سِرُّ الشرع السماوي في الصوم

الشيخ مصطفى الصاوي

 
مظهر الصوم: الإمساك عن مُفطِّر مدَّةً محدودة من الزمن.
وحكمته: تحكيم الروح في المطالب‏ الجسديَّة، وتكميل الشخصية الإنسانية.
ذلك لأنَّ الإسلام جاء لينشئ جيلاً من الناس يقوم بخلافة الله في الأرض، ويؤدي للعالم‏ ما أراد الحق أن يبثه فيه من أصول عالميَّة، وذلك لا يكون إلا بإعداد أمَّة لهذا العمل الخطير إعداداً يؤهِّلُها لاحتمال الشدائد والصبر على المكاره، وأحسن وسائل الإعداد هو الصوم‏ الذي يمثِّل سُلطان الروح على الجسم أكملَ تمثيل، ناهيك أنَّه تكليف يشقُّ على النفس، ويثقل‏ على الطبع، ويخالف العادة؛ فليس أشد على النفس من حرمانها من مُقوِّماتها، ومما فيه مُتعتها ولذَّتها، بل حياتها وقوتها.
والمفروض أنَّ هذا التكليف صدر من حكيمٍ خبير، هو بعباده رؤوف رحيم، فلابدَّ أن تكون له حكمة سامية ومقصد شريف، وأي حكمة أسمى، ومقصد أشرف من توجيه النفس‏ إلى نواحي الخير والكمال، لتقطع مراحل الحياة آمنةً مُطمئنة، ولتساير قافلة البشرية قوية نشطة حتى تصل إلى النهاية المُقدَّرة لها? ليست حكمة الصوم تقف عند هذا الحد وإن كان هو أرفعها مبدأ وغاية، ولكنها تتعداه‏ إلى فضائل أخرى يعتبر كل منها ركناً من أركان الحياة الطيبة، والسعادة الحقيقية.
إنَّ الناظر في معنى الصوم وما يستدعيه من ضبطِ أوقاته، والتأدب بآدابه، والتحلي‏ بما ندب إليه من مقوماته، يرى رأي العين إلى أي مدى يمتدُّ تأثيره من ناحية تقويم الشخصية الإنسانيَّة.
فإنَّ تحديد وقت الإمساك عن الطعام، واعتبار مراعاة ذلك أمراً لابدَّ منه، لو أخلَّ به‏ ولو بلحظة يسيرة لم تَتَحقق ماهيَّة الصوم، لأكبر عاملٍ في الشخص على وجوب المُحافظة على‏ المواعيد، والتدقيق في العمل.
وأثر هذا في قوم كانوا في أمسهم القريب لا يعرفون لهذه‏ القيود قيمة لا يمكن تقديره من الناحية البسكولوجية. فالصوم مع كونه رياضة روحية لها أثر مباشر على النفس، هو من الناحية الاجتماعية يعوِّد الناس الطاعة، والنظام، وضبط النفس، والصبر والقناعة، والتجلُّد، والإقدام، وبالجملة يَقتضيهم أن يتمرَّسوا بحياة كلها قيود وشروط وقوانين إن لم تُراعَ جلبت الشرور على أصحابها ولا كرامة.
كانت الإنسانية في حاجة إلى هذا الضرب من العبادة المُؤدِّية إلى ما رأيت؛ لأنَّه قدر عليها أن تحيا في اختلاف وتَبَاين، وتدافع وتنازع، على ما يَقتضيه نظام العمران كما دلَّ عليه قوله تعالى: [وَلَوْلا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ] {البقرة:251}، وقوله تعالى:
«[وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ] {هود:118}. وألزم ما يَلزم الأمم المقدر لها الفوز في هذه المعامع الحيوية، أن تكون‏ من ضبط النفس وأدبها ومن الطاعة والنظام والتدقيق على مثل ما ذكرت.
وليست فضيلة الصبر بالأمر الهيِّن؛ فإنَّه ثمرة معركة نفسية حامية الوطيس تقوم بين باعث‏ الهوى، ووازع العقل، وفي الصوم يَتنازع الإنسانَ هاتان الجهتان، فإذا ما كبحَ جماحَ الهوى‏ وكسرَ شرته، وأيَّد وازعَ العقل وقَوَّاه على خصمه، كان هو الإنسان الكامل.
فلا يظنن ظانٌّ أنَّ الصائم الذي تراه رابطَ الجأش، قوي الحفاظ، ولا تلين قناته أمام ضغط الشهوات، يؤدي‏ عبادة سلبية، كلا! فإنَّ كل ما استكن في نفسيته من قوى معنوية، تكون وهو في تلك الحالة من السكينة في حالة تفاعل باطني، ثمرته إيقاظها من سباتها، وبعثها لتعمل عملها الإنساني الذي‏ هو جدير بأن يكون ثمرةَ حياةٍ إنسانية حُمِّلت ما حُمِّلت من ساميات القوى الأدبية، وعاليات‏ الغرائز الفاضلة.
وفي الصوم إلى جانب هذا كله فوائد صحيَّة جليلة القيمة؛ ذلك لأنَّ المعدة التي تشتغل بهضم‏ الأطعمة طول عامها تحتاج لمدة تستجمُّ فيها لتستعيدَ نشاطها، وتستأنف عملها بقوى مُجدَّدة.
إنَّ الصومَ يُلزِمُ صاحبَه العطفَ على إخوانه في الإنسانية، فهو بتذوقه حرارةَ الجوع وألم‏ الحرمان، يشعره برحمة للمساكين، وحدب على المُعوزين، فتجده سمحاً معطاءً، مُتضامناً مع بني‏ جنسه في حمل أعباء الحياة وتكاليفها.
فترى الصوم كما هو سبيل إلى تقويم الأجساد، وحائلٌ بينها وبين العمل والأسقام، هو طريق مُعبَّد إلى تقويم الأخلاق وتهذيب النفوس وتكوين الأفذاذ.
وإنَّ أفراداً صحَّت أجسامُهم، وتهذَّبت أخلاقهم، ودقَّت مَشَاعرهم، لجديرون بأن‏ يبنوا دولةً، ويُقيموا أمَّةً، وأن يخطوا بأيديهم صحائفَ مَجْدٍ خالدات.
ذلك هو السر في جعل الصوم ركناً من أركان الإسلام.
هذه ناحية من نواحي الحكمة الإسلامية، تجلَّت في الصوم كما تجلَّت في جميع أصوله‏ وعباداته ومُعاملاته، مما يُقرِّر في العقل أن لابدَّ منه لحياة البشريَّة، واستقرار نظامها، واستكمال كرامتها.
فكيف لا تتمسك الإنسانيةُ بهذا الدين الذي يَحفظ وجودها في الدنيا من التدهور، ويسير بها في طريق الأمن والسلامة والرخاء في الحياة، ويبوِّئها في الآخرة جنات عرضها السموات والأرض.
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
المصدر : مجلة الأزهر، المجلد الثالث عشر ، رمضان 1361هـ ، الجزء التاسع .

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين