ولا يَزالون مُختلفين

أكرم علي حمدان

تأملْ مِن حولِك، هل ترى مسألةً اتفق الناس عليها يومًا؟ كنت أسيرُ في أحد أحياء لندن منذ مدة، وهو حيٌّ تقطنه أغلبية يهودية، فمررت بجانب رجل يوزع أوراقًا وكتيبات، فمدَّ يدَه إليَّ بكتيب عنوانه: الكتابُ المقدس: هل تعرّض للتغيير؟ تحدثت مع الرجل قليلًا، واتفقنا على أن المجتمعات البشرية تمرُّ بأزمة بسبب انحرافها عن تعاليم الإله، ثم مضيت. مضيتُ وأنا أفكِّرُ في هذا الإله الذي خالف الناسُ تعاليمَه، فلم أرَ إلا أننا وإن اتفقنا على توصيف الداء، فإننا نتحدث عن إلهين مختلفين، لا عن إله واحد، فلكلٍّ منا تصوره الذي يختلف كثيرًا عن تصور الآخر، إلهي هو الله الخالق البارئ المصور، لم يَلِدْ ولم يولد، ولم يكن له كفُوًا أحد، وإلهه ثلاثيٌّ مقدس، أبٌ وابنٌ وروح قدس، وأنى أن يلتقي الإلهان.
 
وقابلني يومًا نصراني مصري في أحد المتاجر الكبيرة، وقال لي من غير مقدِّمات: إن المسيح يحبُّك، فرردت من فوري: وأنا أُحِبُّ المسيحَ، عليه السلام، وأُحِبُّ أمَّه العذراءَ البتول، فقال: كلا، إنك لا تعرفُ المسيح، ولو أردت أن تعرفه فليس لك إلا أن تقرأ الإنجيل، فالمسيح هو كما صوَّره الإنجيل، لا كما قال عنه القرآن!
 
تتفق مع الناس في أصل المسألة، فإذا ما تعمقت قليلًا ظهر الاختلاف، وبانت الفروق. وأي شيءٍ لم يختلف فيه الناس؟ حتى في إلههم الذي خلقهم اختلفوا، فمنهم من آمن ومنهم من كفر، فيهم الموحد والمشرك، والمسلم والكافر، والغاوي والرشيد. ثم اختلفوا فيما اعتنقوا من ديانات، واعتقدوا من معتقدات، فمُسلمٌ ويهوديٌّ ونصرانيّ، وسيخيٌّ وهندوسيّ، وبوذيٌّ ومجوسيٌّ، وكانت أديانُ أصحاب الأديان منهم مجلًى لهذا الاختلاف، بل كان في الدين الواحد مندوحة له واسعة، ومجال كبير، فسنيٌّ وشيعيّ، وعلويٌّ ودرزيّ، وصوفيٌّ وسلفيّ، وإخوانيٌّ وتحريريّ، وقرآنيٌّ وحديثيّ، دع عنك ما غبرَ من مللٍ ونحل، وفِرَقٍ وطوائف، وطُرقٍ وفلسفات.
 
جاء الشيخ محيي الدين بن عربي فاختلف الناس فيه بين مُقَدِّسٍ ومُكفر، منهم من رأى فتوحاته منبعًا للكشف الإلهي، فجعلوه شيخَهمُ الأكبرَ وكبريتَهم الأحمر، ومنهم من رأى فصوصَه كفرًا بواحًا، لا يحتمل تأويلًا ولا تفسيرًا، فألَّفَ مصرعَ التصوف، أو تنبيه الغبي إلى تكفير ابن عربي. وقلْ مثل ذلك في كثير من أهل التصوف، كالحلاج والسهروردي وابن عجيبة وابن الفارض، وغيرهم.
 
بل اختلف علماء الطائفة الواحدة فيما بينهم، فظهرت المذاهب المتنوعة، والاجتهادات المختلفة، وكلٌّ ينتصر لما يرى من رأي، أو يبلغ من اجتهاد، بل خالف تلاميذ الإمام إمامَهم في مسألة أو مسائل، حتى نُسب للإمام أحمدَ إنكارُه وقوعَ الإجماع. بل لقد بشر النبي، صلى الله عليه وسلم، بافتراق أمته إلى ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة، ثم اختلف الناس في تفسير هذا الحديث نفسه أيما اختلاف، في القديم والحديث، فراءٍ أن الأمة المقصودة فيه هي أمة الدعوة وليست أمة الاستجابة، أي العالم كله، وراء أن الفرقة غير الطائفة، وقائل بأن الحديث ضعيف لا يستحق الوقوف عند لفظه، ولا تتبع معناه.
 
اختلفوا في الموسيقى والغناء، واختلفوا في السفور والنقاب، واختلفوا في مولد النبي، عليه السلام، واختلفوا في مسائل كثيرة، ما بين صغيرة وكبيرة، حتى في أصول الدين اختلفوا اختلافًا أرانا المدارس الكلامية المتعددة، من أشاعرة وماتريدية، وحنابلة ومعتزلة، وفرقٍ ومللٍ ونحلٍ ألفت فيها الكتب الكبيرة، ودار حولها جدال محتدم.
 
كان هذا الاختلافُ في زمن من الأزمان اختلافَ تنوُّع، لم يُفسدْ للود قضية، بل أَثْرتْ به الساحةُ الفكرية، وتولدت منه الأفكار المتعددة، والآراء المتنوعة، حتى صارت كالبضاعة تُعرض منها الأشكال والألوان، يختار منها كلٌّ ما يحلو له، لكنه بات في أحيان كثيرة اختلاف تضادّ، تصارع الناس بسببه، وكفّر بعضُهم بعضًا، وسفك بعضُهم دماءَ بعض، فقامت بينهم الحروب، ووقعت الوقائع، حتى في الدين الواحد، كالنصرانية التي تدّعي المحبة والتسامح والسلام، فقد قام باسمها من الحروب ما شوّه صورة الأرض، وسال بسببه من الدماء ما لوّن منها الأديم.
 
ولو تركتَ الدينَ للسياسة، رأيتَ أصحابَ اليمينِ وأصحابَ الشمال، حمائمُ وصقور، تياراتٌ وقوًى وأحزاب، هذا مؤيدٌ وذاك معارض، ذاك صوّتَ وهذا امتنع، وآخرُ لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، أو إن شئت فقل مستقلّ، أو مِن أهل الحياد، أناسٌ تفرّقت بهم السبل، وتوزعتهم المصالح، وتجاذبتهم الآراء، فراح كل منهم يكيد لأخيه كيدًا، ويمكر به ويحفر له، حتى سمع الناس بالاغتيالات السياسية، والانقلابات العسكرية، والثورات والاحتجاجات، انقلب الابن على أبيه، والأخ على أخيه، والصاحب على صاحبه.
 
في صدر الإسلام، كان عُمَرُ من أعدل من عرفهم التاريخ من الحكام، لكنه لم يعدم من المخالفين من قتله شرّ قتلة، وهو قائم يصلي في المحراب، ثم جاء عثمان فاختلف عليه الناس بعد مدة، وما زال الاختلاف يَنمي ويزيد حتى هجم الناس على داره، وذبحوه في جوف بيته، وهو يتلو قرآنَ ربه، ثم اختلف الناس في مقتله نفسه، فتفرقت بهم السبل، حتى قامت بينهم الحروب الكبرى، وهم أهل خير جيل كما أخبر الرسول، واستحرَّ بالناس القتل، في الجمل وصفين وغيرهما، فمرق المارقون، وخرجت الخوارج، واعتزل المعتزلون.
وكانت سريلانكا جزيرة نادرة من حيث تآخي الناس وتوادهم وتراحمهم، تقطنها أغلبية من السنهاليين البوذيين، وأقلية من التاميل الذين هاجروا إليها من جنوبي الهند منذ قرون، أو جاؤوها عاملين في الزراعة في أواخر القرن التاسع عشر، وكلا الفريقين صاحب ديانة بعيدة عن العنف والتقتيل، لكنها باتت اليوم تغرق في بحر من الدماء، فقد اختلف فيها المتفقون، وتباينت على أرضها الآراء، فقامت الحركات الانفصالية، وأُسِّست المنظماتُ المسلحة، ووَجد الناس ما يُغَذّي ذلك من الاختلافات الدينية والعرقية واللغوية والسياسية والاجتماعية، إلى أن قامت بين المتوادين الحروب، ووقعت المكائد، وفشا الإرهاب، حتى إن رئيسة البلاد التي استقالت بأخرة شهدت اغتيال أبيها وزوجها أمام عينيها، كما فقدت هي إحدى عينيها نتيجة محاولة اغتيال.
وعام ثمانية وأربعين نُكبت فلسطين بسرطان الصهيونية، فقام أهلها يقاومون حسبما أوتوا من قوة وبأس، لم يألوا جهدًا ولا ادخروا وسعًا، فألفوا منظمة باتت تعرف بمنظمة التحرير الفلسطينية، وضعت لنفسها مبادئ أجمع عليها إذ ذاك الفلسطينيون، لكنها ما لبثت أن غيرت وبدلت، واختلفت القوى المؤلفة لها، حتى الحركةُ الواحدةُ انشقَّ فيها المنشقون، وخرج عنها الخارجون، وكل يدعي لنفسه الصحة والحكمة والصواب.
وقامت في عالمنا العربي ثورات في القديم والحديث، اتفق الناس في أصلها، وألفت بين قلوبهم مطالبُ مشتركة، وجمعت بينهم هموم واحدة، وضمتهم شوارعُ وميادين، رددت جنباتها أصداء هتافاتهم، لكنهم ما لبثوا أن تفرقوا بعد اجتماع، واختلفوا إثر اتفاق، فصودرت حقوق، وتسلط متسلطون، وامتلأت بالبرآء سجون، وعُلِّقت بالظلم مشانق، وصار صديقُ الأمس عدوَّ اليوم، وعدوُّ الأمس حليفَ اليوم، حتى اختلف الناس في جدوى الثورة أصلًا، وراحوا يتحسرون على زمن الملكيات، ويثلبون زمن الثورات.
ولم أرَ الناس اختلفوا في شيء اختلافهم في إيران ووضعها مع العرب، فراءٍ فيها عدوًّا في ثياب صديق، لا تفتأ تكيد للعرب بكل وسيلة، ولا سيما مع ما بدا منها في شأن العراق، ومعتقدٌ فيها الخير والنجاة والصلاح، ولا سيما مع ما يبدو من مواقفها من المقاومة في لبنانَ وفِلَسطين، ولم يقتصر اختلاف الناس في هذه المسألة على طبقة دون أخرى، بل صرتَ تسمعُهُ في كلِّ مكان، أقيمت حولَه الندوات واللقاءات التلفزيونية، وتكلم فيه الخاصّة وأبناء الشارع، كلٌّ يُفتي حسبما يتراءى له ويتماشى مع اعتقاده.
وإن شئت ألا ينقضي عجبك من اختلاف الناس فاقرأ تعليقاتهم على كثير من الأخبار، فستجد ثمة العجب العُجاب، فيما يكتبون ويقولون، فيا عجبًا حتى الحكامُ وجدوا من يدافع عنهم وينتصر لهم، في زمن الثورات العربية العظيمة، لم يقتصر ذلك على الجهلة والمنتفعين، بل رأيت من يفعل ذلك مؤمنًا به من قلبه، من العلماء الراسخين، كما ظهر واضحًا في مصر وسورية واليمن، على ما بدا لهم من سفاهة حكامهم، وبعدهم عن الوطنية بُعد المشرقَين، فلقد علم الناس ألا شيءَ أعزُّ على هؤلاء الحكام من أنفسهم وكراسيهم، من أجلها دمّروا البلاد ونكبوا العباد، واستعدَوُا الأعداءَ وقتلوا الأبرياء، وبثوا الأراجيف وأشاعوا الفتن، ونشروا المخدرات والمنشطات الجنسية، يتعاطاها شباب يعتدون على حرمات الناس، وينتهكون أعراض بناتهم ونسائهم، ويسرقون منهم وينهبون.
أعدَّ فيصل القاسم حلقة من برنامجه المعروف عن التدخين فلم يعدم من يأتي يُدافع عن التدخين وينتصر له، بعد أن نُشر نحو مليوني بحث تُبَيِّنُ مخاطرَ التدخين ومضارَّه، على المدخنِ وغيره، وقلْ مثلَ ذلك في قضايا كثيرةٍ أثيرت وتثار، تظنُّ أنها باتت من الْمُسلَّمات، وأجمعت عليها العقول، ثم تفاجأ أن ثمة من يخالفك فيها الرأي، ويرفع بالخلاف عقيرته، ويُعلي به صوته.   
وبرز مصطلح المؤامرة في تفسير كثير من الظواهر السياسية التي تجتاح المنطقة، ثم اختلف الناس في حقيقة المؤامرة، وأصل وجودها، وطبيعة تركيبها. ثارت ليبيا ضد جلادها فاستبشر الناس خيرًا، أَنْ تحرَّكَ بلد عُدَّ في حكم الميتين، من طول حقبة القمع والإرهاب، لكن ما لبث الثوار أن استعانوا بالغريب، فاختلف في ذلك المراقبون، وتباينت آراء المحللين، ما بين مؤيد ومعارض، ومسوِّغ ومستنكر، ولكل حججه وأقواله.
اصنع ما شئت فلن يتفق الناس يومًا، إلا أن يجعل الله لمن يكفرُ بالرحمن لبيوتهم سُقُفًا من فضة ومعارجَ عليها يظهرون، ولبيوتهم أبوابًا وسررًا عليها يتكئون، وزُخرُفًا. اصنع ما شئت فلن يتفق الناس، ولو كانوا متفقين لاتفقوا على خالقهم ورازقهم، ولو شاء ربك لجعلهم أمة واحدة، ولا يزالون مختلفين، إلا من رحم ربك، ولذلك خلقهم، فلا مطمع في الاتفاق، ولكن لنجتهد أن نجعل اختلافَنا اختلافَ تنوُّع، تتلوَّنُ به الحياة، وتتدافعُ به الآراء، وتتلاقحُ فيه الأفكار، ليتولدَ الأمثلُ والأجملُ والأفضل، ولنجتهدْ في تقنين آداب الاختلاف، وفقه التنوُّع، ونحن الذين قال قائلُنا: رأيي صوابٌ يحتملُ الخطأ، ورأيُ غيري خطأٌ يحتملُ الصواب، وتمنى أن يجري الحقُّ على لسان خصمِه، لأن الحقَّ هو المقصود، وعليه التُّكلان.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين