت يداه، فليبق هذا الحق محفوظاً لطالبه حتى تُكشف الغمة وتتنهد الأمة أنفاسها الطبيعية، وعندها لا بأس من تحكيم القضاء العادل ليحكم بين الناس بالقسط.
وإن كان الأصلح للأمة كلها تجاوز تلك المرحلة، وفتح صفحة جديدة يسود فيها الحق والعدل والحب بين الجميع، وهذا ما نؤمل أن يكون إن شاء الله.
تلك هي خلاصة تاريخية لواقع أمتنا وللصراع بين قيادياتها السياسية والدعوية والفكرية، فما هو المطلوب الآن للخروج من هذا المأزق؟ هذا هو لب القضية.وهذا مااشير الى معالجته فيما يلي باشارات تحتاج الى حواراتجادةبيناهل الاختصاص والدراية حتى تؤتي اكلها باذن الله                                

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين