قراءة في غزوة خيبر-5

الدكتور عثمان قدري مكانسي

 عن أبي هريرة ، قال : لما انصرفنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن خيبر إلى وادي القرى نزلنا بها أصيلا مع مغرب الشمس ، ومع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غلام له ، أهداه له رفاعة بن زيد الجذامي . فوالله إنه ليضع رحل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ أتاه سهمُ غَرَبٍ (لا يُدرى من رماه) فأصابه فقتله ؛ فقلنا : هنيئا له الجنة ؛ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : كلا ، والذي نفس محمد بيده ، إن شَمْلته(كساءه) الآن لتحترق عليه في النار ، كان غلها من فيء المسلمين يوم خيبر قال : فسمعها رجل من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأتاه فقال : يا رسول الله ، أصبت شراكين لنعلين لي ؛ قال : فقال : يُقدُّ لك مثلهما من النار .
ابن مغفل وجراب شحم أصابه 
 
وعن عبد الله بن مغفل المزني ، قال : أصبت من فيء خيبر جراب( كيس) شحم ، فاحتملته على عاتقي إلى رحلي وأصحابي . قال : فلقيني صاحب المغانم الذي جعل عليها ، فأخذ بناحيته وقال : هلم هذا نقسمه بين المسلمين ؛ قال : قلت : لا والله لا أعطيكه ؛ قال : فجعل يجابذني الجراب . فرآنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن نصنع ذلك . قال : فتبسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضاحكا ، ثم قال لصاحب المغانم : لا أبا لك ، خل بينه وبينه قال : فأرسله ، فانطلقت به إلى رحلي وأصحابي ، فأكلناه .
بناء الرسول بصفية وحراسة أبي أيوب للقبة ]
 
لما أعرس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بصفية . بخيبر أو ببعض الطريق ، جمّلتها لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومشطتها وأصلحت من أمرها أم سليم بنت ملحان أم أنس بن مالك . فبات بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قبة له . وبات أبو أيوب خالد بن زيد ، أخو بني النجار متوشحا سيفه ، يحرس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويطيف بالقبة ، حتى أصبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما رأى مكانه قال : ما لك يا أبا أيوب ؟ قال : يا رسول الله ، خفت عليك من هذه المرأة ، وكانت امرأة قد قتلتَ أباها وزوجها وقومها ، وكانت حديثة عهد بكفر ، فخفتها عليك . قال : اللهم احفظ أبا أيوب كما بات يحفظني.
تطوع بلال للحراسة وغلبة النوم عليه 
 
لما انصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من خيبر فكان ببعض الطريق ، قال من آخر الليل : من رجل يحفظ علينا الفجر لعلنا ننام قال بلال : أنا يا رسول الله أحفظه عليك . فنزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونزل الناس فناموا ، وقام بلال يصلي ، فصلى ما شاء الله - عز وجل - أن يصلي . ثم استند إلى بعيره . واستقبل الفجر يرمقه ، فغلبته عينه ، فنام ، فلم يوقظهم إلا مس الشمس .
 
وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أول أصحابه هبَّ ، فقال : ماذا صنعت بنا يا بلال ؟ قال : يا رسول الله ، أخذ بنفسي الذي أخذ بنفسك ؛ قال : صدقت ؛ ثم اقتاد رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بعيره غير كثير ، ثم أناخ فتوضأ ، وتوضأ الناس ، ثم أمر بلالا فأقام الصلاة ، فصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالناس فلما سلم أقبل على الناس فقال : إذا نسيتم الصلاة فصلوها إذا ذكرتموها ، فإن الله تبارك وتعالى يقول : وأقم الصلاة لذكري . .
شهود النساء خيبر وحديث المرأة الغفارية .
 
شهد خيبر مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نساء من نساء المسلمين ، فرضخ لهن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الفيء ، ولم يضرب لهن بسهم .
 
عن امرأة من بني غفار قالت : أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في نسوة من بني غفار ، فقلنا : يا رسول الله ، قد أردنا أن نخرج معك إلى وجهك هذا ، وهو يسير إلى خيبر ، فنداوي الجرحى ، ونعين المسلمين بما استطعنا ؛ فقال : على بركة الله . قالت : فخرجنا معه ، وكنت جارية حدثة ، فأردفني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على حقيبة رحله . قالت : فوالله لنزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الصبح وأناخ ، ونزلت عن حقيبة رحله ، وإذا بها دم مني ، وكانت أول حيضة حضتها ، قالت : فتقبضت إلى الناقة واستحييت ؛ فلما رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما بي ورأى الدم ، قال : ما لك ؟ لعلك نفست قالت : قلت : نعم ؛ قال : فأصلحي من نفسك ، ثم خذي إناء من ماء ، فاطرحي فيه ملحا ، ثم اغسلي به ما أصاب الحقيبة من الدم ، ثم عودي لمركبك .
 
قالت : فلما فتح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خيبر ، رضخ لنا من الفيء( والضخ : العطاء ليس بالكثير) وأخذ هذه القلادة التي ترين في عنقي فأعطانيها ، وعلقها بيده في عنقي ، فوالله لا تفارقني أبدا . قالت : فكانت في عنقها حتى ماتت ، ثم أوصت أن تدفن معها . قالت : وكانت لا تطهر من حيضة إلا جعلت في طهورها ملحا ، وأوصت به أن يجعل في غسلها حين ماتت .
 
إضاءة:
1-          ينبغي أن يكون الجهاد خالصاً له سبحانه كي يصل المسلم إلى هدفه الدنيوي ( النصر ) وهدفه الأخرويّ ( الجنة ) ويجب كذلك أن يتقي الله في سره وعلنه ( وأستغفر الله من كل زلل فإنني أشعر بالخجل من نفسي والحياء من ربي حين أقول ما لا أفعل ،واسأل الله العفو والغفران ). فهذا رفاعة الجذامي خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم يعيش مع خير الخلق وضعفت نفسه فغلّ شملته التي يلتف بها من أرض المعركة ، ولم يشفع له جهاده في هذه الغزوة أن ينجو من العقاب فيقرر النبي صلى الله عليه وسلم أنه لسرقته الكسوة هذه دخل النار والعياذ بالله . وينتبه أحد المسلمين لمقولة النبي وكان قد أخذ أنشوطتين لنعليه من فيء المسلمين دون أن تُقسم له فيحذره النبي صلى الله عليه وسلم بكل وضوح أنه سيلقى مثلهما في النار. " يُقدُّ لك مثلهما من النار " فيعيدهما لساعته . وقدّرْ ثمن الأنشوطتين اللتين غلّهما هذا المجاهد ، وتصوّرْ ما نتهاون فيه - معشر المسلمين - من أخذ ما ليس لنا بحق ، ووسِّعِ الدائرة بعد هذا لتشملَ كل السرقات التي يعيش فيها أفرادنا ومجتمعُنا في المؤسسات والشركات والمديريات والوزارات وو... ولا حول ولا قوة إلا بالله
2-          فإذا انتقلنا إلى جِراب ابن مغفل نسقط ما قررناه في الإضاءة الأولى نجد القصة نفسها تختلف قليلاً ضمن الدائرة نفسها ، فابن مغفل يأخذ للجميع لا لنفسه كيس الشحم للأكل من جوع وحاجة ، وابن مغفل لا يغله بمعنى التفرّد به والاحتفاظ به لنفسه إنما هو حاجة آنيّة سريعة له وللمجموعة التي يقاتل معها ، ويصر على منعه صاحبُ المغانم ويأبى حاملُه الانصياعَ له ، ويتجاذبان ، ويرى القائد ويسمع، ويقدّرالموقف ، فيأمر الرجل أن يتركه مرجحاً موقف ابن مغفل بقوله " لا أبا لك ، خل بينه وبينه" ولو كانت هذه الحالة غَلاّ لما كان ما كان . ويعضد هذا الموقف عدم الاقتصاص من السارقين في عام المجاعة على عهد الفاروق رضي الله عنه . ونحن نحتاج إلى (فقه المقاصد) في فهم الحياة .
3-          يُعرِّس رسول الله صلى الله عليه وسلم بأم المؤمنين صفية بنت حيي بن أخطب في طريقه إلى المدينة المنوّرة . ولعلنا نستفيد من زواجه منها أموراً دعوية كثيرة منها :
أ‌-           إكرام الكريم ، فلا تكون السبية بنت رئيس القوم إلا عند رئيس القوم .
ب‌-        أسلم بإكرامها عديد من قومها ، ونالوا حريتهم وحَسُنَ إسلامُهم ، والإسلام حريص على هذا.
ت‌-        يجب أن تستمر الحياة كما ينبغي ، فلا يمنعنّ الجهاد والقتال من ممارسة الحياة والتمتع بمباهجها ، والدنيا متاع وخير متاعها المرأة الصالحة .
ث‌-        من السنة أن يدخل الرجل على المرأة متزينة فلا يرى منها ما يسوءها وينفر منها .
ج‌-         الحذر مطلوب على الرغم أن الله تعالى عصم نبيه صلى الله عليه وسلم ، فأبو أيوب خاف على النبي صلى الله عليه وسلم أن تغدر به صفية لأنه صلى الله عليه وسلم قتل أباها وزوجها ، ولعلها تثأر لهما منه كما اجتهد أبو أيوب رضي الله عنه وأرضاه.
ح‌-         حب الصحابة رضي الله عنهم نبيّهم الكريم واضح في فعل أبي أيوب ، والحب يولّد الرغبة في الحفاظ على المحبوب والعمل على صونه وخدمته .
خ‌-         الرسول صلى الله عليه وسلم يحفظ لصاحبه هذا الاهتمام ويبادله إكراماً ودعاء " اللهم احفظ أبا أيوب كما بات يحفظني " تناغم رائع بين الرئيس والمرءوس.
4-          السفر في الليل آمنُ للمسافر من العيون المترصدة وأفضل للجسم من السير في النهار تحت أشعة الشمس والتعرق والإجهاد ، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يواصل السفر في الليل أحياناً ، ويقول: " من خاف أدلج ، ومن أدلج بلغ المنزل "
5-          الاهتمام بالصلاة على وقتها من الشمائل المطلوبة ، والمسلمون في سفرهم متعبون ، ولعلهم إن ناموا أن يأخذهم الإرهاق عن صلاة الفجر في وقتها ، ولا بد من منبه لهم فكان بلال رضي الله عنه من تبرّع أن يظلّ متيقظاً يحرس الفجر وينتظر وقته ليوقظ النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين . وبلال مؤذن النبي صلى الله عليه وسلم ذو الصوت الشجي الذي أذن فوق الكعبة إيذاناً بتجلي هذا الأذانُ في ذلك المكان إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
6-          ينام الناس ويقف بلال يصلي الليل ، فلا يضيعه في تفاهات الأمور كما يفعل بعضنا اليوم من لعب بالورق ومتابعة للمسلسلات الفاسدة والسهر في الغيبة والنميمة ، فإذا بالليل ينقلب نهاراً والنهار ينقلب ليلاً . فإذا ما تعب استند إلى بعيره فجاء النومُ يغلبه ، وهذا دليل ضعف الإنسان ، ويقدِّرُ الله أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم أول من يستيقظ على أشعة الشمس ، وبلال نائم .
7-          أقرأ قول الله تعالى في مدح الحبيب محمد " لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم " فأسمعُ تصديق هذا حين يقول لبلال بصوت لطيف ليس فيه تأنيب ولا لوم ، يسمعه قلبي على بعد مئات السنين الفائتة " ماذا صنعت بنا بابلال ؟ فيجيب بمنطق فيه عقل وقلب : يا رسول الله ، أخذ بنفسي الذي أخذ بنفسك ، فلا يعلق المصطف المعلم إلا بكلمة واحدة " صدقتَ " فما يقول بلال حق ، وينطلق إلى مكان قريب يجهز فيه نفسه للصلاة ويتبعه المسلمون يبدتئون يومهم بالصلاة ويختتمونه بها ، لا بالشعارات الجوفاء والكلمات الطنانة. وإذا بالدين يسر والحياة سهل والقاعدة الشرعية الحيوية تقول : " إذا نسيتم الصلاة فصلوها إذا ذكرتموها ، فإن الله تبارك وتعالى يقول" : وأقم الصلاة لذكري "
8-          للمرأة دور في الحياة سلماً وحرباً ،فهي شقيقة الرجل وقسيمه ، ونراهنّ يخرجن معه في غزوته هذه يداوين الجرحى ويُعِنّ المسلمين بما استطعن ، وينظر النبي إلى صغيرة منهنّ فيردفها خلفه على بعيره ، ولأنه الرحيم بالمرأة والصغير ومعلمُ الناس الخير شاء الله تعالى أن تحيض الفتاة فيصيب الدم حقيبة الرحل وتستحيي ، فإذا بالرحيم العطوف يعلمها كيف تتخلص من آثار الدم بالماء والملح وتنظف نفسها وتزيل آثارها وكأن شيئاً لم يكن . لم يعنّفها ولم يصرخ في وجهها . ثم ينضحها بعض العطاء فترضى ، ويعلق قلادة في عنقها لا تفارقها أبداً حتى في قبرها. ولإعجابها الشديد بأخلاق القائد العظيم تلتزم وصيته حتى آخر حياتها . أرأيت ما يفعل الخُلُق الحسنُ؟ " وإنك لعلى خلق عظيم " .

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين