حدث في الثامن والعشرين من رجب

في الثامن والعشرين من رجب من عام 665 توفي في القاهرة، عن 61 عاماً، القاضي تاج الدين عبد الوهاب بن خلف بن محمود بن بدر العَلاَمِيّ، المعروف بابن بنت الأعز، أحد قضاة الدولة المملوكية المشهود لهم بالفقه والعلم والورع والفضل. و العَلاَمِيُّ، نسبة إلى علامة: قبيلة من لخم.

ولد القاضي تاج الدين سنة 604، وكان والده عبد الوهاب عظيم القدر فِي الدين والورع والصيانة، من أسرة عريقة في العلم، وكانت جدته أم والده بنت أبي المنصور بن ظافر شيخ المالكية، ومات أبوه في سنة 612، فربى فِي حجر جَده لأمه فخر الدين مِقْدَام بن القاضي كمال الدين أحمد بن شُكر، وكان الجدُّ وزيرَ الملك العادل محمد بن أيوب، ويلقب بالقاضي الأعز، فعُرِفَ تاج الدين بابن بنت الأعز.
سار تاج الدين على درب والده وأجداده في طلب العلم، ولاحت عليه بشائر النجابة من صغره، وانتقل جده الصاحب الأعز ابن شكر إلى الإسكندرية، فذهب معه إليها وتعلم بِها المحاسبة وكتابة الدواوين فمهر فيها لفرط ذكائه، حتى كان يضرب بِه المثل فِي معرفته، وكان ذكياً قوي الحافظة، ثم تفرغ للدراسة فترة طويلة بمدرسة زين التجار في القاهرة، وصار معيداً بها، ويقال إنه لم تُعرف له صَبوة في أيام الدراسة، فقد كان الطلبة إِذا فرغوا من الاشتغال يتمازحون ويمزحون، وهو لا يخالطهم حتى كانوا إذا رأوه سكتوا عما هم فيه هيبة له، وأخذ عن فضلاء عصره الفقه والحديث والتفسيرحتى بلغ أشده في العلوم وأذن لَهُ مشايخه بالإفتاء والتدريس، ثم تولى إدارة المدرسة.
ولما مات والده رحمه الله تعالى ترك دنيا عريضة، فيقال إنه خلف 12.000 دينار عينا، فأنفقت والدته كل ذلك على نفسها ومن يلوذ بها من أهلها، ونشأ فلم يجد شيئاً من ذلك، فما شافهها فيه بكلمة، وكان باراً بها.
وممن درس عليهم الضياء ابن الوراق عبد الرحمن بن محمد، المولود سنة 546، والمتوفى سنة 616، وكان عالماً، صالحاً، حسن الأخلاق، تاركاً لما لا يعنيه، كتب بخطه كتباً كثيرة، قيل: إنها بلغت أربعمائة مجلدة. ودرس كذلك على عماد الدين ابن السُّكَّرِيّ الشافعي، عبد الرحمن بن محمد، المتوفى سنة 624 عن 71 عاماً. ودرس المنطق على القاضي أفضل الدين الخونجي المتوفى سنة 646 عن 56 عاماً، ودرس كذلك على الإمام العز بن عبد السلام، وكان يثق به ثقة تامة، كان يوماً في مجلس العز ابن عبد السلام، فجاءفُتيا للشيخ، فأمر تلميذه تاجَ الدين أن يكتب عليها بحضرته، فكتب واستحسن الشيخ العز بن عبد السلام ما كتبه تلميذه.
وأراد الملك الكامل رجلاً أميناً عاقلاً عارفاً بالحساب، فدلوه على تاج الدين، فولاه شهادة بيت المال، فجهد على أن يعفيه من ذلك فأبى عليه، وكان سبب ذلك أن الشريف شمس الدين الأرموي نقيب السادة الأشراف كان يلي تدريس المدرسة المذكورة، فأرسله الملك الكامل في رسالة إلى أحد الملوك، فاستناب القاضي تاج الدين في التدريس والنظر، فأحسن الخلافة عنه وعمَّر الوقف وقام بالوظيفة أحسن قيام، فلما عاد الشريف ووجد الأمر على ذلك، أنهاه إلى السلطان وشكره وأثنى عليه، فرسم السلطان الملك الكامل له بمباشرة شهادة بيت المال فباشر ذلك، وكان إذ ذاك على غاية الفاقة، وسلك طريقي الضبط والأمانة، وهذه الوظيفة هي أول مناصبه الديوانية، فاشتُهِرَ بحسن المباشرة والاحتراز، فتقدم في أيام الملك الصالح، وولى نظر بيت المال، ثم ولى نظر الدواوين بالديار المصرية في أيام الملك المعظم غياث الدين تورانشاه ابن الملك الصالح، بتقليد أصدرته شجرة الدر لخمس بقين من ذي القعدة سنة 647، وهذا بعض ما ورد في هذا التقليد(الخاتوني):
 
خرج الأمر العالي المولوي السلطاني الخاتوني الصالحي الجلالي العصمي الرحيمي، زاده الله شرفا ونفاذا، أن يجري في إقطاع المجلس السامي، القاضي الأجل، الصدر الكبير، الرئيس الفقيه، العلم الإمام، الفاضل الأوحد، العامل المرتضي، الكامل المجتني، المختار، تاج، الدين مجد الإسلام، بهاء الأنام، مجتبي الملوك السلاطين، فخر الرؤساء، علم العلماء، شرف الفقهاء، رضي أمير المؤمنين، عبد الوهاب بن خلف الناظر بالدواوين المعمورة، أدام الله رفعته ونعمته.
 
وكان توقيع شجرة الدر بين السطرين الأول والثاني بخطها رحمها الله: والدة خليل.
 
ثم ولى القاضي تاج الدين نظر بيت المال في سنة 651، ثم ولاه الملك الصالح أيوب نظر الدواوين، وهو منصب بمثابة رئيس الوزراء، ثم فوض إليه النظر ِفي التواقيع فوقع عنه، فصارت المراجعات تعرض عليه ويكتب بخطه ويجعلها فِي كيس، ويختم عليها، فلا يكتب السلطان على شيء منها، حتى يرى خطه.
 
ولما ولي القاضي تاج الدين الوزارة تبينت نباهته واستحضاره للأمور لا يكاد يخفى عليه شيء من الأمور المتعلقة بِه، أمر القاضي تاج الدين مرة بشراء دواب لنقل آلات العمارة فِي الأوقاف، فلما استغنوا عنها استأذنوه فِي بيعها بعد مدة طويلة فأذن، فأخبروه أنهم باعوا منها الشيء الفلاني بكذا، فقال: ربحنا فيها كذا، فكشفوا عن أصل الشراء منه، فوجدوه كما قال، وعمّر في أيامه الجامعَ العتيق بمصر - جامع عمرو بن العاص- ونمَّى أمواله وكافة أموال الأوقاف والأحباس.
 
وفي منتصف سنة 654 غضب الملك المعز أيبك على قاضيه بدر الدين السنجاري، فعزله وأراد تعيين القاضي تاج الدين مكانه، فتعلل فلم يقبل منه، فاشترط عدة شروط على السلطان أغلظ فيها، وقصد بكثرة الشروط أن يعفى من ولاية القضاء، فأجابه السلطان إلى قبول ما اشترط عليه رغبة فيه وثقة به. ومرسوم تعيين القاضي، ويسمى التقليد يعطي نموذجاً للمراسيم التي سادت في الحقبة المملوكية والتي زخرت بالسجع والألقاب الفخمة:
 
ارتِدنا لهذا المنصب الشريف من يرعاه ويصونه، وتجري على يده حياطته وتحصينه، ونظرنا فيمن يقع عليه سهم الاختيار، ويظهر جوهرَه الابتلاءُ والاختبار، فكان المجلس السامي القاضي الأجل، الإمام الصدر، الفقيه الكبير العالم العامل الفاضل، الأعز المرتضى، الورع الكامل المجتبي، الأشرف السعيد، تاج الدين جلال الإسلام، مفتي الأنام، شمس الشريعة، صدر العلماء، قاضي القضاة، سيد الحكام، خالصة أمير المؤمنين: عبد الوهاب بن القاضي الأجل، الفقيه العالم الأعز، أبي القاسم خلف، أدام الله تأييده وتمكينه، ورفعته وتمهيده، وقرن بالنجح قصوده، طُلبتَنا المنشودة، وإرادتنا المقصودة، لما جمع الله فيه من الخلال الفاخرة، والديانة الجامعة لخير الدنيا والآخرة، والعلم الذي أمسى به للهداة علما، وعلى أئمة وقته مقدما، فهو فقيه مصره، لا، بل فقيه عصره. وبكَّار زمانه علما وورعا، وسِوار وقته تقمصاً بالتقوى وتدرعا.
 
وإذ احتاج الحكام وولاة الأمور إلى وصايا يطال فيها ويطنب، ويبالغ في توكيدها ويسهب، وجدناه غنياً عن ذلك، بما سناه الله له ويسره، وخلقه من كماله وقدره، ومثله لا يُوصى، ولا يستوعب له القول ولا يستقصى، والله تعالى يرقيه إلى درجات الكرامة، ويجعل فيما فوض صلاح الخاصة والعامة.
 
وتولى القاضي تاج الدين أول ما تولى قضاءَ مصر العتيقة أٌفرِدت له عن القاهرة، واستمر بدر الدين السنجاري فِي قضاء القاهرة، وبعد ذلك بحوالي أسبوعين سأل الملك المعزُ أيبك واليَ مصر الأمير ركن الدين المَشْطوبي عن أحوال مصر فقال له: يا مولانا، مصر سعدت بالقاضي تاج الدين. فقال له: فالقاهرة؟ قال: فيها القاضي بدر الدين، فقال المعز: يضاف للقاضي تاج الدين جميع الأعمال. فكتب له تقليد عظيم بذلك. فسار في القضاء سيرة عظيمة شهيرة، فإنه بسط العدل، ورفع قدر الشرع، وتصرف تصرفات استحسنها كل من عرف بِها، وتفقد أحوال الشهود، واستفسر عن أحوالهم وأسقط جماعة وأذن لمن ارتضاه، وكان بطبعه مُهاباً، فازدادت هيبته مع الحِلم والعفو عمن يسيء إليه.
 
ولما تولى القضاء شدد على نواب القاضي الذين يسمون العدول وأسقط كثيرا منهم، وكان يكتب السجلات بإسقاط عدالة جماعة بعد جماعة، ويُشهِدُ على نفسه بما تضمنته، فقلق الناس لذلك، ولم تطل مدة ولايته هذه، فإنه بعد أشهر أعيد إلى الوزارة، ولما تولى الملك المظفر قطز عزله عن الوزارة والقضاء، إلى أن جاء الملك الظاهر بيبرس فولاه قضاء القضاة بجميع مصر في منتصف سنة 659، عوضا عن القاضي بدر الدين السنجاري.
 
 ثم تولى القاضي تاج الدين التدريس في مدرسة الملك الصالح التي بين القصرين، ذلك أنه لما دنت منية الشيخ عز الدين بن عبد السلام في سنة 660 أرسل إليه الملك الظاهر رحمه الله يسأله: من تختار أن يتولى مناصبك من أولادك؟ فقال رحمه الله مشيراً بتلميذه: ما في أولادي من يصلح لشيء من ذلك، وهذه المدرسة يصلح لتدريسها القاضي تاج الدين عبد الوهاب. ففوضت إليه بعده، ثم فوض إليه النظر العام على الأشراف والأوقاف والأحباس، ومشهد السيد الحسين، ومدرسة الإمام الشافعي، والخانكاه والمشاهد، وبجميع أعمال الديار المصرية في منتصف سنة 660.
 
وفي سنة 659 كان للقاضي تاج الدين دور هام في تنصيب خليفة عباسي بعد أن خلا هذا المنصب بسقوط بغداد في أيدي المغول ومقتل المستعصم، فقد قدم إلى مصر جماعة من العرب، ومعهم شخص أسود اللون، اسمه أحمد، زعموا أنه ابن الإمام الظاهر بالله، محمد ابن الإمام الناصر، وأنه خرج من دار الخلافة ببغداد لما اجتاحها المغول، فعقد الملك الظاهر بيبرس مجلساً حضر فيه جماعة من الأكابر، منهم الشيخ عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام، والقاضي تاج الدين، فشهد أولئك العرب أن هذا الشخص المذكور هو ابن الظاهر محمد ابن الإمام الناصر، فيكون عم المستعصم، وأقام القاضي جماعة من الشهود، اجتمعوا بأولئك العرب، وسمعوا شهاداتهم، ثم شهدوا بالنسب بحكم الاستفاضة، فأثبت القاضي تاج الدين نسب أحمد المذكور، وكان هو أول من بايعه، ثم السلطان ثم الشيخ عز الدين بن عبد السلام ثم الأمراء ورجال الدولة، وهذا الخليفة هو الثامن والثلاثون من خلفاء بني العباس، وكان منصب الخلافة قد شغر منذ ثلاث سنين ونصف.
 
واهتم الملك الظاهر بأمره، وزوده بآلات الخلافة، وجمع له عسكراً، وغرم على تجهيزه مبلغاً طائلاً قيل إنه ألف ألف دينار، وأراد الخليفة التوجه في جيشه إلى بغداد ليستولي عليها في ظنه، فتوجه معه الملك الظاهر إلى وتوجها إلى دمشق، ولما سار الخليفة بعسكره من دمشق، ركب الملك الظاهر وودعه ووصاه بالتأني في الأمور، ثم عاد الملك الظاهر إلى الديار المصرية، ووصلته كتب من الخليفة أنه قد استولى على عانة والحديثة، وولى عليهما، وأن كتب أهل العراق وصلت إليه يستحثونه على الوصول إليهم، ولكن المغول وصلوا إليه أن يصل إلى بغداد وقتلوه وغالب أصحابه، ونهبوا ما كان معه، وكانت مدة خلافته إلى أن قتل خمسة أشهر وعشرين يوما، وهو أقصر مدة من جميع خلفاء بني العباس.
 
وكان للقاضي تاج الدين أربع نواب من المذاهب الأربعة، واستنابهم بإذن السلطان له في ذلك توسعة على الناس فِي أحكامهم، ثم ولى الملك الظاهر في سنة 663 في كل مذهب من المذاهب الأربعة قاضياً مستقلاً بذاته، فصارت قضاة القضاة أربعة، فولى الشيخ صدر الدين سليمان الحنفي قاضي قضاة الحنفية بالديار المصرية، وولى القاضي شرف الدين عمر السبكي المالكي قاضي قضاة المالكية، وولى الشيخ شمس الدين محمد ابن الشيخ العماد الحنبلي قاضي القضاة الحنابلة، وفوض لكل واحد منهم أن يستنيب بالأعمال وغيرها، وخصَّ تاجَ الدين بمفرده بالنظر في جميع أموال الأيتام والمحاكمات المختصة ببيت المال في كافة الديار المصرية، وبهذا التغيير عاد المذهب الحنفي للقضاء بعد أكثر من ثلاثمئة سنة من إبطال الفاطميين للقضاة من سائر المذاهب، وإقامتهم قضاة الشيعة بمصر.
 
ولذلك قصة وهي أن خصومه والشاكين منه - وما أكثرهم لمن ولي الأحكام - ادعوا أن القاضي تاج الدين رحمه الله كان يتوقف في تنفيذ الأحكام التي لا توافق مذهبه، وكان الأمير جمال الدين أَيْدُغْدِي العزيزي يكره قاضي القضاة تاج الدين عبد الوهاب ابن بنت الأعز ويضع من قدره ويحط عليه عند السلطان، بسبب تشدده في الأحكام وتوقفه في القضايا التي لا توافقه، فاتفق جلوس السلطان بدار العدل فرفعت إليه بنات الملك الناصر قصة فيها أن ورثة الناصر اشتروا دار قاضي القضاة بدر الدين السنجاري في حياته، فلما مات ذكر ورثته إنها وقف، فعندما قرئت القصة أخذ الأمير أيدغدي يحط على الفقهاء وينقصهم، فقال السلطان للقاضي تاج الدين: يا قاض! هكذا تكون القضاة؟ فقال تاج الدين: يا مولانا! كل شاة معلقة بعرقوبها! قال: فكيف الحال في هذا؟ قال: إذا ثبت الوقف يعاد الثمن من الورثة، فقال السلطان: فإذا لم يكن مع الورثة شيء؟ قال القاضي: يرجع الوقف إلى أصله، ولا يستعاد الثمن. فغضب السلطان من ذلك، وما تم الكلام حتى تقدم رسول أمير المدينة النبوية وقال: يا مولانا السلطان، سألتُ هذا القاضي أن يسلم إليَّ مبلغ ريع الوقف الذي تحت يده، لينفقه صاحب المدينة في فقراء أهلها، فلم يفعل. فسأل السلطان القاضي عما قاله، فقال: نعم. قال السلطان: أنا أمرته بذلك فكيف رددت أمري؟ قال: يا مولانا هذا المال أنا متسلمه وهذا الرجل لا أعرفه، ولا يمكنني أن أسلمه لمن لا أعرفه، ولا يتسلمه إلا من أعرف إنه موثوق بدينه وأمانته، فإن كان السلطان يتسلمه مني أحضرته إليه. فقال السلطان: تنزعه من عنقك وتجعله في عنقي؟! قال: نعم. قال السلطان: لا تدفعه إلا لمن تختاره. ثم تقدم بعض الأمراء وقال: شهدت عند القاضي فلم تُسمَع شهادتي في ثبوت الملك وصحته، فسأل السلطان القاضي عن ذلك فقال: ما شهد أحد عندي حتى أثبته، فقال الأمير: إذا لم تسمع قولي فمن تريد؟ قال السلطان: لم لا سمعت قوله؟ فقال: لا حاجة في ذكر ذلك.
 
فحسّن الأمير أيدغدي للسلطان أن يكون نواب القاضي الثلاثة من غير مذهب القاضي نواباً عن السلطان، مع بقاء القاضي الكبير ونائبه، ويكون ذلك أعظم في حق السلطان. ففعل ذلك، وجعل لكل واحد منهم مجلساً في يوم معين بمصر، وشاركوا القاضي فِي استنابة النواب في البلاد، لكن اختص بديوان الأحباس، والنظر في الأموال على اختلاف جهاتها، وإثبات الوقفيات والورثة.
 
وكان القضاة مع ذلك يترددون إِليه ويعظمونه، ولا يتكلم في مجلس السلطان أحد غيره. ويذكر أن القاضي صدر الدين الحنفي، أول من أفرد بالحكم مستقلاً فِي هذه الكائنة، لما مات القاضي قال: والله لقد عدمناه ونقصت حرمتنا بموته، وكانت رياستنا قائمة بوجوده.
 
وقال القاضي تاج الدين: ما رأيت أعجب من القاضي المالكي، إِذَا وقعت له قضية يحضر عندي ويقول: وقعت واقعة كذا، والحكم فيها في مذهبي كذا، فلا أجيبه بكلمة، فيخرج من عندي ويحكم فيها، فإِذا عوتب بعد ذلك قال: ما حكمت حتى عرضت ذلك على القاضي تاج الدين.
 
وكان هو يقدِّرُ لهولاء القضاة مشاركتهم له في تحمل المسؤولية وأعباء الحكم بين الناس، حُكيَ أنه ركب وتوجه إلى القرافة، ودخل على الفقيه مفضل، وكلمه حتى تولى عنه قضاء الشرقية، فقيل له: تروح إلى شخص حتى توليه؟! فقال: لو لم يفعل، لقبَّلتُ رجله حتى يقْبل، فإنه يسد عني ثُلمة من جهنم.
 
وكان القاضي تاج الدين ابن بنت الأعز رحمه الله، كثير الاحتراز والتحفظ، وضبط هيبة الشرع، وإقامة الحرمة، وكف الأيادي العادية، والتطلع على جهات الأوقاف، وأخبار العدول، وغير ذلك مما هو متعلق بمنصب الشرع الشريف، وهو مع ذلك كثير الحلم قليل الغضب، وربما غلب عليه فيقهر نفسه بالسكوت، قليل المؤاخذة.
 
وكان القاضي تاج الدين إذا ظهر له الحق لا يحابي فيه صاحباً ولا أحداً من الأكابر، واشتُهِرت له قضايا في الحكم بالعدل وأخذ الحق من القوي، لا تأخذه في الله لومة لائم، ومنها أن تاجراً بمصر كان يقال له ابن الأخرم كانت له جارية جميلة فأحبها حباً شديداً حتى أنه أعتقها وتزوجها، ثم تقلبت به الأيام فأفلس وأحيط به وحبس وبيع موجوده، وكان من أكابر أمراء ذلك الوقت الأمير ركن الدين المَشْطوبي، وكان صديق القاضي، وهو أكبر من سعي له في ولاية قضاء القاهرة، فبلغ الأميرَ جمالُ تلك الجارية، فأراد شرائها من سيدها، فاعتذر له بعتقها، فما قبل منه وألزمه بيعها، فأشهد عليه بأنه باعها وانتقلت إلى عند الأمير، فأقامت عنده مدة، حتى ولدت له.
 
فلما ظهر قيام القاضي تاج الدين بالحق، وأنه لا يحابي فيه أحداً، حضر عنده التاجر وشكا إليه حاله، وادعى أن الأمير اغتصب منه امرأته، فطلب الأمير فأخرج العهدة ببيعها وأن التاجر أفلس فباعها، وأحضر التاجر البينة الشاهدة له بالعتق والتزويج، فقال له القاضي: لا يصح البيع فيها، فقال الأمير: أيها القاضي إنها قد وَلَدت مني! فلم يلتفت لقوله وألزمه بإِحضارها، وحكم عليه بتسليمها لزوجها، ولم يلتف إلى ما تقدم له من صداقة الأمير وتأييد ه له، وأنفذ حكم الشرع ولو بعد عدة سنين.
 
وكان حريصاً على نزاهة منصب القضاء وألا يستغله أحد من أهله وأولاده، وكان له أربعة أولاد نجباء، حتى كان أكبرهم يقاربه في المنزلة، ما سمع أحدٌ يقول في مدة ولايته، قال ابن القاضي ولا فعل ابن القاضي، حتى إن من لا يعرف أنهم أولاد القاضي يظنهم أجانب عنه.
 
وكان لبعض الأيتام القُصّر حصة في بستان، فيه نخل كثير، فاحتيج لبيعها، فلم يأتِ بثمن كبير، لأن شريكهم فيه كان معروفاً بصعوبة الأخلاق وشدة الوطأة، وقال أهل الخبرة: إن قُسِمَ البستان بلغت حصة اليتيم ضعفي الثمن المذكور، فأرسل القاضي من له خبرة، فكشف عنه، فعاد وأخبره أنه لا تتأتى فيه القسمة إلا عن تراض، فاستحضر القاضي الشريف، وألاَنَ له القول وباسطه، وكلّمه في ذلك وهو يتوقف، فزاد القاضي فِي التلطف معه إلى أن قال له: أنت نائبي. فسُرَّ بهذا الإطراء وقبل القسمة، ومضى مع الشهود حتى قسم البستان، وأفردت حصة اليتيم، فبيعت بأضعاف ثمنها، وكثر دعاء الناس للقاضي لعلمهم بشدة بأس ذلك الشريك وشدة لَدَدِهِ.
 
وكان القاضي تاج الدين من أثبت الناس جأشاً، لا يخلو من ورود أمر يُهِمُه، فلا يَتَضَعْضَعْ لشيء ولا يخضع، وكان له أسلوب في تثبيت مكانته وزرع هيبته في قلوب الأمراء والحاشية، قال الشيخ أبو عبد الله ابن النعمان: دخلت يوماً إلى القاضي تاج الدين فقلت له: أنت تكثر الركوب مع السلطان، والقاضي عز الدين ابن عبد السلام لا يركب معه! فقال: ما أركب معه إلا لأجل الأمراء. ليوهمهم قربه من السلطان.
 
وكان السلطان الظاهر بيبرس يظهر احتراماً كبيراً للقاضي تاج الدين، فقد حضر مرة إلى دار العدل في محاكمة في بئر بين يدي القاضي تاج الدين ابن بنت الأعز، فقام الناس سوى القاضي، فإن السلطان أشار إليه ألا يقوم، وجلس السلطان وغريمه بين يدي القاضي وتداعيا، وكان الحق بيد السلطان، وله بينة عادلة به، فانتزعت البئر من يد الغريم وهو أحد الأمراء.
 
وكان القاضي تاج الدين كذلك يظهر ترفعاً عن الوزير ويعتبر مرتبة القضاء أعلى من أي مرتبة، وكان الصاحب بهاء الدين وزير الملك الظاهر يضيق بذلك ويعظم عليه ذلك، ويقصد نكايته فلا يقدر على ذلك ولا يستطيعه ولا يجد عليه مطعناً، وكان الوزير بهاء الدين يتمنى أن يزوره القاضي تاج الدين في داره، فاتفق أن مرض الوزير وانقطع عن القلعة أياماً، وتردد إليه الناس لعيادته، ولم يعوده القاضي تاج الدين، فقال له أصحاب الوزير: يا مولانا، الصاحب بهاء الدين في شدة عظيمة، وهو منقطع، فلو عاده مولانا، فقال القاضي: إلى يوم الأربعاء.
 
وكان من عادة القاضي أن يتوجه إلى مصر في كل يوم أربعاء للحكم فيها بنفسه، فلما كان يوم الأربعاء وأراد التوجه إلى مصر، سلك طريقاً تمر على دار الوزير، فلما قرب من الباب أُخبِرَ الوزير بحضوره فقام من فراشه ونزل من الإيوان متلقياً له، فلما دخل القاضي وجد الوزير في أرض الدار قائماً، فقال: بلغنا أنك في شدة عظيمة، وأنت تقوم؟! سلامٌ عليكم. وعطف راجعاً ولم يزد على ذلك.
 
وأوقف الملك الظاهر بيبرس داراً على جهة من جهات البر، وجعل في كتاب الوقف النظر في الوقف للقاضي تاج الدين، فقال القاضي: يا مولانا السلطان، بصفتي قاضياً أم بصفتي الخاصة؟ فقال له الملك: أنت لا تروح من الحكم حتى أموت أنا أو تموت أنت. وكان كذلك، مات القاضي وهو في القضاء، وقد عجز كل كبير في الدولة عن إزالته.
 
وكانت نزاهته وتحريه للحلال في أمور معيشته تتسق مع مواقفه الصلبة في القضاء، ومن تحرّيه أنه أرسل بعض التجار ليشتري له خادماً بثلاثين ديناراً من اليمن، فأخذها واشترى بِها خادماً وأحضره، وكان بين القاضي والتاجر حساب، فحاسبه بِه بعد مدة، ونسي القاضي أن يذكر المبلغ الذي دفعه في ثمن الخادم، واستحيا التاجر أن يُذكِّره بِه، فلما انتهى الحساب، أخرج القاضي صرة فيها مئة وعشرة دنانير، فدفعها للتاجر وقال: هذه ثمن الخادم الذي أحضرته لي، فإنه ما وافقني، فبعته لك وهذا ثمنه. فعُدَّ هذا في عظيم أمانته، رحمه الله تعالى.
 
توفي رحمه الله سنة 665، وشهد جنازته الملك الظاهر، وتولى أولاده من بعده مناصب في القضاء، فكان ابنه صدر الدّين عمر قاضي الديار المصرية، وصار ابنه تقيّ الدّين عبد الرحمن قاضي القضاة وتولى الوزارة أيضاً، وصار ابنه علاء الدّين أحمد قاضياً في اليمن والشام.
 
قال القاضي نور الدين ابن الصائغ: كان رحمه الله حجة الله على قضاة عصره

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين