في أقرب فرصة

 د. محمد أيمن الجمال

بيان بشأن أحداث الثورة ورأي الشرع فيها
الحمد لله والصلاة والسلام على سيّدنا رسول الله، أمّا بعد:
فبعد أن امتثل الشعب الليبي ما أوصى به النبيُّ صلّى الله عليه وآله وسلّم من الصبر على جَوْرِ وليّ الأمرِ وإن جلد الظهر وأخذ المال، فتجافى عن فتنة الخروج عليه أكثر من أربعين عاماً صبر خلالها أكثر من الصبر الذي أمر به النبيُّ صلّى الله عليه وآله وسلّم؛خرجت مظاهراتٌ ليس فيها معنى المغالبَةِ ولا مصحوبةً باستعمال السلاح فلم يُمكن عدّها بغياً ولا خروجاً على وليّ الأمر، وهي مشروعةٌ لأنّها من إنكار المنكر والأمر بالمعروف، فواجهها القذافيُّ بالرصاصِ الحيِّ وأشعل الفتنة وخان ولاية الأمر باستباحةِ دماءٍ أوجَبَ اللهُ على الرعيّة طاعتَهُ ليحفظها.
وقيامًا بواجبِ العالمِ الناصحِ أفتى الدكتور الصادق الغريانيّ بوجوب التظاهر إنكاراً لظلم من بدأ بقتل المتظاهرين فاستجاب له كثيرٌ من أبناء الشعب. وخرجوا للتظاهر لا يحملون سلاحاً، لكن الظالم ازداد طغياناً وبغياً وإسكاتاً لكل إنكار، فوجب على الهيئة أن تُبيّنَ الحكمَ الشرعيّ في هذه النازلة:
أولاً: قمْعُ القذافيّ للمظاهرات بالقتل بغير حقّ يُعدُّ في نظرِ الشرعِ كبيرةً من أعظمِ الكبائرِ، وكذلك قصفُ المدن ومحاصرتُها بالدبابات والطائرات، وترويعُ أهلها بالمفخخات، يُعدُّ حِرَابةً ونقضًا لولاية الأمر، فتصيرُ طاعتُه في ذلك عونًا على قتل المسلمينَ وانتهاكِ حُرُماتهم.
ثانيًا: هذا القصفُ والقتلُ والحصارُ والترويعُ لا يجوزُ حتّى لو كان خروجُ الخارجينَ بغيًا على وليِّ أمرٍ شرعيٍّ؛ لأنّ قتال البُغاةِ لا يكونُ بمثلِ ما فعلَ القذافيُّ، فالواجبُ على وليِّ الأمرِ أن يسألَ الخارجينَ عن سببِ خروجِهم, وأن يدعوَهُم إلى الطاعةِ, فإن لم يعودوا قاتلهم. وليس له بعد ذلك أن يقاتلَهم بما يَعُمُّ إتلافُه وخطرُه وترويعُهُ الذّرّيّةَ والنساءَ من غير تفريقٍ بين الخارجينَ والقاعدينَ.
ثالثًا: تُصحّح الهيئةُ مفهوماً دَرَجَ عليه فريقٌ من الناس حسبوا أنَّ كلَّ خروجٍ على الحاكمِ بغيٌ وفتنةٌ. والصحيحُ أنّ الحاكمَ يُمكنُ أن يكونَ هو الباغي، وأنَّ الخارجَ عليه بحقٍّ يُمكنُ أن يكونَ هو العدلُ، ويمكنُ أن ينقلبَ القعودُ عن قتالِ الحاكمِ ليكونَ عينَ الفتنةِ.
وقد أُبطِلَ كلّ عذرٍ وانتفت كلّ شبهة حول حكمِ الخروجِ على القذافيّ بما فعله زبانيتُهُ من خطفِ النساءِ واغتصابهنّ في حالاتٍ تُعدّ بالمئاتِ، بل كشفَ هذا لكلِّ متردّدٍ أنَّ الفتنةَ كلَّ الفتنةِ في السكوتِ والقعودِ عن حجزِ كتائبِهِ عن غيّهم واعتدائهم على أعراضِ المؤمناتِ.
رابعًا: الاختلاف السابق في تكفير القذافي لا يُغيّر حكم الخروج عليه اليوم. لأنّ الشرع أوجب طاعة الحكام لرعايتهم مقاصدَ الشرع، فإذا أصبح الحاكم خطرًا على هذه المصالح، أضحت طاعته تُناقضُ مقاصد الشرع. ومع ذلك كلّه تهون المفاسد التي وقعت في ما سبق من حكمه في جوار ما يُقّدر ضرره إن استعاد القهر والغلبة؛ فنقطع لذلك بأنّ من أعظم المفاسد دوامَ حكمِه من غير تطويل وتدقيقٍ في ثبوت كفره أو انتفائِهِ.
خامسًا: تَدَرَّجَ حكمُ الخروج على القذافي من التحريم إلى الوجوب؛ لابتنائِه على الموزانة بين المفاسد والمصالح؛ فاختلف باختلاف رجحان إحدى الكفتين في حال دون حال. ولا ريب أنّ القتل والاستعانةَ بالمرتزقة
نزل بكفة مصالح خلعِهِ إلى قرارها وطاش بالأخرى، وألزم الرعيّة أن تجتمع على خلعه ودفع بغيه وعدوانه.
 
سادسًا: طاعةُ القذافيّ لم تثبت على الرعيّة ببيعةٍ شرعيّةٍ ولا استخلافٍ، وإنّما وجبت طاعتُهُ دفعاً لمفسدة تحقّقت بالقهر والغلبة. ومن المقرّر أنّ (الإمام َإِذا ثَبتت إمامتُه بالقهر وَالْغَلَبَة ثمَّ جَاءَ آخرُ فقهره انْعَزل وَصَارَ القاهر إِمَامًا)؛ فلمّـا فقد القذافيُّ غلبتَه في بعض البلاد فَقَدَ معها طاعتَه؛ فوجب أن يتخذ الناس ولياً تجتمع الكلمة عليه. وتحقّق هذا في المجلس الوطنيّ الانتقاليّ.
سابعًا: اكتسب المجلس الانتقاليّ الشرعيّة ببيعة أهل الحلّ والعقد من الْعلمَاء والوجوه وشيوخ القبائل. ولمّا أعلن أهل الحلّ والعقد عن تأسيس المجلس انتظمت الصفوف وأعلن الناس بمسيراتهم وجرائدهم وحواراتهم في الداخل والخارج عن الرضا العام، فاجتمعت به الكلمة وتصرفت شؤون الدولة حتى صارت منابذتُهُ شذوذاً ظاهراً يشق الصف ويفرح الباغي، وهذا أظهرُ وجهٍ يدلّ على الشرعيّة، وباكتسابه الشرعيّةَ وَجَبَ على الناس طاعتُه ونصرتُه على البغاة والمحاربين. وهذه الشرعيّة مقيدةٌ بالشروط التي نصَّ عليها المجلسُ في تأسيسه.
وتوضّح الهيئةُ أنّ اعترافها بشرعيّة المجلس إنّما يعني اعترافها بما يجب على الرعيّة من طاعة وليّ الأمر بالمعروف، ولا يعني شهادةً لكلِّ تَصَرَّفٍ من تصرفات المجلس بموافقة الشرع.
ثامنًا: تدعو الهيئة جميعَ الليبيين إلى الانشقاق عن القذافي وتعدُّ ذلك واجباً شرعياً وَتَعُدُّ طاعتَه كبيرةً وركونًا إلى الظالمين. وتخصّ بهذه الدعوة من يقاتلُ بهم القذافيّ إخوتَهم في الدين والوطن، وتذكِّرهم أن من قُتل دون ماله وعرضه احتسبناه في الشهداء وكذلك من قُتل لامتناعه عن قتل المسلمين ممّن هو في صفّ الباغي المعتدي. أمّا من قُتل من جنوده وهو مقبلٌ إلى قتل إخوانه وانتهاك حرماتهم فهو الخُسران المبين.
وفي نفس الوقت تُحَرِّج الهيئة على المقاتلين في صفوف الثوار قَتْلَ الأسرى وإساءةَ معاملتهم.
تاسعًا: تنصح الهيئة كلّ بعيد عن الأحداث من طلاب العلم أن لا يتعجّل في الكلام على اختلاف العلماء في الخروج على ولي الأمر. فالخلاف في هذه المسألة يبني على الموازنة بين المصالح والمفاسد وهي تحتاج مع معرفة الأدلّة، والاطّلاع على التاريخ والمآلات، إلى معاينة الواقع بتفاصيله التي تخفى على البعيد.
وقد لاحظت الهيئةُ أنّ القذافيّ يستغلُّ فتاوى بعض العلماء ويبرر بها جرائمَه ويُضلّل بها أنصارَهُ. وفي واقعنا أطرافٌ مبتورةٌ وأيتامٌ مقهورةٌ وأعراضٌ مُغتصبةٌ. وقد كان المفتون في ما هو أقلّ من ذلك حملاً يتدافعون الفتيا ويود كل واحد منهم لو أن أخاه كفاه.
وتُذكّر الهيئة كلّ ناصحٍ أنّ واجب النصح يجب أن لا يخلو من تذكيرٍ وإنكارٍ على إسراف الطاغية في مواجهة شعبه فحتى لو كان الشعب باغيًا على إمام العدل لم يكن للإمام أن يُسلط عليهم جندا فاسقين ينتهكون الأعراض ويقتلون العزّل الأبرياء.
أخيراً: تتبنى الهيئة البيانات التي تخصّ الثورة الليبيّة التي صدرت عن الشيخ الدكتور الصادق الغرياني وتُثنِي على بيانِ رابطةِ العملِ الإسلاميِّ في ليبيا. وتُثمّنُ بيانات الأزهر والاتحاد العالميّ لعلماءِ المسلمين.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين