وصية عمر بن الخطاب لجنوده - من وصايا عمر
وصية عمر بن الخطاب لجنوده الفاتحين
بقلم فضيلة الشيخ: صالح الفرفور
لقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، يتعهّد الجنود والقوّاد بوصايا يرسلها لهم فتكون خير ذخرٍ وعدة.
رأى أنَّ العرب قد فتحوا بلاد فارس والروم، وهم ينشرون الإسلام ، ويحملون لواء الدعوة إليه، فخاف عليهم أن تميل نفوسهم عن التقشُّف والبذاذة إلى التَّرف والراحة، فيتخلَّقوا بأخلاق الأعاجم وعاداتهم، ويلبسوا ثيابهم فيصبحوا مثلهم ، فالشعوب يظهر ضعفُها بتقليدها غيرها من الأمم، فتكون تبعاً لتلك الأمم بأزيائها وعاداتها ولغتها، فتذوب شخصيتها في من تُقلِّدهم، حتى تنمحي حضارتها تَبَعاً لذوبان شخصيتها في بوْتقة التقليد.
فأراد عمر رضي الله عنه أن يُحافظ العربُ المسلمون على عاداتهم العربية التي نشؤوا عليها في بلادهم وزكَّاها الإسلام، وهي لعَمْرُ الحقِّ ينبوع القوة الصحيحة وعنوان النصر، فأرسلها مجموعة في بضعة أسطر يأمر فيها بما يلائم الجند من عادات العرب وأخلاق المسلمين، فقال:
" أما بعد: فاتَّزروا وارتدوا وانتعلوا، ألقوا الخفاف وألقوا السراويلات، وعليكم بثياب أبيكم إسماعيل، وإيَّاكم وزيَّ التنعُّم وزيَّ العجم، وعليكم بالشمس فإنها حمام العرب، وتَمَعْددوا واخْشَوْشنوا واخْلَوْلقوا، واقطعوا الركب، وانْزوا على الخيل نَزْواً، وارتموا الأغراض".
هذه هي الوصية الجامعة التي أرسلها أمير المؤمنين عمر رضوان الله عليه إلى أمراء الأجناد يأمرهم بها ويخاف عليهم إن تركوها أن تضعف قواهم الحِسّية والمعنويَّة أمام أعدائهم.
ففي قوله: " فاتَّزروا" أمرهم بلبس الإزار والرداء والنعال وهي لباس العرب، ونهاهم عن لبس الفاخر من السراويلات المُزركشة والخفاف الرفيعة كما تفعل الأعاجم، فإنَّ في هذا اللباس الإسلامي بُعداً عن الترف والتنعُّم والرفاهية التي تُكسب المرءَ الأنوثة والميوعة والخنوثة والكسل، وتجعله خوّاراً عند الشدائد.
كما نهاهم عن التشبُّه بالأعاجم في كلِّ شيء ليبقى مظهرهم إسلامياًَ عربياً بدوياً، فلا تزل أقدامهم بالتقليد الأعمى، فالمسلم ذو شخصية إسلامية مستقلة رفيعة يعتز بها، فإنه إنْ نسيها ضاعت منه أكبر القوى المعنوية المُرْهبة لنفوس الأعداء، فالتقليد الأعمى للغير ولاسيما للعدو في الزيِّ والعادات وأنماط العيش، يجعل من المسلمين تابعين لا متبوعين، يَرَوْنَ كلَّ خير اتِّباع هؤلاء الأعداء، فينهاروا وينماثوا كما ينماث الملح في الماء.
وكذلك العدوُّ إن رآك تتبُعُ وتقلده، احتقرك واستصغر شأنك وخفت في نفسه هيبتك، فخسرت بذلك أعظم سلاحٍ في يدك يوم فقدت ذاتك وشخصيتك.
وأمرهم رضي الله عنه أيضاً بلبس النعال القويَّة المتينة وترك الخفاف الرفيعة الخفيفة، ليصلب عودهم على المشي، وتقوى أرجلُهم على الجهاد في الحرب والتجلاد.
وكذلك أمرهم أن يتعرَّضوا للشمس ما أمكنهم لتقوى أجسامهم وتصحَّ أبدانهم، فإن الشمس مُطهِّرةٌ لكثير من الأمراض، لاسيما وقد طرقوا بلاداً ليس مناخها كمناخ صحاريهم، فخاف عليهم من رطوبات السّواد وأمراضه،فضلاً عن جوٍّ لم يألفوه وطعامٍ لم يتعودوه وهواء منخفضٍ لم يعرفوه.
وأمرهم رضوان الله عليه كذلك بأن يلزموا عادة جدّهم معد بن عدنان في فروسيته وفعاله وأخلاقه، فقال:" تمعددوا واخشوشنوا" أي : تعوّدوا الخشونة في لباسكم وعاداتكم ، لتقوى أجسامكم على الحروب فتتحمل الجهد والتعب والحرَّ عند ملاقاة الأعداء ، أما الناعم المرفّه فيذوب كما يذوب الملح في الماء، فليس لديه من القوة ما يساعده على الثبات والصبر على المكاره.
وطلب منهم أن يَخْلَولقوا، أي: أن يكونوا دائماً على استعداد للحرب متهيئين لها، فلا يضيعوا قوتهم وفروسيتهم بالفراغ الذي لا يُجْدي نفعاً، بل يكونوا على أُهبة الجهاد في كلِّ وقتٍٍٍ تدور فيه رحى الحرب.
وقال لهم:"اقطعوا الركب" أي: اقطعوا الركائب من على ظهور الخيل، " وانزوا على ظهورها" أي: اقفزوا قفزاً على ظهور خيولكم من غير أن تضعوا أرجلكم على ركائبها فيمتطوها من غير ركائب، فقد يحتاجون يوماً إلى الركوب السريع، فيكونون قادرين على القفز عليها وكَبْح جماحها شأن الأقوياء الشجعان ومَهَرة الفرسان، فإن رآهم أعداؤهم يثبون على الخيل من غير استعانةٍ بالركائب هابوهم وفزعوا من نشاطهم وقوتهم.
وقال لهم: " وارتموا الأغراض" أي: ارموا الأهداف، وأصيبوا المرمى، ومرِّنوا أنفسكم على إصابة الهدف لينفعكم عند الحرب والقتال، فتنالوا من عدوِّكم ما تريدون ، وهذا الطلب من الجيش الرميَ هو المقصود اليوم من التمرين على الرماية في الجندية، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحثُّ على الرماية وركوب الخيل ، فقد ورد عنه في حديث :" فَمَنْ لَمْ يَرْمِ فليس منا"[مسلم:1919]. وكذلك ورد عنه: " رمياً بني إسماعيل فإن أباكم كان رامياً"[ البخاري:2899]، وقال لسعد بن أبي وقاص :" ارم سعد فأنت بأبي وأمي"[البخاري:2905، ومسلم:2411].
وقلت في ذلك من قصيدة:
فرمياً بني إسماعيل إنَّ أباكمُ          لقد كان يوم النقع أليس راميا
فرمياً فمن لم يرمِ ليس بمفلح         إذا اشتجرت بين الخميس العواليا
وبعد: فهذه وصيَّة سيدنا عمر للجنود ، شأنه بها أن يبعث في قلوبهم روح القوة والرجولة والفروسيَّة، وكان أخوف ما يخافه عليهم التنعُّم والرفاهيَّة التي تبعث بالنفس التخنُّث والتأنُّث والخور، فتستكين نفوسهم إلى الدَّعَة والراحة، فلا يستطيعون حينئذٍ أن يقوموا بواجب الدعوة أو يؤدُّوا الرسالة التي كُلِّفوا بها إذا حَمِيَ الوطيس.
ولقد استجاب جندُ عمر رضي الله عنه وعنهم لوصيَّته، وعملوا بحذافيرها، فزادهم الله قوةً إلى قوتهم، وعِزاً إلى عزِّهم، فانطلقوا ينشرون:{ لا إله إلا الله} في أقطار الأرض، ويقمعون من يقف أمامها، وقد فتح الله عليهم الدنيا، ووفقهم لما يريدون، وكذلك يجب أن تكون وصايا الملوك والأمراء إلى جنودهم ، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.

 من رشحات الخلود،ص96.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين