لماذا أيها المثَبِّطُون الجبناء؟

للدكتور ماجد درويش

أعتذر ابتداءً عن هذه العبارة التي تحوي تقريعا، إلا أنه عندما يتناهى إلى مسامعنا فتاوى أقل ما يقال فيها إنها لا تمت إلى العلم بصلة، وإنه أريد بها وجه الظلم لا وجه الله سبحانه، فإن طالب العلم يتحسر على ما آلت إليه أوضاع البعض ممن ركنوا إلى الحياة الدنيا.
 
فاليوم يشهد العالم الإسلامي من شرقه إلى غربه فورةً عارمة، وثورة على الظلم، لذلك انتهض الناس في هذه البلاد؛ التي تحكمها أهواء الجبابرة؛ يطالبون بحريتهم وكرامتهم وأن يشعروا بإنسانيتهم. ولأن النظام القائم جائر وظالم ومتسلط ولا يرقب في الناس إلا ولا ذمة، على طريقة سلفهم فرعون الذي أخذ بإبادة كل من يولد في بني إسرائيل بعد رؤيا رآها، والهدف الحفاظ على العرش، فلا بأس بإبادة أجيال وأجيال طالما أن الموضوع يتعلق بالحفاظ على العرش. ورضي الله عن سفيان الثوري القائل: ( ما رأيت الزهد أقل منه في الرئاسة، تجد الرجل يزهد في المأكل والملبس والمشرب، فإذا نوزع الرئاسة حامى عليها وعادى). وعلى كلٍ، وبالرجوع إلى ثورات الأحرار، وتثبيطات الأشرار، أقول:
 
إن الفراعنة الجدد يتبعون أسلوبا في مواجهة المطالبين بالحرية يقوم على أساسين:
الأول: حشد علمائه الذين رباهم على عينه ليستصدروا له الفتاوى، ويكيلوا له المدح، وينبشوا أحاديث الفتن وينزلوها على كل ظلوم غشوم كفار عنيد، فيضفوا عليه لقب ولي الأمر والسلطان الذي لا يجوز الخروج عليه، وكأننا في دوحة الإسلام، ونسي هؤلاء أن كل هذه الأنظمة القائمة اليوم إنما هي ثمرة من ثمار الحرب ضد الإسلام، فهي نتاج سايكس – بيكو، تلك المعاهدة التي كرست احتلال الغرب لبلادنا، ووسيلةُ الهيمنة هذه الدمى التي تسمى دولا عربية. وما بني على باطل فهو باطل. ويذكرني هذا بما واجهه شيخ الإسلام ابن تيمية من بعض من ينتسب إلى العلم في عصره يوم كانت الحشود تجمع لمواجهة التتار القادمين إلى الشام بقيادة حفيد هولاكو أحمد بن قازان التتري، وذلك سنة 701 هـ في معركة شقحب أو مرج الصُّفَّر، ويومها زعم هذا القائد العظيم أنه مسلم، مع العلم أنه كان يحكم في قومه بالياسق، وهو خليط من اليهودية والمسيحية والملة الإسلامية وشيء من هوى جده هولاكو، فقال بعض أهل العلم: كيف نقاتل هذا الرجل وهو يزعم أنه مسلم؟ ومن أي باب قتاله؟ فهو لم يرتد عن الإسلام لنقاتله؟ وليس كافرا؟ وحار ابن تيمية في أمرهم حتى اضطر أن يحلف لهم أنهم يحادون الله ورسوله وليس أدل على ذلك من سفكهم لدماء المسلمين.
 
ولذلك أصدر الحافظ ابن كثير فتواه المشهورة عند تفسير قول الله تعالى من سورة النساء ( أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون ) في شأن من حكم غير شرع الله.
المهم فالظالمون اليوم يبدؤون أولا في الدفاع عن أنفسهم بحشد المؤيدات من جنس المعارضات، كما فعل فرعون عندما حشد السحرة لموسى عليه السلام، فلما خسر معركة الكلمة والحجة عاد إلى أصله في البطش والجبروت وكان هذا مقدمة لهلاكه.
 
فالظلمة اليوم بدؤوا بحشد المؤيِّدات التي يعتبرونها شرعية، ووجدوا بعضا ممن ينسب إلى العلم يروج لهم ذلك، وهم لا يخرجون بذلك عن مواقف أسلافهم، فنسمع الفتاوى التي ما أنزل الله بها من سلطان، ويبدأ نبش أحاديث الفتن لتبرير الجبن والخور والانقياد الذليل إلى حاكم ظالم غاشم لا يرعى لله تعالى ولا لرسوله ولا لبيوته ولا لعباده حرمة.
 
أما الأساس الثاني الذي يتبعه فهو تحريض أتباعه والمستفيدين من حكمه ليسدِّدوا ما عليهم، فالغرم بالغنم، على قاعدة ملإ فرعون ( أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك )، وهذا يأخذ مناحٍ متعددة أشدها عندما يكون هذا الحاكم الظالم من طائفة تعتبر من حيث العدد أقليَّة، ولها وضع تاريخي معيَّن مع الكثرة الغالبة التي تخالفها بالمعتقد غالبا، هنا يبدأ نبش تاريخ الصراع بين المِلَلِ والنِّحَلِ في محاولة لتجزئة المخالفين وإضعافهم. ( إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا ). فهذا سلاح فتَّاك على طالبي الحرية أن يتنبهوا له جيدا حتى لا يقعوا في فخ نبش ماضٍ لا علاقة له بحرب الحرية القائمة اليوم، فالظلم ظلم كائناً من كان مُمَثِّله، والعدل عدلٌ كائناً من كان صاحبه. والعدل مطلوب شرعي، لذلك وجدنا القرآن الكريم يتنزل لنصرة يهودي مظلوم وفضح مسلم سارق ظالم ( ولا تكن للخائنين خصيما )، مع العلم أن هذا اليهودي ينتسب إلى أمة في مجملها تحارب الله ورسوله، إلا أن العدل يقتضي أن يخرج الإنسان من نوازعه القلبية وأن يعطي كل ذي حق حقه.
 
كيف نواجه؟
وعليه يهمنا أن نؤكد أن الإسلام لم ينظر يوما إلى غير المسلمين الذين يعيشون في كنفه على أنهم أقليات، ومن أحب بيان ذلك فليراجع وثيقة المدينة المنورة لينظر كيف أنه جعل يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، وأنزل غيرهم من اليهود منزلة بني عوف، فأعطاهم من الاستقلالية في شؤونهم الخاصة ما لم تعرفه دساتير الأرض حتى اليوم.
كما يهمنا أن نؤكد على أن كثيراً من الفتاوى التي تنبش اليوم لا ينبغي أن ينظر إليها إلا في زمانها وحيثياتها، وهي فتاوى تخضع للزمان والمكان، وما يفتى به في زمن لا يعني أنه يصلح لكل زمن، ولا أدل على ذلك من النظرة إلى ( الإباضية )، فهذه الفرقة متفرعة عن الخوارج تاريخيا، ولكننا لو نظرنا إلى فقههم اليوم لوجدنا أنهم لا يقولون بما كان يقوله من حمل هذا اللقب في التاريخ، وبالتالي فتحميل الإباضية اليوم ما في كتب الملل والنحل من المعتقدات ظلم لهم.
كما يهمنا أن نؤكد على أن حربنا اليوم ليست دينيَّة، إنما هي هَبَّةُ مظلوم في وجه ظالم، وكما قلنا الظلم لا دين له، والعدل حق لكل أحد.
 
كما يهمنا التأكيد على أن طلاب الحريَّة المنتفضين اليوم هم من جملة من وصفهم النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم مع سيد الشهداء حمزة رضي الله عنه، كما في الحديث الصحيح: ( سيد الشهداء حمزة، ورجل قام إلى سلطان جائر فأمره فنهاه فقتله )، وهذا ينطبق تماماً على هؤلاء الأبطال الذين خرجوا بصدورهم العارية ليقولوا للظالم: يا ظالم، ومن زعم غير ذلك فقد خان الله ورسوله وخان الأمانة وهو يعلم.
فحذاري يا طلاب الحرية من الوقوع في فخ المذهبية الذي يُحسنه فراعنة العصر جيدا، وما كنيسة القديسين في مصر عنا ببعيد.
 
نسأل الله تعالى في هذا الشهر الفضيل الذي تُضاعف فيه الأعمال والحسنات، أن يضاعف على الظالمين الويْلات، وأن يجعل تدميرهم في تدبيرهم. آمين.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين