التجارة

هذه خطبة قديمة القيتها سنة 1398منذ خمس وأربعين عاماً وأنا في العشرين من عمري في جامع السلام بحلب ، وكنت أحضّر الخطبة وأعدها إعدادا جيداً وأكتبها من عدة مصادر، وألقيها ارتجالاً، وقد احتفظت بهذه الأوراق بخطي، وقام الأخ الحبيب طارق قباوة بصفها ،ويذكرني بتصحيحها ويحثني على نشرها، وقد راجعت الخطبة وأعيد نشرها في موقع الرابطة، وأرجو أن تكون من العلم الذي ينتفع به.

 

خلقَ الله تعالى الناس على حالة يَحتاج فيها بعضُهم إلى بعض، فشرع لهم أن يتبادلوا المنافع بالبيع والشراء حتى تستقيم الحياةُ، وتسير بالخير والإنتاج، والإسلام يربط بين قواعد التعامل في المال والتجارة، والبيع والشراء مع العقيدة، فالعقيدة والشريعة والعبادة والمعاملة كلها من مقومات هذا الدين وترتبط بكيانه الأصيل.

ولقد ظنَّ كثيرٌ من الناس أنَّ المعاملة الحسنة تستقلُّ وحدَها في إظهار الجانب العملي في الإسلام، فالدين في زعمهم المُعاملة، ولا علاقة له بالعقيدة وبالعبادة، وفي ذلك هدمٌ لمعالم الدين؛ إذ كل ملحد أو جاحد يَدَّعي أنَّه أعبدُ العابدين، فكيف يكون المرءُ في المُجتمع إذا انقطعت صلتُه بربه، وكيف يُعامل النَّاس من لم يراقب ربَّه، وكيف يعاشر الناس من لم يراقب الله عزَّ وجل؟!.

إنَّ الإسلام دين الدنيا والآخرة يجمع بين العبادات والمعاملات في تناسق بديع، ومن هذه المعاملات التي رغَّب الإسلام فيها، ونوَّه بفضلها، وأشادَ بمثوبة أهلها ـ التجارة ـ.

ولقد دعا الإسلام في نصوص قرآنه، وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم دعوةً قويةً إلى التجارة، والعناية بها، وأغرى بالرحلة والسفر من أجلها وسماه: ابتغاء من فضل الله. وقرنَ الله تعالى ذكرَ الضاربين في الأرض للتجارة بالمجاهد في سبيل الله فقال: [وَآَخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَآَخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ] {المزمل:20}.

ويشوِّق القرآن إلى الهجرة في سبيل الله والسفر من بلدٍ إلى آخر ابتغاء الرزق والتجارة:[وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً] {النساء:100}.

وفي القرآن يمتنُّ اللهُ تعالى على الناس بتهيئته لهم سبلَ التجارة الداخلية والخارجية بالمواصلات البحرية التي لا تزالُ أعظم وسائلِ النقل للتجارة العالمية؛ فيقول تعالى مُمتناً بتسخير البحر وإجراء السفن التجارية فيه:[ وَتَرَى الفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] {النحل:14}.

وقد امتنَّ الله على أهلِ مكةَ بما هيَّأ لهم من أسبابٍ جعلت بلدَهم مركزاً تجارياً ممتازاً: [أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آَمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ] {القصص:57}. وبهذا تحققت دعوةُ إبراهيم عليه السلام: [رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ المُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ] {إبراهيم:37}.

وامتنَّ الله على قريشٍ إذ يسَّر لهم رحلتين تجاريتين في كل عام، رحلةٌ: إلى اليمن في الشتاء، ورحلةٌ إلى الشام في الصيف، يسيرون فيهما آمنين بفضل سدانتهم للكعبة، فليشكروا هذه النعمة بعبادةِ الله وحده، رب البيت وصاحب الفضل عليهم: [لإيلافِ قُرَيْشٍ(1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ(2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا البَيْتِ(3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآَمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ(4) ]. {قريش}..

وقد هيَّأ الإسلام للمسلمين فرصةَ التبادلِ التجاري فيما بين أقطارِهم وشعوبهم على نطاقٍ عالميٍ واسعٍ في كل عامٍ، وذلك في الموسم السنوي العالمي، موسم الحج إلى بيت الله الحرام حين يأتون: [رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ] {الحج:27}.

ومن هذه المنافع ـ ولا شك ـ: التجارة، وقد روى البخاري: أنَّ المسلمين كانوا يتحرَّجون من التجارة في موسم الحج؛ يخشون أن يكون في هذا ما يشوب إخلاص نيتهم، أو يكدِّر صفاء عبادتهم، فنزل القرآن يقول في صراحةٍ ووضوح: [لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ] {البقرة:198}.

وقد امتدحَ القرآن الكريم روَّاد المساجد المسبحين بالغدوِّ والآصال بأنهم: [رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ] {النور:37}.  

فالتاجر المسلم لا يَشْغله شاغلٌ من نوازع الحياة عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، والمُؤمنون هم رجالُ أعمالٍ، ميزتهم أنَّ أعمالهم الدنيوية لا تشغلهم عن واجباتهم الدينية.

هذا بعض ما جاءَ في القرآن الكريم عن التجارة، أما في السنَّة النبوية، فقد حثَّ نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم على التجارة، وعُني بأمرها، وإرساء قواعدها بقوله وفعله، وتقريره ففي أقواله الحكيمة نسمع هذه الأحاديث:

روى ابن ماجه والحاكم أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء).

 ولا نعجب إذا جعل النبيُّ عليه الصلاة والسلام التاجرَ الصدق بمنزلة المجاهد، والشهيد في سبيل الله فقد أثبتت لنا تجاربُ الحياة أنَّ الجهادَ ليس في ميدان القتال فحسب، بل في ميدان الاقتصاد أيضاً.

وإنما وُعِدَ التجار بهذه المنزلة الرفيعة عند الله، وهذه المثوبة الجزيلة في الآخرة؛ لأنَّ التجارة في الغالب تغري بالطمع، واكتساب الربح من أي طريق، فمن وقف عند حدود الصدق والأمانةِ، فهو مجاهدٌ هذا ينتصر في معركة الهوى وحق له منزلة المجاهدين.

كما أنَّ من شأن التجارة أن تُغرق أهلها في دوامةٍ من الأرقام، وحساب رأس المال والأرباح، حتى إننا نجد في عهد الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم قافلة تحضر بتجارةٍ والنبي يخطب، فما أن سمع القوم بها حتى شُغلوا عنه وانصرفوا إليها: فنزل قوله تعالى يعاتبهم: [وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ مِنَ اللهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ] {الجمعة:11}.

فمن استطاع أن يبقى في هذه الدوامة قويَ اليقين، عامر القلب بخشية الله، رطب اللسان بذكر الله، كان جديراً أن يكون مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء.

ويكفينا من فعله عليه الصلاة والسلام في شأن التجارة أنَّه صلوات الله عليه قد عمل في التجارة، وذهب قبل البعثة إلى الشام بتجارةٍ للسيدة خديجة بنت خويلد مع غلامها ميسرة، وفي المدينة أقام سوقاً إسلاميةً صرفة، لا سلطان لليهود عليها، وقد رتَّب النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه أوضاعها، وظلَّ يرعاها بتعاليمه وتوجيهاته، فلا غشَّ، ولا تطفيف ولا احتكار.

وفي سير أصحابِ رسول الله صلى الله عليه وسلم نجد منهم التجَّارَ البارعين، كما نجد الصنَّاع والزرَّاع، وسائر أهل الحرف ـ الأعمال ـ، فالأنصار في الغالب كانوا أهل زرعٍ ونخيل، والمهاجرون في الغالب كانوا أهل تجارةٍ وصفقٍ في الأسواق، وهذا عبد الرحمن بن عوف، المُهاجر يَعرض عليه أخوه في الله سعد بن الربيع الأنصاري أن يُشاطره في ماله وداره، ويَختار إحدى زوجتيه فيطلقها له، فيلقى هذا الإيثار النبيل بعفاف نبيل آخر، ويقول لسعد: بارك الله في مالك وأهلك، لا حاجة لي في ذلك، هل من سوق فيها تجارة؟ قال سعد: نعم، سوق بني قينقاع، فغدا إليه عبد الرحمن وباع واشترى، ثم تابع الغدوَّ إلى السوق حتى صار من أكبر أثرياء المسلمين.

 وكان أبو بكر الصديق من أنشط التجَّار في مكة، ولم يترك التجارة إلا بعد أن صرفته عنها مَشَاغل الخلافة وأعباء الحكم.. وهكذا سارَ المُجتمع الإسلامي مُقبلاً على دُنياه في ظلِّ دينه، يُتاجر ويَبيع، ولكن لا تلهيه تجارة ولا بيع عن ذكر الله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة.

إنَّ الإسلام يُحرِّم أنواعاً من التجارة والبيع والشراء والمبادلات، تتنافى مع مبادئه وتشريعاته وأهدافه وتوجيهاته؛ لما فيها من إضرار بالمجتمع في عقيدته، أو في أخلاقه أو أعراضه، أو مقوماته.

فالبغاء مثلاً تجارة للأعراض تنتجها بلاد الغرب، وتعطي بها إذناً وترخيصاً على حين يرفض الإسلام ذلك كلَّ الرفض؛ ليبقى المجتمع الإسلامي طاهراً من هذه الخبائث المُوبقات.

وكذلك يحرم الإسلام صناعة وتجارة التماثيل ونحوها، وقد روى البخاري عن سعيد بن أبي الحسن قال: (كنت عند ابن عباس إذ جاءه رجل فقال: يا ابن عباس: لا أحدث إلا ما سمعتُ من رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعته يقول: ( من صوَّر صورة فإنَّ الله يعذبه حتى ينفخ فيها الروح، وليس بنافخ فيها أبداً) فربا الرجل ربوة شديدة ـ يعني انتفخ من الغيظ والضيق ـ فقال بن عباس: ويحك إن أبيت إلا أن تصنع، فعليك بهذا الشجر، وكل شيء ليس فيه روح).

ويحرم الإسلام أيضاً التجارة بالمسكرات والمخدرات، فلا يحلُّ للمسلم أن يعمل مُستورداً أو مصدراً أو صاحب محلٍّ لبيع الخمر، أو عاملاً في هذا المحل، فكل من فعل ذلك فهو مَلعون على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وحرَّم الإسلام بيع العِنب لمن يعرف أنَّه سيعصرها خمراً، فقد روى الطبراني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من حبس العنب أيام القطاف حتى يبيعه من يهودي (أي: ليهودي) أو نصراني، أو ممن يتخذه خمراً، فقد تقحَّم النار على بصيرة).

فكل حرامٍ حرَّمه الإسلام.. بيعُه والاتجارُ به حرام؛ ولذا قال عليه الصلاة والسلام فيما يرويه الإمام أحمد وأبو داود: (إنَّ الله إذا حرَّم شيئاً حرَّم ثمنه)، وكل تجارة وكسبب يجيء من طريق حرام إنما هو سحت خبيث، وكل لحم نبت من هذا السحت فالنار أولى به.

إنَّ التجارة لا تكون إلا في شيءٍ مُباح، ولهذه التجارة آدابٌ كثيرة ومُشرقة، لو طُبِّقَ منها اليوم شيء ولو القليل للمسنا آثار ذلك في حياة المسلمين.

ومن الأمور التي يجب أن يحذرها التاجر الكذب، فإنَّه آفة التجار، والكذب يهدي إلى الفجور، والفجور يهدي إلى النار، روى الطبراني عن واثلة بن الأسقع، قال: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج إلينا ـ وكنا تجاراً ـ وكان يقول: يا معشر التجار إياكم والكذب).

وليحذر التاجر من كثرة الحلف بعامَّةٍ، واليمين الكاذبة بخاصَّةٍ، والله سبحانه وتعالى يقول: [وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ] {المائدة:89}. أي: لا تجعلوها مُبتذلة تستعملونها في كل حق وباطل، ويذم الذين يكثرون من اليمين فيقول: [وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ] {القلم:10}؛ فإنَّ اسم الله عزَّ وجل ينبغي أن يكون دائماً في المرتبة الأسمى من شعور المسلم وفؤادِه، حتى إذا ذكر به من غفلةٍ أخذته الخشية وشعر بالهيبة، وهيهات لمن كان دأبه إقحام اسم الله تعالى في كل جِد وهزل، واستعماله أداة لترويج تجارته أو إنفاق بضاعته... هيهات لمن كان هذا دأبه أن يبقى في قلبه مع الأيام ذرة من الخشية أو الرهبة عندما يذكَّر باسم الله.

ومن قبيل ذلك ما يدأب عليه بعض التجار من اتخاذ صيغة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وسيلةً لترويج بضاعته، فقد أجمع العلماء على استهجان ذلك ومنعه، إذ في ذلك تهوين من أمر النبي صلى الله عليه وسلم، واتخاذ أصدق صيغة لتعظيمه تعبيراً عن غرض دنيوي تافه.

فليحذر التاجر من اليمين الكاذبة، فقد روى مسلم وأحمد أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم ذكر: ( ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم، ومنهم: المُنفق سلعته بالحلف الكاذب).

وروى ابن حبان في صحيحه عن أبي سعيد قال: (مرَّ أعرابي بشاة فقلت: تبيعها بثلاثة دراهم؟ فقال: لا والله ثم باعها، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: باع آخرتَه بدنياه).

وروى الإمام البخاري أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( الحلف مَنفقة للسلعة، ممحقة للبركة).

ومن الأمور التي تجب على التاجر أن لا يكتم شيئاً من عيوب السلعة أو خفايا صفاتها؛ فإنَّ هذا من الخداع الذي نَهَى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك كان سلف المسلمين، يبيِّنون ما في البيع من عيب ولا يكتمون، ويصدقون ولا يكذبون، وينصحون ولا يغشون.

باع ابن سيرين شاةً فقال للمشتري: أبرأ لك من عيب فيها، إنَّها تقلب العلف برجلها. وباع الحسنُ بن صالح جاريةً فقال للمشتري: إنها تنخمت مرة عندنا دماً، مرة واحدة، ومع هذا يأتي ضميره المؤمن إلا أن يذكرها له، وإن نقص الثمن.

وليحذر التاجر من الغش؛ فإنَّ الغاش خارج عن صفات أمة الإسلام، فقد روى البخاري ومسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (البيعان بالخيار ما لم يتفرَّقا، فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كذبا وكتما محق بركة بيعهما).

وروى مسلم أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ( مرَّ برجل يبيع طعاماً ـ حبوباً ـ فأعجبه فأدخل يده فيه، فرأى بللاً فقال: ما هذا يا صاحب الطعام؟ قال: أصابته السماء ـ أي: المطر ـ فقال صلى الله عليه وسلم فهلا جعلته فوق الطعام حتى يراه الناس! من غشَّنا فليس منا).

ومن ألوان الغش تطفيف المكيال والميزان، وقد اهتمَّ القرآن بهذا الجانب من المُعاملة، فقال سبحانه: [وَأَوْفُوا الكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالقِسْطَاسِ المُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً] {الإسراء:35}.

وقال تعالى: [وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ(1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ(2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ(3) أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ(4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ(5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ العَالَمِينَ(6) ]. {المطَّففين}..

إنَّ الظلم في المُعاملة التجارية قد يعقبه بعضُ الربح، فيكون ذلك دافعاً لصاحبه إلى الإمعان في ظلم وخداع، فسرعان ما يعرف بين الناس وبين عامَّة أهل السوق فينقلب عليه الحال، ويتحول ذلك الربح الجزئي إلى خسارةٍ كلية دائمة.

وإنَّ سلامة التعامل بين المسلمين تعتبر المهيئ الطبيعي الأول لقيام حقيقة التضامن والتآلف فيما بينهم، وإنَّ سوء التعامل بين المسلمين يُعتبر المهيئ الطبيعي الأول لقيام مَظاهر الشقاق والبغضاء فيما بينهم، وقد قصَّ القرآن علينا نبأ قوم جاروا في مُعامَلاتهم، وانحرفوا عن القسط في الكيل والوزن، وبخسوا الناس أشياءَهم، أولئك هم قوم شعيب الذين صاح فيهم داعياً ومُنذراً: [أَوْفُوا الكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ المُخْسِرِينَ(181) وَزِنُوا بِالقِسْطَاسِ المُسْتَقِيمِ(182) وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ(183) ]. {الشعراء}..

وهذه المعاملة مثال لما يجب أن يكون عليه التاجر المسلم في حياته وعلاقاته ومعاملاته، فلا يجوز له أن يكيل بكيلين أو يزن بميزانين، ميزان شخصي، وميزان عام، وميزان له ولمن يحب، وميزان للنَّاس عامة، ففي حق نفسه ومن يتبعه يستوفي ويتزيد، وفي الآخرين يخسر وينتقص.

إنَّ الإسلام يكفل الحرية للأفراد في البيع والشراء والتنافس الفطري، ولكنه ينكر أشدَّ الإنكار أن تدفع بعض الناس أنانيتهم الفردية وطمعهم الشخصي إلى التضخم المالي على حساب غيرهم، وإلى الإثراء ولو من أقوات الشعب وضرورياته، فالتاجر المسلم لا يستغلُّ اضطرار الناس ولا يضيِّق فرص الارتزاق والانطلاق، فأين هذا مما يحصل اليوم من التجار الذين يحتكرون السلع ويبيعونها بأسعار بالغة في الارتفاع...

ومن أجل هذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الاحتكار بعبارات شديدة زاجرة، حتى أخرجه من دائرة الدين، روى الإمام أحمد والحاكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من احتكر الطعام أربعين ليلة فقد برئ من الله وبرئ الله منه).

وروى مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحتكر إلا خاطئ) وليست كلمة خاطئ هذه كلمة هينة، إنها الكلمة التي دفع بها القرآن الجبابرة العتاة فرعون وهامان وجنودهما فقال: [ إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ] {القصص:8} .

وقد أبان النبي صلى الله عليه وسلم عن نفسية المحتكر وأنانيته البشعة، فقال فيما يرويه ابن ماجه والحاكم: (الجالبُ مرزوق، والمحتكر ملعون)، فالجلب هو نقل البضائع من إقليم ينتجها إلى آخر لا ينتجها مع احتياجه إليها، فهذا الجلب والاستيراد يمنع الضائقة الاقتصادية، ويخفف من ضغطها، ولذلك لجأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى الاستيراد والجلب من أخصب الأقاليم الإسلامية في عام الرمادة، وكتب يومذاك إلى واليه على مصر عمرو بن العاص رضي الله عنه (الغوث الغوث) فأجابه عمرو: ستكون عير أولها عندك وآخرها عندي.

أباح الإسلام استثمار المال عن طريق التجارة فقال سبحانه: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ] {النساء:29}. فسدَّ الإسلام الطريق على كل من يحاول استثمار ماله عن طريق الربا، فحرَّم قليله وكثيره، وبيَّن الرسول صلى الله عليه وسلم خطر الربا، فقال فيما يرويه الحاكم وأبو يعلى: (إذا ظهر الربا والزنا في قرية فقد أحلُّوا بأنفسهم عذاب الله) ولقد تعامل التجار مع البنوك الربوية المُتنوعة، مع أنَّ الربا من كبائر المحرمات، ومن السبع الموبقات، وآكِله ومؤكِله، وكاتِبه، وشاهده مَلعونون على لسان مُحمد صلى الله عليه وسلم، ومن أكل الربا فقد أذن بحرب من الله ورسوله، ومن استحلَّه فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه، والغريب أنَّ كثيراً من المسلمين استسلموا لهذا الواقع وسلموا أعناقهم للبنوك المُرابية التي تحرِّكها أصابع اليهودية العالمية، والمتحكمة في ذهب العالم ونقده، والمستفيدة من الربا، غنىً ونفوذاً وسيطرةً على مقدرات الأمم الاقتصادية والسياسية، وليت هؤلاء المسلمين اكتفوا بالاستسلام للواقع على كره، بل راح بعضهم يبحث عن مسوغات وفتاوى شرعية، يُبرِّر بها مسلكه ويضفي على عمله صبغة إسلامية.

ومما ينبغي للتاجر أن يعرفه من أحكام دينه أنَّه يأمره بالاعتدال في حياته والاقتصاد في معيشته. [وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ المُسْرِفِينَ] {الأعراف:31}. [وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا إِنَّ المُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا] {الإسراء:27}.

فإذا اضطرت المسلم ظروف الحياة إلى الاستدانة كان عليه أن يعقد العزم على التعجيل بالوفاء والأداء فيكسب بذلك معونة الله وتأييده فقد روى البخاري وأحمد: (من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدَّى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله) فالدَّيْن يقصم الظهور، ويذلُّ أعناق الرجال، وهو همٌّ بالليل، ومذلَّة بالنهار...

وليس الدَّيْنُ خطراً على نفسية المستدين واطمئنانِه فحسب، بل هو خطر على أخلاقه وسلوكه كذلك، وهذا ما ينبه عليه الحديث النبوي الكريم الذي رواه البخاري أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم: (كان كثيراً ما يستعيذ بالله من المغرم فيقول: اللهم إني أعوذ بك من المأثم والمغرم) فقيل له: إنك تستعيذ من المغرم كثيراً يا رسول الله فقال: (إنَّ الرجل إذا غرم حدَّث فكذب ووعد فأخلف). وروى مسلم: (يغفر للشهيد كل شيء إلا الدَّيْن).

فإذا كان التاجر المسلم لا يلجأ إلى الدين المباح (دون فائدة) إلا نزولاً على حكم الضرورة وضغط الحاجة، فكيف إذا كان هذا الدين مشروطاً بالفوائد الربوية؟!.

وغير ذلك كثير من آداب وأحكام التجارة في الإسلام، والإسلام لا يريد أن يجعل التجارة عملية مادية ودنيوية فحسب، بل يريد أن يعمرها بالعنصر الأخلاقي والوازع الديني، فترتبط القيم الأخلاقية مع القيم الاقتصادية حتى لا تكون التجارة مجال ظُلم أو خيانة أو استغلال للناس، فإذا طبَّق التاجر المسلم هذه الأحكام كان ممن قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه الترمذي: (التاجر الصدوق الآمن مع النبيين والصديقين والشهداء).

وإن لم يطبقها بُعث يوم القيامة في زمرة الفجَّار، وإنَّ الفجَّار لفي جحيم.

روى الترمذي وابن حبان والحاكم: (خرج النبي صلى الله عليه وسلم يوماً إلى المصلى، فرأى الناس يتبايعون فقال: يا معشر التجار، فاستجابوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ورفعوا أعناقهم وأبصارهم إليه، فقال: (إنَّ التجار يُبعثون يوم القيامة فجَّاراً إلا من اتقى، وبرَّ، وصدق).

اللهم أغننا بحلالك عن حرامك وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عمن سواك. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

 وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم

 

الجمعة 19/ذي القعدة /1398هـ.

الموافق، 20/تشرين الأول /1978م.

 

نشرت 2011 وأعيد تنسيقها ونشرها 15/12/2021

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين