حول أزمة الإيمان

للعلامة الشيخ محمد الغزالي

 
معرفة الله والخضوع له، والإعداد للقائه والرهب من عقابه، هي لباب الدين وروح شرائعه.
نعم؛ في تعاليم الدين، نُظم خُلُقية واجتماعية كثيرة، تتناول الحياة الخاصة والعامَّة من القاع إلى القمَّة.
لكن هذه التعاليم كلها بناء دعامته العقيدة، أو هي أعمال غايتها وجه الله، فإذا انهارت الدعامة، أو اختفت الغاية فقدت هذه النظم الخُلُقية والاجتماعية طابعها المميز، وقيمتها النفسية وصارت شيئاً آخر له قيمة أخرى. كما تفقد الأوراق الماليَّة قيمتها إذا فقدت رصيدها الذهبي.
الدين قبل كل شيء: (شعور بوجود الله سبحانه، واعتراف بحقِّه في حكم عباده، ووضع المبادئ التي ينطلقون منها، والحدود التي يَنْتهون إليها).
ومُقتضى هذا الشعور الباطن، والاعتراف الظاهر أن نفعل ما يوصينا الله به، لا على أنَّه خير فقط، بل على أنه (انقياد لله، وقيام بحقه... إلى جانب ما فيه من خير ذاتي)...
إنَّ الوجودي قد يرى الصدق فضيلة في المُعاملات التجارية وغيرها... ولكنه لا يَعبد الله حين يصدق مع غيره، فهو لا يعرف الله، ولا يؤمل فيما عنده!!.
أما المؤمن، فالصدق عنده طاعة لله الذي قال:[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ] {التوبة:119}.
فهو يصدق أولاً إيماناً بالله، ثم هو يرتفع بإيمانه هذا إلى فضيلة الصدق...
إنَّ الأعمال الصالحة كلها، نفسيَّة كانت أو اجتماعية عندما تكون جزءاً من تعاليم الدين، أو جزءاً من سُلوك المؤمنين، تأخذ طريقَها في الحياة مُقترنة بهذا اليقين السماوي، أو مُصطبغة بهذه الصبغة الإلهيَّة، فيكون الإيمان بالله هو الباعث على العمل، وتكون تقواه جلَّ شأنه إحساساً دائماً مصاحباً.
ونحن بهذا الكلام نلفت الأنظار إلى خطورة ما شاع من مسالك بشرية مجردة تجعل الناس يتواضعون على أعراف وتقاليد قد تكون حسنة أو لا تكون، ثم يرون في الوفاء لهذه الأعراض والتقاليد الخير والفضيلة.
مع أن صلتها بالإيمان مقطوعة، بل ربما لم يفكر صاحبها في الله لحظة...
وهذا الفريق من الناس قسم الدين قسمين: فما كان من عقائد وعبادات طرحه جانباً وازورَّ عنه.
وما كان من مُعاملات ونُظم احتفى به وروَّجه وأكثر من الحديث عن قيمته!!
وقد علمت أنَّ أي عمل أمرَ الله به، فإنَّما الجدوى من فعله ابتداءً طاعة الله والقيام بحقه. أما إتيانه دون نظر إلى وجه الله فلا قيمة له، وإن صلحت به إلى حين بعض شؤون الدنيا.
إن الإيمان بالله ليس نافلة قط في المجتمع المؤمن، إن تسبيحه وتحميده جل جلاله، يجب أن يكونا شغلاً للناس، وشارة لحياتهم بالغدو والآصال.
وقد يضحك البعض من الحديث عن الآخرة، والجنة والنار، ويظن ذلك كلاماً فات أوانه، أو كلاماً يتهامس به بعض الوعاظ في مواكب الموت.
والحق: أن الدين يذوب ويتلاشى يوم يكون الحديث عن الآخرة مجوناً أو لغواً.
إن قوافل الأحياء يجب أن تعي بلباقة وجد، أن عقيدة الجزاء الأخير ليست هزلاً، وأن البعد بنشاط الحياة عن الإيمان بالله واليوم الآخر، بعد عن الصراط المستقيم، وجري وراء سراب خداع...ونحن المسلمين يجب أن نشوب نشاطنا كله بمعالم هذا الدين الحق، وألا تجرفنا تيارات الحضارة المادية التي تسود الشرق والغرب، تلك الحضارة التي ذهلت عن الله، وتجاهلت وحيه، وآثرت أن تحيا وفق هواها، وأن تأخذ من دينه مالا يصادم هذه الأهواء... ثم تطرح جانباً أهم شعب الإيمان...
المعروف في دراستنا النظرية أن الدين عقائد وعبادات وأخلاق ومعاملات، وأن الصلة بالله هي القائد الأول لبقية الشرائع، وأن صحة هذه الصلة ضمان للنجاة وإن قلت حظوظ المرء من بقية التكاليف الشرعية...
ونريد أن نتوقف قليلاً لنناقش هذا التفكير، فلا نجور على أصل الإيمان، ولا نجور على مجموعة الأعمال المرتبطة به، والناشئة عنه.
من حق علمائنا الأقدمين أن يهدروا كل خير يصنعه الكافر، وأن ينوهوا بثقل كلمة التوحيد في ميزان الصالحات.
إن وجهة نظرهم واضحة فإن الذي يرتكب في عصرنا جريمة الخيانة العظمى، تعصف جريمته بكل خيرة له من قبل.
ويوم يقال: فلان خان وطنه وباعه للأعداء فلن ترى إلا الازدراء والمقت والإجماع على استحقاق أقسى العقاب.
ولو قيل: إن هذا الشقي كان براً بأمه، أو كريماً مع خدمه، أو لطيفاً مع أصدقائه، فإن هذه الخصال جميعاً تطوى في صمت، وتزم دونها الشفاه!! ولا تغني عن حكم الموت المادي والأدبي الذي يستحقه هذا الخائن.
والواقع أن سلفنا نظروا إلى الكافر بالله نظرة العصر الحاضر إلى الخائن لأمته، ورفضوا الاعتراف بأي خير يفعله، أو الإقرار بأي ميزة له.
والكافر ـ في نظرنا ـ أهل لهذا الهوان، والجاحد لوجود الله، الخائن لنعمته، المنكر للقائه، يرتكب بهذه الخلال أشنع جرائم الخيانة العظمى، وليس له ما يدفع عنه، مهما صنع: [وَمَنْ يُهِنِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ] {الحج:18}.
إلا أن هذه الحقيقة تولَّد عنها خطأ شائع، ألحقَ بالإيمان وأهله ضرراً بليغاً.
فقد فهم العامة أن حسن الصلة بالله ـ وهو فضيلة بيقين ـ قد يجبر النقص في بقية الواجبات المفروضة.
ثم تدرج هذا الفهم إلى أن هذه الواجبات يمكن أن تتلاشى ويغني الإيمان المجرد عنها.
وانضم إلى هذا الوضع أن الذين انحرفوا عن الإيمان الحق، ونسوا الله، أتقنوا طائفة من الأعمال الإنسانية، والفنون الحيوية وسبقوا بها سبقاً بعيداً.
وعندما قام في العالم هذا التناقض، اهتزت قضايا الدين، وتخاذلت صفوف المؤمنين وتجمعت في أرجاء الدنيا فتن عاصفة.
والأمر بحاجة إلى أولي الألباب يتداركونه بصدق الفهم، ولطف العلاج.
وعلينا معشر المؤمنين أن نصلح شأننا قبل أن نطالب غيرنا بتغير نفسه وفكره.
إن الإيمان أعظم الفضائل في هذا الوجود، وهو عنصر غال، ما دخل في شيء إلا زانه، ولا نزع في شيء إلا شانه...
بيد أن الإيمان الذي يستحق هذه النعوت له نواحي عديدة، فهو صلة بالله قائمة على الخشوع والإخبات، وهو صلة بالنفس قائمة على التأديب والضبط، وهو صلة بالمجتمع قائمة على العدل والرحمة، وهو صلة بالكون قائمة على السيادة والارتفاق.
ذلكم هو الإيمان الجدير بالإعظام وحسن المآب وهو إيمان غلاب منتصر لا يثبت الإلحاد أمامه في معركة ولا يقاس به في مفاضلة.
إنما يزري بالإيمان أن يكون علاقة مفتعلة برب العالمين لا تبعث على كمال ولا تصون عن نقص تداري هوانها بصور العبادات المفروضة، ولا تحقق في صاحبها ولا فيما حوله خلقاً عظيماً، أو سلوكاً ناضراً.
ومثل هذا الإيمان الصوري ـ وما أشيعه بين الناس ـ لا يرفع رأساً ولا يكسب نصراً.
وهل انتفخ الإلحاد، وتحركت وساوسه إلا في ميدان لقي فيه هذا الإيمان الزائف؟
وهل رفع رايته وفرض شارته إلا بين مؤمنين من هذا الطراز المهين...؟
إننا نرفض رفضاً باتاً أن تعيش الخليقة بغير دين يصلح بالها، ويزكي أحوالها، ونرفض كذلك أن تعيش الخليقة بدين تأوي إليه الخرافة وتنهزم فيه الخصائص الإنسانية العليا، وتتأخر في ظله الحياة الدنيا، وتذبل ملكات الابتكار والإبداع والتجمل!.
إن المعنيين بالتربية الدينية قد يسيئون إلى الإيمان حين يتصورونه منديلاً يمسح فيه الخطاءون عيوبهم، فهم يعثرون والإيمان يغفر، ويكسرون والإيمان يجبر.
وكثير من أتباع الأديان السماوية ظنوا التمسك بأصل الدين كافياً في النجاة مهما صنعوا.
وقالوا: [لَنْ يَدْخُلَ الجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ...] {البقرة:111}.
وقد فند القرآن الكريم هذه المزاعم، ورسم طريق النجاة الحقيقي، وهو مزيج من الإيمان الحي، والإحسان في العمل والإخلاص لله،:[ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ] {البقرة:112}.
وبعض الوعاظ قصار النظر قد يقعون على آثار دينية محدودة المعنى والمجال، فيسيئون فهمها وتطبيقها، ويتجاهلون بها جملة الكتاب والسنة، بل طبيعة الإيمان نفسه.
تلك الطبيعة التي تخلق من الموات حياة ومن الفوضى نظاماً.
خذ مثلاً، حديث البطاقة الذي رواه الترمذي عن عبد الله بن عمرو من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله تعالى سيخلص رجلاً من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة فينشر له تسعة وتسعون سجلاً، كل سجل مثل مد البصر، ثم يقول: أتنكر من هذا شيئاً ؟ أظلمك كتبتي الحافظون ؟ فيقول: لا يا رب. فيقول تعالى: بلى، إن لك عندنا حسنة، فإنه لا ظلم عليك اليوم، فيخرج بطاقة فيها أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، فيقول: يا رب، ما هذه البطاقة مع هذه السجلات! فقال: فإنك لا تظلم، فتوضع السجلات في كفة، والبطاقة في كفة فطاشت السجلات، وثقلت البطاقة، ولا يثقل مع اسم الله شيء)...
هذا حديث مثير الدلالة، وهو لو أخذ على ظاهره يضع عن الناس شتى التكاليف الإلهية ويبطل قوله تعالى: [ إِنَّ اللهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ المُفْسِدِينَ وَيُحِقُّ اللهُ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ المُجْرِمُونَ] {يونس:82}.
وعندي أن هذا الحديث ـ إن استقام سنده ـ إنما يصح في شخص مشرك، قضى حياته في الفساد، ثم آمن قبل أن يحين أجله بقليل، فلم يستطع بعد إسلامه أن يبقى مدة يصلح فيها ما مضى، والحديث بهذا ينوه بما لخاتمة الإيمان من قيمة، وما لتوحيد الله من منزلة.
أما إطلاق هذا الحديث وأشباهه بين العوام أم بين الناشئة دون وعي فهو هدم للدين كله، وهو الأساس لتكوين طوائف من المتدينين تحط من قدر الإيمان وأثره...
إن العالم اليوم فقير إلى الإيمان الذي يصله بربه صلة وفاء وبر، ويربطه بالحياة رباط إنتاج وجد، وإلا فالمستقبل حافل بالنذر.
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
المصدر:
الأزهر جمادى الأولى سنة 1384هـ الجزء الثالث.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين