رمضان والتوبة

هذه خطبة خطبتها قديماً في مسجد الرضا بجدة وقد قام الأخ العزيز طارق عبد الحميد قباوة بإحيائها وكتابتها لتنشر على الموقع فأرجو الله أن يعمم النفع بها ويجعلنا أهلاً لحمل أمانة العلم

في رمضان يعود العباد إلى ربِّهم تعالى، ويقلعون عن المعاصي والآثام، وذلك لسببين:

أولهما: جودُ الله تعالى على عباده وصَفْحه عنهم في هذا الشهر الكريم، وصحَّ أنَّ لله تعالى في كل ليلة من رمضان عتقاء من النار.

ثانيهما: أن الشياطين تصفَّد وتُسَلْسَل إذا جاء رمضان، وتُغْلق أبواب النيران وتفتح أبواب الجنة، فيكون العباد قريبين من ربهم.

فرمضان فرصة ثمينة ليتوب فيها العبد، وإن لم يتب فيه فليت شعري متى يتوب؟!

وهذا الشهر هو موسم التوبة والمغفرة والإنابة إلى الله سبحانه وتعالى.

صحَّ عنه صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (إنَّ الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها).

الإساءات منا كثيرة والعفو منه سبحانه أكثر، والخطأ منا كبير ورحمته أكبر سبحانه، والزلل منا عظيم ومغفرته أعظم.

فتوبوا في شهر رمضان إلى الله عزَّ وجل عن معاصيه، وأنيبوا إليه بفعل ما يُرضيه، فإن الإنسان لا يخلو من الخطأ والتقصير، وكلُّ بني آدم خطَّاء وخير الخطَّائين التوابون.

الحث على التوبة:

وقد حثَّ الله في كتابه وحثَّ النبي صلى الله عليه وسلم في خطابه على استغفار الله والتوبة إليه. قال تعالى:[ وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعًا أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] {النور:31} .

وقال تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ] {التَّحريم:8}. وقال سبحانه: [ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ المُتَطَهِّرِينَ ] {البقرة:222}.

وأما الأحاديث، فمنها ما رواه مسلم عن الأغر بن يسار المزني رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا أيها الناس توبوا إلى الله واستغفروه فإني أتوب في اليوم مائة مرة).

والتوبة هي الرجوع من معصية الله إلى طاعته، لأنه سبحانه هو المعبود حقاً، و حقيقة العبودية هي التذلل والخضوع للمعبود محبة وتعظيماً.

شروط التوبة النصوح:

والتوبة التي أمر الله بها هي التوبة النصوح التي تشتمل على شروط التوبة وهي خمسة:

الأول: أن تكون خالصةً لله عزَّ وجل بأن يكون الباعثُ لها حبَّ الله وتعظيمه، ورجاء ثوابه وخوف عقابه، فلا يريد بها شيئاً من الدنيا، ولا تزلفاً عند مخلوق، فإن أراد هذا لم تقبل توبته، لأنه لم يتب إلى الله، وإنما تاب إلى الغرض الذي قَصَده.

الثاني: أن يكون نادماً حَزِنا على ما سلف من ذنبه يتمنى أنه لم يحصل منه والندم يحدث للتائب إنابة إلى الله، وانكساراً بين يديه ومقتاً لنفسه التي أمرته بالسوء، فتكون توبته عن إخلاص وبصيرة.

الثالث: أن يقلع عن المعصية فوراً، فإن كانت المعصية بفعل محرم تركه في الحال، وإن كانت المعصية بترك واجب فعله في الحال.

فلا تصح التوبة مع الإصرار على المعصية، فلو قال: إنَّه تاب من الربا مثلاً وهو مستمر على التعامل به لم تصحَّ توبته، ولم تكن توبته إلا نوعَ استهزاء بالله وآياته ولا تزيده من الله إلا بعداً.

التوبة المتعلقة بحقوق الخلق:

وإذا كانت المعصية فيما يتعلق بحقوق الخلق لم تصح التوبة منها حتى يتخلَّص من تلك الحقوق، فإن كانت معصيته بأخذ مال للغير أو جَحْده لم تصحَّ توبته حتى يؤدي المال إلى صاحبه إن كان حياً، أو إلى ورثته إن كان ميتاً، فإن لم يكن له ورثة أو لا يدري من صاحب المال تصدَّق به. وإن كانت معصيته بغيبة مسلم وجب أن يستحلَّه، وإلا استغفر له وأثنى عليه بصفاته المحمودة في المجلس الذي اغتابه فيه، فإنَّ الحسنات يذهبن السيئات.

الشرط الرابع: أن يعزم على أن لا يعود في المستقبل إلى المعصية لأن هذه ثمرة التوبة ودليل صدق صاحبها. فإن قال: إنه تائب وهو عازم على فعل المعصية لم تصحّ توبته، لأن هذه توبة مؤقتة يتحيَّن فيها صاحبها الفرص المناسبة، ولا تدل على كراهيته للمعصية وفراره منها إلى طاعة الله عزَّ وجل.

الشرط الخامس: أن لا تكون بعد انتهاء وقت قبول التوبة.

وقت انتهاء قبول التوبة:

وانتهاء وقت القبول نوعان: عام لكلِّ أحد، وخاص لكلِّ شخص بنفسه.

أما العام، فهو طلوع الشمس من مغربها، فإذا طلعت الشمس من مغربها لم تنفع التوبة. قال الله تعالى: [يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آَيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آَمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا] {الأنعام:158}. والمراد ببعض الآيات: طلوع الشمس من مغربها.

وأما الخاص، فهو عند حضور الأجل، فمتى حَضَرَ أجلُ الإنسان وعَاَيَن الموتَ لم تنفعه التوبة ولم تُقْبل منه. قال الله تعالى:[وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ المَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآَنَ] {النساء:18}.

وروى أحمد عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنَّ الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر) ـ يعني بروحه ـ.

ومتى صحَّت التوبة باجتماع شروطها محا الله بها الذنوب وإن عظمت قال الله تعالى: [قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ] {الزُّمر:53}.

[وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُورًا رَحِيمًا] {النساء:110}.

الصوم كفارة ومغفرة للذنوب:

روى البخاري ومسلم من حديث حذيفة أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فتنة الرجل في أهله وماله وجاره تكفِّرها الصلاة والصيام والصدقة) أي: إن كل ما يبدر من العبد من أخطاء في حق أهله، ومن أخطاء في حقِّ جيرانه، ومن أخطاء في معاملاته المالية، كل ذلك وما أشبهه من الصغائر تكفرها الصلاة والصوم والصدقة.

وفي الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من صام رمضان إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه) أي: إيماناً بالله عزَّ وجل واحتساباً للأجر الذي أعدَّه الله تعالى للصائمين.

روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفِّرات ما بينهنَّ إذا اجتنبت الكبائر)

فصومُ رمضان سببٌ لمغفرة الذنوب التي بينه وبين رمضان الذي سبقه، ولكن بشرط اجتناب كبائر الذنوب، فإنَّ الكبائر لا تكفِّرها إلا التوبة، ولذلك قال تعالى: [إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا] {النساء:31} .

الصيام جُنَّة من النار ومن الشهوات:

روى الإمام أحمد عن جابر أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الصوم جُنَّة يستجنُّ بها العبد من النار).

وفي الحديث المتفق عليه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من صام يوماً في سبيل الله باعد الله وجهه عن النار سبعين خريفاً). فإذا كان صومُ يومٍ واحدٍ يباعد وجهَ الصائم عن النارِ سبعينَ خريفاً ـ عام ـ فما بالك بصيام شهر رمضان كلِّه، أوصوم ثلاثة أيام من كل شهر، أو غير ذلك من أنواع الصيام المشروع ؟ إنه لفَضْلٌ عظيم.

والصوم جُنَّة من الشهوات، ففي الحديث المتفق عليه: (يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوَّج، فإنه أغضُّ للبصر، وأحْصَنُ للفرج،ومن لم يستطع فعليه بالصوم...).

فالشاب الذي لا يستطيع الزواج عليه أن يستعين بالصوم على إطفاء أجيج الشهوة.

وكثير من الشباب يشكون من الشهوة التي يثيرها ما شاع في هذا العصر من نساء متبرجات ومجلات هابطة وقنوات محرمة وغير ذلك من الفتن التي تلاحق الشباب في الطائرة، وفي الشارع، وفي المستشفى... والشاب مجبول على ما ركَّبَ الله تعالى فيه من الشهوة التي تتحرَّك عند وجود ما يثيرها. وخاصة إذا اجتمع مع ذلك ضعف الوازع الديني. فإلى هؤلاء الشباب نهدي هذه النصيحة النبوية: (ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء). وقد ثبت بالتجربة جدوى هذا الطب النبوي الذي يمثِّل دواءً ناجعاً لما يكابده الشباب من الشَّبَق ويغني عن غيره من الأدوية المادية.

قال تعالى:[وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ] {آل عمران:135}.

لم يصرَّوا أبداً، أخطؤوا فاعترفوا، أذنبوا فاستغفروا، وأساؤوا فندموا، فغفر الله لهم.

صحَّ عنه صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (رَغِمَ أنف من أدركه رمضان فلم يغفر له).

ذنوب العام كل العام تمحى لمن صدق مع الله في رمضان إذا اجتنبت الكبائر.

هذا الشهر فرصته للتوبة النصوح، وهذه الأيام غنيمة لنا، فهل نبادر الغنيمة؟

صام معنا قوم في العام الماضي ثم ردوا لمولاهم الحق ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبين. مضوا بأعمالهم وتركوا آثارَهم.

متى يتوب من لم يتبْ في رمضان؟! ومتى يعود إلى الله سبحانه من لم يعدْ في رمضان؟!

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

نشرت 2011 وأعيد نشرها وتنسيقها 6/5/2020

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين