مراجعات في مسيرة العمل الإسلامي المعاصر ـ 15 ـ

 

الحركات الإسلامية والحكومات

أمام التحديات العالمية
د. موسى ابراهيم الإبراهيم
التمهيد:     مصطلحات أولية "الحركات الإسلامية والسياسة"
أولاً:         نشأة الحركات الإسلامية وتطورها.
ثانياً:        أهم إنجازات الحركات الإسلامية في النصف الثاني من القرن العشرين.
ثالثاُ:        أهم إخفاقات الحركات الإسلامية في النصف الثاني من القرن العشرين.
رابعاً:        أسس ومنطلقات
الأساس الأول: مبادئ عامة.
الأساس الثاني: الدور المطلوب من الحكومات.
الأساس الثالث: الدور المطلوب من الحركات الإسلامية.
 
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه أجمعين وبعد.
تصلح الأمة يوم يصلح أمراؤها وعلماؤها، وتفسد يوم يفسدون، وتلك مقولة يصدقها التاريخ والواقع، وكأنها معادلة سننية ثابتة ومستمرة.
ولقد ولدت الحركات الإسلامية – بالمصطلح الجديد المعاصر – بعد سقوط الخلافة الإسلامية لترشد الأمة وتجمعها، ولتكون قلبها النابض الذي يعبر عن تطلعاتها وآمالها، ولتكون طليعة الإصلاح والنهوض لبناء الصرح الحضاري للأمة الإسلامية.
وكان الأصل أن تتعاون تلك الحركات مع القادة السياسيين فيتفاعل الجميع في حمل أعباء الإصلاح والتغيير والبناء.
غير أنه وقعت الخصومة وبذر الشقاق أربابه، وتنكدت الأمة وشقيت لمدة نصف قرن أو يزيد جراء خصومات كان الكل فيها خاسراً في بعض الجوانب على الأقل.
واليوم ونحن في بدايات قرن جديد – الواحد والعشرون – وقد تألب علينا العالم كله، ورفعت في الساحة شعارات جديدة، العولمة والثورة الصناعية والمعلوماتية وثورة الاتصالات والفضائيات ... ، وكلها تريد استلاب حرية أمتنا وهويتها وشخصيتها الحضارية.
وأخطر تلك الصيحات ذلك الكيان الصهيوني الآثم الذي أضحى يهدد البشرية بفلسفاته ولوبياته وكيده ومكره وحقده.
ويدعمه نظام عالمي جديد أحادي القطب قد أعلن من جهته حرباً على العالم الإسلامي باسم محاربة الإرهاب، وسعياً في الحقيقة للسيطرة على خيرات هذه الأمة وثرواتها ومقدراتها.
في هذه الظروف، جدير بالمخلصين من هذه الأمة – وخاصة القيادات الفكرية والتربوية والسياسية – جدير بهم أن يتنادوا لإعادة النظر في مسيرتهم المتعثرة، وأن يقرؤوا الواقع قراءة جديدة بفقه وموضوعية لعلهم يصلون إلى ما ينقذ الأمة ويسعدها إن شاء الله.
 
مصطلحات أولية
التمهيد – الحركات الإسلامية والسياسة
الحركات: جمع حركة، وهي ضد السكون، وتوالي حروفها المتحركة تكسبها مزيداً من الحراك، وتبعدها عن الإخلاد إلى الأرض، وعن الارتماء في أحضان السكون.
الإسلامية: وتعني الانتماء إلى الإسلام، وياء النسبة فيها تؤكد عمق الانتماء وتجذره وأصالته، وهاء السكت تقطع الحديث عن أي انتماء آخر لغير الإسلام.
والسياسة: تعني الرعاية، وعليه فنحن أمام التحرك الإسلامي الراعي.
والإسلام: هو الرسالة الربانية الخالدة، والمنهج الرباني الذي يرعى الحياة والأحياء ويسعدهم جميعاً.
وهو بناء شامخ كامل متناسق لا يقبل التجزئة، ولا يسعد به من أخذ بعضه وترك بعضه، وكل من يحاول ذلك فإنه يساهم في تشويه الإسلام، ويعاني من الشقاء والحيرة والضياع.
والسياسة جزء من منهج الإسلام الشامل، من خلالها ترعى الحياة وتبنى ويتحضر الإنسان ويترقى، وهو تفاعل بين الشعوب وقادتها، شعوب تختار وتفرز روادها.
ورواد يقودون المسيرة ويتبصرون مصالح الأمة، وعنوان مسيرتهم الشورى مع المصطفين من الجماهير.
ووجهاء الأمة يدعمون المسيرة ويعدلونها ويقومون اعوجاجها بروح الحب والوفاء لمصلحة الأمة، وإن جار قائد وطغا وقف أهل الحل والعقد من خيار الأمة ووجهائها في وجهه حتى يعود لرشده.
وإن انحرف عن المنهج وتبنى ما يخل بثوابت الأمة وعقيدتها وجب على الأمة أن تتبنى التغيير واختيار البديل الذي يحقق للأمة هوتها وشخصيتها الربانية المتميزة.
ويتم التغيير بالوسائل المشروعة التي تحقق المصلحة العامة ولا تبددها، مع الحرص على الوصول إلى الهدف بأقرب الطرق وأقل التضحيات، وفق ضوابط الإسلام وتشريعاته.
تلك ملامح وإشارات عن الإسلام والسياسة فأين موقع الحركات الإسلامية اليوم في تلك المسيرة؟
أولاً ــ نشأة الحركات الإسلامية وتطورها
1 – النشأة والتطور
يوم كانت الخلافة الإسلامية قائمة، كان علماء الأمة هم رواد الإصلاح والتعديل والترشيد للخلفاء ولسائر الشعوب والجماهير الإسلامية على حد سواء.
وبعد أن سقطت الخلافة الإسلامية سنة 1924م ووقعت الأمة الإسلامية تحت سيطرة الاستعمار، ونالها حظ من التمزق والضعف الشديد، هنا بدأ ظهور الحركات والجماعات الإسلامية بمفهومها المعاصر.
وهي عبارة عن جماعات تبنت مشروع العمل للإسلام من خلال وضع أهداف وخطط وبرامج ووسائل محددة، وأقامت لنفسها هياكل إدارية ومؤسسات شورية وقيادات تنفيذية، وضبطت مسيرتها بأنظمة ولوائح داخلية، حرصاً منها على إيجاد كيان قوي منظم تلتف حوله، وتمارس شعائر الإسلام، وتقيم شرائعه أملاً في أن تساهم تلك الجماعات في إعادة كيان الأمة الإسلامة والخلافة الإسلامية التي قادت العالم الإسلامي لأكثر من ثلاثة عشر قرناً من الزمن وبشكل متواصل، وقد أصبح المسلمون بعد سقوط خلافتهم أشبه بجسد قطع رأسه.
هكذا كانت نشأة الحركات الإسلامية المعاصرة، وكان أبرزها حركة الإخوان المسلمون التي أسسها الإمام الشهيد حسن البنا رحمه الله في مصر ثم قدر لها الانتشار في كافة أرجاء العالم بعد ذلك.
ثم تبع تلك الحركة جماعات متعددة متفرعة عنها أو مستقلة، ولكل جماعة من تلك الجماعات اجتهاداتها ومنظورها الذي اختارته لخدمة الإسلام من خلاله.
وقد تلتقي تلك الاجتهادات أحياناً، وقد تتغاير وتختلف أحياناً أخرى، ولكل وجهة هو موليها، والجميع يستبقون الخيرات ففائز بأجر الاجتهادات، وآخر يضم إليه أجر الصواب في اجتهاده إن صحت النية وسلم القصد.
2 – الغرب يتدخل على الخط
وبمرور الزمن فهم الغرب أبعاد تلك الحركات الإسلامية، وما قد تحققه من إنجازات في نصرة الإسلام وإعادة كيانه للأمة الإسلامية وللعالم الإسلامي الذي أشغلهم قروناً طويلة قبل أن يثخنوه ويتمكنوا من قطع رأسه – الخلافة – منذ عهد قريب.
وبعد الدراسة والمكر والكيد الذي عرف به الغرب تجاه الإسلام والعالم الإسلامي، بعد ذلك قرر الغرب محاربة هذه الحركات الإسلامية التي تهدده آناً أو مستقبلاً بشكل أو بآخر.
وبدأ الكيد من خلال الوقيعة بين تلك الحركات الإسلامية وبين الحكومات في العالم الإسلامي والتي تعيش تحت سيطرة الغرب واستعماره وتمنحه ولاءها طائعة أو مكرهة.
وصور الغرب لتلك الحكومات أن الحركات الإسلامية هي الخطر الأكبر الذي يهدد مصيرها وبقاءها، وخصوصاً تلك الحركات التي فهمت الإسلام بمعناه الشامل عقيدة وعبادة، شعائر وشرائع، محراب وميدان، سيف ومصحف، دنيا وآخرة ...
3 – بداية الصراع بين الحركات الإسلامية وبعض الحكومات
لقد صدق بعض الحكام مقولات الغرب وسياساته وبدأت العداوة بين الأنظمة الحاكم التي يسندها الغرب المستعمر والحاكم الفعلي للبلاد الإسلامية يومها – من العشرينيات إلى الخمسينيات من القرن العشرين – وبين الحركات الإسلامية التي تسندها الشعوب المسلمة وتعلق عليها آمالها في تحقيق التحرير والخلاص من الاستعمار وهيمنته.
وجاءت مرحلة الاستقلال وخرج المستعمر من البلاد الإسلامية ولكن خلف وراءه أصدقاء لسياساته وثقافته كانوا أشد على شعوبهم أحياناً من المستعمرين.
وتفاعل بعض هؤلاء الحكام مع القضية لأبعد الحدود، فملئت السجون والمعتقلات بأبناء الحركة الإسلامية، وعلق الكثيرون من قياداتها على المشانق، وتعكرت حياة الأمة الإسلامية، وعانت الشعوب من بعض حكامها أشد ما عانته من الاستعمار قبل رحيله.
وأوجد هذا الجو المشحون بالغصص والآلام والمحن والفتن، أوجد جماعات إسلامية تبنت الغلو في الفهم، وأورثتها المحنة وإرهاب المعتقلات وكبت الحريات والمجاهرة بحرب الدين وأهله، أورثها جميع ذلك سياسة الانتقام من الجلادين انتصاراً للحرمات وللأعراض المسلمة التي أهينت أيما إهانة على أيدي أناس كان من المفروض أن يكونوا حماة الأمة وحراساً لكرامتها وعزتها وهويتها الحضارية المتميزة.
واستمرت هذه المرحلة تفاعل وتتصاعد وتشتد طوال النصف الثاني من القرن العشرين تقريباً، وما تزال تلقي بظلالها حتى يومنا هذا وفي كثير من البلاد الإسلامية.
وإذا كان لا بد من ذكر الجميل ل
أهله امتثالاً لقول الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم: " لا يشكر الله من لا يشكر الناس"، فإنني أسجل هنا أن بعض الحكومات كان لها مواقف مشرفة تجاه محنة الحركات الإسلامية التي نتحدث عنها هنا، فمن حكومات لم تتلوث أيديها بتلك الفتنة بل قدرت للحركة الإسلامية جهودها وتضحياتها وبلاءها في خدمة الأمة والوطن، ومنها حكومات فتحت صدرها وأرضها وآوت المشردين وأحسنت ضيافتهم وإكرامهم يوم محنتهم مع حكوماتهم، فجزى الله جميع من أحسن واستضاف وأكرم المظلومين والمضطهدين خيراً وأثابهم الله على ما قدموا ثواباً جزيلاً وجعل ذلك في ميزان حسناتهم وسداً في وجه كل أذى يراد بهم إن شاء الله.
4 – فشل الشعارات القومية والوطنية والعلمانية
هذا ومن جانب آخر فقد فشلت الشعارات القومية والوطنية والتقدمية واليسارية والعلمانية لتي رفعتها الحكومات العربية والإسلامية، مستوردة إياها من شرق الدنيا وغربها.
وكم وعدت تلك القيادات شعوبها بتحقيق أمانيها بالنصر على الكيان الصهيوني وتحرير فلسطين، وبتحقيق قدر عال من التنمية التي تعود على الشعوب بالرفاهية والأمن والاستقرار.
غير أن تلك الوعود باءت بالفشل الذريع، فلا هي حررت أرضًا ولا حققت لشعوبها رخاء ولا أمناً، بل إن تلك القيادات تخلت عن كثير من ثوابت الأمة حتى القومية والوطنية !! حيث استسلمت بعض القيادات للكيان الصهيوني وعقدت معه الاتفاقات التي أذلت الأمة ومرغت كرامتها في التراب(كامب ديفيد – أوسلو – مدريد... وغيرها)، وارتفعت الأصوات التي تتبنى سياسات أسموها بالسلام، وتبنى الكثيرون سياسة التطبيع مع الكيان الصهيوني، بل الهرولة في التطبيع، ورفعت أعلام ذلك الكيان فوق العديد من العواصم العربية، وفتحت السفارات فيها، كما فتحت للصهاينة الأسواق، وأنشئت الجمعيات التي تربي أطفال الأمة على ثقافة السلام مع يهود ولا حول ولا قوة إلا بالله.
5 – الكيان الصهيوني والدم الفلسطيني والتحديات الكبرى للأمة الإسلامية اليوم
ورغم كل ذلك ما زال الصهاينة في استكبارهم وغطرستهم، وما زال العالم وعلى رأسه أمريكا يدعمهم بكل ما يحفظ لهم التفوق والاستعلاء في المنطقة.
وفي هذه الأيام (محرم 1423هـ ، نيسان 2002م) وما بعدها، تدور المذابح في فلسطين، وتهدم المنازل فوق رؤوس أهلها في جنين وغيرها في الخليل وبيت لحم ورام الله ونابلس وغزة وسائر المدن والقرى الفلسطينية، وتصل وحشية شارون إلى ما تستحي منه الوحوش الكاسرة!! وبكل صلف غرور.
وفي هذه اللحظات يعلن راعي مسيرة السلام بوش أنه ما زال يثق بشارون وأنه رجل السلام!!
وما زال العالم يتفرج على المأساة، وتنتفض الشعوب الإسلامية وتتظاهر في كل مكان، وتقدم كل ما تستطيع لنصرة الأقصى وحراسه وأهله، وتطالب الشعوب المسلمة بفتح الحدود للجهاد والاستشهاد.
والحكام – العرب خصوصاً – في حيرة من أمرهم ماذا يفعلون، وماذا يمكن لهم أن يفعلوا؟؟ والاتفاقيات تقيدهم والمعاهدات تعوق مسيرتهم وتشل تفكيرهم !!!
فهل من مخرج؟ وهل مكن بارقة أمل تتنفس منها الأمة الإسلامية الصعداء؟؟ وأين العقلاء والمفكرون وقادة الإصلاح الحقيقيون الذين يولدون من رحم الأحداث الكبار، يشقون الطريق في غياهب الظلمات فيبددوها ويضيؤوا للأمة فجرها الجديد؟ أين هؤلاء؟ وهل من أمل؟

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين