قراءة في غزوة خيبر-6

الدكتور عثمان قدري مكانسي

إسلام الأسود الراعي واستشهاده
 
أتى الأسود الراعي رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - وهو محاصر لبعض حصون خيبر ، ومعه غنم له ، كان فيها أجيرا لرجل من يهود ، فقال : يا رسول الله ، اعرض علي الإسلام ، فعرضه عليه ، فأسلم - وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يحقرُ أحدا أن يدعوه إلى الإسلام ، ويعرضه عليه - فلما أسلم قال : يا رسول الله ، إني كنت أجيرا لصاحب هذه الغنم وهي أمانة عندي ، فكيف أصنع بها ؟ قال : اضرب في وجوهها ، فإنها سترجع إلى ربها - أو كما قال - فقال الأسود ، فأخذ حفنة من الحصى ، فرمى بها في وجوهها ، وقال : ارجعي إلى صاحبك ، فوالله لا أصحبك أبدا ، فخرجت مجتمعة ، كأن سائقا يسوقها حتى دخلت الحصن .
 
ثم تقدم إلى ذلك الحصن ليقاتل مع المسلمين ، فأصابه حجر فقتله ، وما صلى لله صلاة قط ؛ فأتي به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فوضع خلفه ، وسجي بشملة كانت عليه . فالتفت إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعه نفر من أصحابه ، ثم أعرض عنه ، فقالوا : يا رسول الله ، لم أعرضت عنه ؟ قال : إن معه الآن زوجتيه من الحور العين . والشهيد إذا ما أصيب تدلت ( له ) زوجتاه من الحور العين عليه ، تنفضان التراب عن وجهه ، وتقولان : ترّب الله وجه من تربك ، وقتل من قتلك .
 
 
إضاءة:
1-          قد يكون المرء البسيط أعقل من سيده وأقدر على الفهم ، لأنه يحمل قلباً سليماً وفكراً سديدا ، ولعل الغني المتبلد الإحساس تنطبق عليه الآية الكريمة " إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى" وقد يصيبه الغرور والكِبر فلا يستطيع تمييز الحق والباطل أو هو لا يريد ذلك ويود أن يبقى منغمساً في ملذاته وكبره إلى أن يرى ما لا يسره فيندم ، ولات حين مندم.
2-          يسمع الأسود الراعي برسول الله صلى الله عليه وسلم يحمل رسالة عالمية للإنسان فيقبل عليه يسأله عن هذه الرسالة ، فيقدمها له على طبق من نور ، ولا يتكبر أن يحدث راعياً فهو رسول الله لكل فئات البشر كبيرهم وصغيرهم ،غنيهم وفقيرهم ،ذكرهم وأنثاهم ،أبيضهم وأسودهم .وقد كان أغلب اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من هؤلاء المساكين ، وقد قال له المشركون : لا نقعد مع هؤلاء ، فاجعل لنا يوماً أو مجلساً واجعل لهم يوماً أو مجلساً . فنبهه القرآن الكريم إلى الإحسان إلى هؤلاء الفقراء : " واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ، ولا تَعْدُ عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ، ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فُرُطاً " .
3-          أداء الأمانة من صلب تعاليم الإسلام . فحين أسلم الراعي قال للنبي صلى الله عليه وسلم : يا رسول الله ، إني كنت أجيرا لصاحب هذه الغنم وهي أمانة عندي ، فكيف أصنع بها ؟ كان جوابه صلى الله عليه وسلم تعليماً للراعي وتدريباً على حفظ الأمانة وعدم تضييعها . لقد كان أميناً وهو كافر ، فلْيكن أكثر تشبثاً بحفظ الأمانة وهو مسلم وأمَرَه أن يؤدي الأمانة إلى صاحبها
– باح بمكنون نفسه للنبي المعلم فكان جوابه إحدى المعجزات التي أجراها الله تعالى على يديه فقال له : اضرب في وجوهها ، فإنها سترجع إلى ربها . وقد آمن به الراعي وصدّقه في عقيدته ومجرى حياته أفلا يسمع لقوله ويعمل به؟ أخذ حفنة من حصى فضرب بها وجهها فانطلقت إلى صاحبها مجتمعة كأنها يسوقها سائق .

 

4-          ولأنه أسلم ورغب أن يوصل الأمانة إلى صاحبها دون أن يلقاه - فيسأله السبب في ترك العمل عنده ، ولربما ناله السوء منه فقتله أو عذبه أو سجنه

 

 
5-          ونلحظ أن المسلم حين يرى نفسه في مجتمعه الأصيل وبين إخوانه لا يفضل أحداً عليهم ، فهو منهم وهم منه . إنه حين أسلم رأى نفسه في مرآة إخوته المسلمين فالتزمهم مجتمعاً وحياة وعملاً . كان في معسكر الشرك والكفر فانتمى لمعسكر الإيمان والتوحيد ، ورأى نفسه جندياً في جيش المسلمين يقاتل معهم تحت رايتهم ويأرز إليهم ، إنه معهم كالبنيان المرصوص يشد بعضُه بعضاً .

 
6-          يتقدم الراعي بعد قليل إلى الحصن يقاتل اليهود . كان قبل زمن يسير منهم فصار في الإيمان ضدهم " إنما المؤمنون إخوة " . ينخرط في صفوف المجاهدين ويقاتل معهم عدوّهم ، وتكتب له الشهادة ، فيُقتل ولم يصلِّ لله ركعة واحدة . ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم : " إنما الأعمال بالنيات ، وإنما لكل امرئ ما نوى" وينال الجنة سريعاً وتستقبله زوجتاه من الحور العين تسرّيان عنه وتحتفيان به.
7-          من الحياء أن يغض المرء طرفه عما ليس له . ففي المعراج يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة لعساء تعجبه ، فيقول : لمن هذه ؟ فيُقال : إنها لعمر بن الخطاب فيبعد نظره عنها ، متمثلاً بقوله تعالى: " قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون" , وهنا كان الرسول صلى الله عليه وسلم ينظر إلى هذا المسلم الجديد بإسلامه والسريع بشهادته. ثم يعرض عنه لأن معه زوجتيه من الحور العين تنفضان التراب عنه وتدعوان على قاتله. وتملّ قوله صلى الله عليه وسلم " تدلّت له زوجتاه من الحور العين " والتدلي سرعة الحضور والرغبة فيه تحملان الشوق والحب لزوجهما الذي انتظرتاه بفارغ الصبر .
8-          ومن المواقف التي تسترعي الانتباه وتستدعي الإعجاب سرعة بديهة أصحاب رسول الله الذين يتابعون كل صغيرة وكبيرة وشاردة وواردة لرسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه عن كل ما يبدر منه أو يفعله ، فقالوا : يا رسول الله ، لم أعرضت عنه؟ أأعرضْتَ رغبة عنه ؟ فيا ويله إذاً ! أم هناك أمر يراه الرسول صلى الله عليه وسلم وهم لا يرونه ويودّون أن يعرفوه ليفيدوا منه ، ولينقلوه لمن بعدهم من الأمم . وبهذه المتابعة اللماحة لنبيهم ، وبهذا الاهتمام البالغ بما يفعله استحقوا أن يكونوا سادة الأمم ، ففتحوا الفتوح ، وسادوا العالم وكانوا المشعل الوقّاد على مرّ الدهور وكرّ العصور.
 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين