تاريخ المسلمين في البرازيل ـ 2 ـ

 
الشيخ خالد رزق تقي الدين
الثورة الإسلامية في باهيا البرازيلية

 هذه حلقة مهمَّة من تاريخ المسلمين فيالبرازيل، أشعر بالألَم والحزن كلمَّا تعمَّقت في البحث ولَمَست ما تحمَّلهوعاناه إخوانٌ لنا في هذه الأراضي البعيدة؛ من أجْل الحفاظ على دينهم،ولَم يكن لهم من نصيرٍ إلاَّ الله، ولَم تكن لديهم وسائل اتِّصال لتشرحوتَصِف ما عانوه من ظُلم وقتْل وتشريد، وإرغامٍ على اعتناق دين ليس دينهم،واتِّباع عادات ليستْ من عاداتهم، وكلُّ مَن عرَف بعض ما عاناه هؤلاءالمسلمون، أُصيب بالحزن والأسى مثلي!
 يذكر الشيخ عبدالرحمن البغدادي  في مخطوطته "مسلية الغريب": "وكم مرة سألتهم عن سببِ هذا التستُّر الشديد؛ أي: ممارسة شعائر الدين فيالسرِّ، مع أن الدول أطْلَقت من الحرية لكلِّ شخصٍ ما يريد، فأَخْبرُونيبأنَّ حربًا وقَعتْ بينهم؛ أي: المسلمين الأفارقة، وبين الخرستيان، وحاوَلالسودان أن يَملكوا منهم البلدان وكانت النُّصرة للنصارى، وكلما رأيتالإسلام فيما ذكَرته من التغطيس - التعميد الإجباري - والدفن في مقابرالنصارى، والاكتتام - ممارسة شعائر الإسلام في السرِّ - تَهطل من عيونيالدموع السجام، وأتأسَّف على بلاد الإسلام، وأتذكَّر وطني وبُعْد المسافة،ولا أجد لي حُرًّا أرْتجي إسعافه، سيَّما في بلدة عُدِم بها النصير، وجارَبها الحقير، ودقَّت النواقيس، وكَثُرت وساوس إبليس" .
 
إنَّ هذا البحث وغيره من الأبحاث المتصلةبه يجب أن تَنال اهتمامَ المؤسَّسات التي تُعنى بتاريخ المسلمين والجالياتالإسلاميَّة، وأن تُرفَع إلى المستويات السياسية في بلاد الإسلام؛ لمطالبةالبلاد التي استعمرَت البرازيل بالاعتذار عن هذه الحقبة التاريخيَّة، والتيتعامَلت فيها مع البشر بشكلٍ همجي، لا يمتُّ للإنسانيَّة بصِلة، وكذلك يجبأن تعتذر الجِهات الدينيَّة التي قامَت بعملية إرغام  هؤلاء العبيد؛ليتحوَّلوا عن دينهم، إنها صفحات حزينة لتاريخ المسلمين في البرازيل.
 
تناوَلت في الحلقة الأولى من تاريخالمسلمين في البرازيل استعراضًا للأقوال التاريخيَّة التي توضِّح - وبما لايَدَع مجالاً للشكِّ - أنَّ التواصُل بين المسلمين والبرازيل قديم جدًّا،وتَمَّ التأكيد على أنَّ العبيد الذين جَلَبهم البرتغاليون للعمل علىاستصلاح أراضي البرازيل وزراعتها، كان أغلبُهم من المسلمين.
 
صفات العبيد المسلمين وفضلهم على البرازيل:
الواضحمن الدراسات التاريخيَّة أنَّ العبيد المسلمين الذين تَمَّ جلْبُهم منإفريقيا، كانوا على قدر واسعٍ من العلم والثقافة والتقدُّم الحضاري، فكانوايلقبونهم بـ"المعلمين"؛ نظرًا لتفوُّقهم وسَعة اطِّلاعهم وثقافتهم مُقارنة بالبرتغاليين، فلقد كانوا يُجيدون القراءة والكتابة باللغة العربية.
 
"إنَّ الدراسات الإستوريوغرافيَّة حولالبرازيل تربط وصولَ الإسلام إلى هذا البلد بتجارة الرقيق، وهي تجمع فيتحليلاتها للإثنيَّات الزنجيَّة المسلمة في البرازيل، على أنَّ الأمرَيتعلَّق بمجموعات بشريَّة ذات مستوى ثقافي لا بأْس به، كانتْ تعرف القراءةوالكتابة، ولَم تختلط ببقيَّة الرقيق ذَوِي الأصول الإفريقيَّة، تزعَّمتأهمَّ التمرُّدات الزنجيَّة التي عرَفتها البرازيل، وتَصِف هذه الدراساتالإسلام بالديانة التي تَبعث على عزَّة النفس، وتُقاوم كل محاولات التمسيح،كما تَصِف الزنوج الذين يدينون بها في البرازيل بأُناس متشامخين ثائرين،لهم عزَّة نفس".
 
وعملية التواصُل والتخاطب بين السادةكانتْ تتمُّ عن طريق العبيد المسلمين، "الأسياد الأُميُّون كانوا يتخاطبونمن خلال عبيدهم الزنوج؛ يكتب العبد المسلم رسالة السيد الأُمي إلى زميلهالسيد الآخر الذي يقرأ له الرسالة عبدُه المسلم المتعلِّم".
 
يقول الدكتور شاكر مصطفى: "ولكن إفريقيا قدمَت إليها أيضًا "للبرازيل" مُعَلِّمين للمدارس، كما قدمت وهو الأهمُّ شيوخًا مسلمين".
 
"جاؤوا مُؤدِّبين ووُعَّاظًا، وأئمة صلاة،ومعلِّمي دينٍ، وكانوا في معظمهم من ممالك البورنو وسوكوتو وغاندو، ذواتالتنظيم السياسي المتقدِّم، والأدب الديني الإسلامي الكامل، ولهممؤلَّفاتهم المحليَّة باللغة العربيَّة، وفنُّهم القوي الأصيل الذي لايُقارَن بتفاهات البرتغاليين".
 
"كان الماليز يتمتَّعون بمستوًى ثقافيٍّعالٍ إذا ما قُورِن بمستوى البرازيليين، وكانوا قادرين على القراءةوالكتابة باللغة العربية".
 
"في باهيا كانوا قادِرين على أن يكتبوا العربيَّة بمهارة، وكانوا أعلى ثقافةً من أسيادهم بكثير".
 
أمَّا بالنسبة للمجموعات المسلمة التيتَمَّ اختطافها من غرب إفريقيا، فقد كانتْ أسْمى في التعبير الفني، وفيالتعليم وفي قصائد الشعر، وفي نوع الحياة وتنظيمها، وفي أساليب الزراعةوالتجارة والقتال.
 
وأمَّا أولئك الذين تَمَّ اختطافُهم منالسهوب الشرقيَّة المسلمة في معظمها، وكلها مناطق إسلاميَّة متقدِّمةالحضارة، بسبب اتِّصالها الدائم بالشمال الإفريقي وبمصر ، فقد أكَّدالدكتور مايكل جوميز  أنَّ "هؤلاء العبيد كان يوكَل لهم مهامُ فنيَّة، مثل: الحلاقة، أو البناء، أو النجارة، أو الرسم، أو النحت على الخشب، وبعد فترةحدَث نوعٌ من الاتفاق مع مُلاَّكهم، فكانوا يحصلون على جزءٍ من أجورهممقابل ترْك حريَّة لهم في العمل وإعالة أنفسهم"، وأضاف: "كان بعض العبيدمِن طوائف ومراتب اجتماعيَّة مرموقة، فقد كان مِن  بينهم أُمراء وجُنود،ومعلِّمون وعلماء، تَمَّ أسْرهم وترحيلهم كعبيدٍ إلى بلاد مسيحية غربيَّة".
 
وقد كان لهؤلاء العبيد الفضْل في اكتشافالذهب والأَلْماس؛ "لقد أصرَّ البُرتغاليون أن يستعبدوا الأفارقة؛ لأنهمالأقدر على اكتشاف مناجم الذهب البرازيلية"، وقد تَمَّ اكتشاف المناجم 1720م.
 
"لقد استطاع الأفارقة أن يُنَقبوا عن الذهب البرازيلي حتى في الأنهار والجداول، وذلك تحت إمرة البرتغاليين".
 
يقول جيلبيرتو فريري : "كانوا يشكلونعنصرًا نشيطًا مبدعًا، ويُمكن أن نقول: إنه نبيلٌ في استعمار البرازيل لايخفض من مكانته، إلاَّ أنهم يُعتبرون رقيقًا! ما كانوا حيوانات جَرٍّ أوعُمَّال زراعة، ولكنَّهم مارَسوا دورًا حضاريًّا بارزًا، كانوا اليد اليمنىفي التكوين الزراعي، بينما كان الهنود وبعض البرتغاليين اليد اليسرى.
 
البرازيل تدين لهم على الأقل بقصب السكروالقهوة التي جلَبَوها، والتبغ والقطن والحبوب، حتى الأدوات الزراعيةالحديديَّة كلها إفريقيَّة، وقد طوَّرها الزنوج أنفسهم، والخلاسيونالمولَّدون منهم حسب حاجات البلاد، ليس هذا فحسب، بل إن التعدين في البرازيل واستخراج الحديد قد أُخِذا عن هؤلاء الإفريقيين، كانتْ وسائلهم التقنية في ذلك أكثرَ تقدُّمًا من وسائل الهنود، ومِن وسائل الأوروبيين أيضًا، ويُمكن أن نُضيف تأثيرًا ثالثًا أيضًا لهم هو الطَّهي، فلقد اغْتَنىوارتَقى بالإسهام الإفريقي، ونُضيف أثرًا رابعًا هو رعْي الماشية، إنها فيماتو غروسو من أصل إفريقي قامَت على أكتاف الزنوج" .
 
ولقد "كان تأثير هؤلاء الزنوج أصيلاًخلاَّقًا، طوَّر المجتمع الذي كان على طريق التكون في البرازيل بعناصر ذاتقيمة من الحضارة الإفريقيَّة وتقنياتها المتقدِّمة يومذاك لا على حضارةالبرازيل، ولكن على حضارة الولايات المتَّحدة أيضًا".
 
"لقد أقرَّ البرتغاليون أنفسهم بأنه لولاالعبيد الأفارقة ما استطاعوا أن يَجنوا ثمرة واحدةً من البرازيل، ومااستطاعوا أن يفعلوا ما فعلوه"، "رسَّخوا أقدامهم في البرازيل، وباتَ وجودهموكَثرة أعدادهم أمرًا لافتًا للانتباه، ومن هنا لَم يستطع أحدٌ أن يُنكرعليهم وجودهم الفعَّال، وفي القرن السادس عشر الميلادي توقَّع البُرتغاليونللأفارقة أن يَصبحوا بعد أربعة قرون الركيزة الأساسيَّة للاقتصادالبرازيلي".
 دور علماء المسلمين الأفارقة:
لقدكان للعلماء والمشايخ في إفريقيا دور بارزٌ وتضحية تُكتب لهم في ميزانأعمالهم يوم القيامة، كانوا يقعون في الأَسْر مُختارِين؛ حتى يقوموابمرافقة هؤلاء العبيد في طريقهم للأرض المجهولة، كان هدفهم واضحًا فيالحفاظ على إسلامهم، وتقوية عزائمهم، وتعليمهم شعائرَ الدِّين، وعدم ترْكهمعُرضة لمصير مجهول لا يعلمه إلا الله!
 
شاهَد العلماء كيف كانتْ تتمُّ عملية غسْلعقول العبيد، وتغيير أسمائهم قبل شحْنهم في السفن، وشاهَدوا عملية التعميدالجماعيَّة التي كانتْ تُقام لهم لدى وصولهم البرازيل، وكانتْ وصيَّتهمللمسلمين بالصبر والثبات، وبدأ هؤلاء العلماء رحلة طويلة وشاقَّة؛ لتعليمالعبيد شعائرَ الإسلام والمحافظة على دينهم، دون شعور من الأسياد، ونجحَتهذه العمليَّة التربويَّة في الحفاظ على العقيدة الإسلاميَّة لدى العبيد،وأن تكون حافزًا للكثير من الثورات التي تَمَّت بعد ذلك.
 
"كانوا يلحقون بالعبيد متطوعين؛ لإرشادهمإلى الدين، وينزلون معهم في الأكواخ، ويُلَقِّنونهم القرآن والكتابة،ومبادئ الشريعة، كانوا يحبسون أنفسهم معهم، وفي إطار عبوديَّتهم؛ ليستنقذواالبقيَّة الباقية من تمسُّكهم بالدِّين في الظروف الوحشيَّة التييعيشونها".
 
يذكر الدكتور علي الكتاني: "وصادَف أن كان من بين هؤلاء علماء في الدين، فنَجَحوا في الحفاظ علىعلْمهم، وأسَّسوا جاليات قويَّة ومنظَّمة بين المستعبَدين في ولايات باهيا،وريودي جانيرو، وسان لويس دو مرانيون، ونَجحوا في إدخال كثيرٍ من العبيدالآخرين في الإسلام، وكانت لهم المدارس الإسلاميَّة والمساجد وشيءٌ منالحرية الدينيَّة، وكان يُسَمِّيهم البرتغاليون بالمعلِّمين" .
وهذا ما أكَّده الدكتور خالد محمد أبوالحسن: "فقد وُجِد من هؤلاء العبيد شيوخٌ كِبار، كانوا يقومون بمهمة جليلةفي البرازيل، وهي مهمَّة الوعظ والإرشاد والتفقيه، فقد كانوا ينزلون معالعبيد الصغار الأكواخ، ويعلِّمونهم القرآن ومبادئ الشريعة الإسلاميةالسَّمحاء" .
 
ويؤكِّد الباحث الإثنوغرافي "روجيه باستيدالذي اهتمَّت أبحاثه بالديانات الإفريقية في البرازيل، وفي دراسة صدَرت لهسنة 1971م، ذكر فيها أنَّ المسلمين الزنوج كانوا يوجدون خلال الثُّلُثالأخير من القرن التاسع عشر في جُلِّ مناطق البرازيل، وأنهم - وبحسبالمصادر الشفوية التي اعتمَدها - كانتْ لهم مساجدُ في الأغواس، وبرنامبوكووباهيا .
 
نفس النتيجة وصَل إليها جواو خوسيه رايسحينما ذكَر "أنَّ الثورة الإسلامية جاءتْ في وقت انتشار الإسلام بينالأفارقة الذين يعيشون في باهيا".
 
الإعداد العلمي والتربوي للمُسلمين الأفارقة:
اتَّبعالعلماء والمشايخ أسلوبًا تربويًّا وتنظيمًا راقيًا؛ حيث كانوا يقسمونالأفارقة مجموعات، كلُّ مجموعة تضمُّ عددًا من الأتْباع بين الخمسةوالعشرة، ويُباشر الشيخ تعليمَهم القرآنَ، ويؤدي معهم الصلوات، ولقد أشارالقس إتيان "أنَّ الإسلام قوي وتفرَّع في البرازيل، وأضاء ظُلمة أكواخالرقيق الذين جاؤوا من إفريقيا - معلِّمين ووُعَّاظًا - لتعليم القراءةوالكتابة باللغة العربية والقرآن الكريم؛ حيث كانتْ توجَد المدارسوالمصليات المحمديَّة ".
 
ونستطيع التأكيد على أنَّ الدِّينالإسلامي كان الدافع لتجمُّع العبيد وتوحُّدهم؛ "إنَّ الدين الإسلامي هوالذي أوْجَد للمهاجرين إلى البرازيل كِيانًا، ورُبَّما كان سببًا في تقويةتجمُّعهم وتعضيد استقرارهم، رغم حياة الشَّتات التي كانوا يعيشونها".
 
"فالأغلبيَّة الساحقة من هؤلاء العبيدكانوا من المسلمين الذين أُرْغموا على ترْك دينهم تحت التهديد والتعذيب،وعليه تقهقَر الإسلام في أمريكا اللاتينية".
 
يذكر الدكتور مايكل جوميز: "إنَّ العبيدالمسلمين عاشوا في مجموعات متراصة، وكانوا يشدون من أزْرِ بعض، ويُطَوِّرونأنفسهم ومجتمعهم، وخَلقوا مساحة لهم بعيدًا عن بقيَّة السكان، وضربوامثلاً برفْضهم مصافحةَ غير المسلمين باليد، وسُخريتهم من نُظرائهم ممناعْتَنقوا المسيحية بسبب وضْعهم لصُوَر القديسين في بيوتهم، وكانوا يعملونعلى التجمُّع في منزل محدَّد للصلاة وقراءة القرآن الكريم، بعض العبيدكانوا يدرِّسون العربية لغيرهم، ووُجِد الكثير من المخطوطات في ملابسالقتلى والأَسْرى منهم تتضمَّن آيات قرآنيَّة وأدعية وأحاديث شريفة،وعَمَدوا إلى ارتداء الملابس البيضاء لتمييز أنفسهم، بالإضافة إلى تناولالمنتجات الحلال والابتعاد عن الخمور".

وقام العلماء المسلمون بإحياءالمناسبات الإسلاميَّة كفرصة لالتقاء أكبر عددٍ من المسلمين والعمل علىتنظيمهم؛ يقول جواو خوسيه ريس : "لقد تحوَّلت أكواخ العبيد إلى مدارسقرآنيَّة، ليس هذا فحسب، بل كانوا يجتمعون يوميًّا للصلاة، وللإفطارالجماعي خلال شهر رمضان"، ويَصِف خوسيه رايس آخر احتفال قام به المسلمون فيباهيا قبل ثورة 1835م، فيقول: "وكانوا يجتمعون لإحياء المناسبات الإسلاميةالمختلفة، وهنا يُمكننا أن نلاحظ أنَّ آخِرَ اجتماع عام قامَ به المسلمونكان لإحياء ليلة المعراج - صعود النبي محمد إلى السماء - قد حدَث في  يوم السبت  29 نوفمبر عام 1834م".
 
بدايات الثورة الإسلامية:
أثْمَرتالتربية الإسلامية التي قام بها العلماء عن وجود رُوح جهاديَّة قويَّة عندالمسلمين دفَعتهم للكثير من الثورات، كانتْ نهايتها الفشل، "ففي مايو 1807خطَّط الأئمة المسلمون للثورة اعتراضًا على الظلم، بعد أن حوَّلوا بيوتهمإلى مساجد؛ لشحْن الثوَّار، وكدَّسوا فيها السلاح، وكان للثورة ثلاثةأهداف: قتل السادة البيض المستعبِدين للأفارقة، وتسميم مصادر مياه الشربالعامَّة، والهروب في السفن عبر ميناء سلفادور، والعودة إلى الأوطان في غربإفريقيا، لكن حاكِم "باهيا" كان قد دسَّ عُملاء من الأفارقة بين الثوَّارتَمكَّنوا من تسريب المعلومات المطلوبة قبل إشعال الثورة، فتَمَّ اعتقالقادة الثورة، وصدَرت أحكام بالإعدام والجَلد والسجن على المسلمين المشاركينفي التمرُّد، ثم طُبِّقت قوانين حظرِ التجوُّل ليلاً في كافة مناطق وجودالمسلمين والأفارقة في باهيا".
 
في  يناير  1809 تكرَّر التمرُّد، وكانناجحًا هذه المرة، وأوْقَع عشرات القتْلى والجرحى من الجنود البيض، بعد أناستولَى المتمرِّدون على مستودع للسلاح في منطقة ريفيَّة من باهيا،وتتبَّعت السلطات المتمرِّدين، وقتَلَت وأَسَرت منهم المئات، ثم تكرَّرتعشرات حوادث التمرُّد التي انخرَط فيها مئات الأفارقة، وتزعَّمهم قادةمسلمون من قبائل اليوروبا والهوسا في أعوام 1814 و1816، و1822 و1826، ثماندلَعَت عدة تمرُّدات على مدى أربعة أعوام متتالية (من 1827، وحتى 1830).
 
في بداية القرن التاسع عشر تَمَّ جلْبُ المزيد من العبيد الأفارقة، وكثير منهم كان قد تتلمَذ على يد الشيخ "عثمان بن فون"،وعايَش حركته الجهادية الإصلاحيَّة في إفريقيا؛ لتصحيح عقائد المسلمين ضدالخُرافات، وكان وصولهم للبرازيل بمثابة وقود جديد لاستمرارية الثورة ضدالبرتغاليين، لقد أسهَمت هذه المجموعة الجديدة في توسيع حركة الجهاد داخلصفوف الأفارقة، وتشكيل العقليَّة المسلمة بأفكار جديدة وقُدرة تنظيميَّةرائعة، جعَلت المسلمين يقرِّرون الثورة على المظالم التي يتعرَّضون لها.
 
إنَّ  المسلمين في باهيا وبقيَّة مناطقالبرازيل قاوَموا الرِّقَّ والعبودية، من خلال تطوير مفهوم جديد للجهاداعتبروا فيه الكتابة بالعربيَّة، والحفاظ على الصلاة والصوم، وارتداءالأزياء العربيَّة الإفريقيَّة - نوعًا جديدًا من الجهاد يحافظ علىالهُويَّة من مَغبَّة التنصير والابتلاع.
 
ثورة العبيد 1835م:
تُعتبر ثورة العبيد 1835م والتي قامَت في مدينة "سلفادور" عاصمة ولاية باهيا، أكثر الثورات شُهرة في تاريخ البرازيل، وعُرِف باسم تمرُّد ماليMale؛أي: تمرُّد المسلمين الأفارقة؛ حيث بدأ المسلمون في جمع الأموال وتخزينالأسلحة، ووضْع الخُطط باللغة العربية لثورة 1835م؛ "كان الإسلام قد عشَّشوتفرَّع وقَوِي في عَتْمة الأكواخ "السنزالا"،وكان العبيد قد بلَغوا من الشكيمة في أنفسهم، ومن القوة بدينهم، ومنالاعتداد بكَثرتهم - الدرجة التي قرَّروا فيها الثورة، قادَهم فيها الشيوخالذين يَقبعون معهم في العتمة المنبوذة، وتعاوَن فيها أبناء الهاوسة معالفولا، واليوروبا، والناغو، والأيوه والكيجة...، كان المسلمون وشيوخهم منهؤلاء يمثِّلون نوعًا من الأرستقراطية بين زنوج الأكواخ".
 
الأجواء التي سبَقت ثورة سنة 1835م للزنوجفي باهيا، أجواء حماسة دينيَّة بالغة، في أزقة ماتابوركس على شرفة الساحة،قُرْب صليب القديس فرانسوا، وفي ظلِّ الكنائس والأديرة الكاثولويكيَّة،وفي الأركان التي تُنتصب فيها العذراء وتماثيل سان أنطونيو اللشبوني، كانالزنوج يضعون القرآن ويُقيمون الصلوات، متحدِّين بذلك الأسيادَ البيض الذينكانوا يَرقبونهم من النوافذ في أعالي البيوت، وكانوا يهاجمون القُداسالكاثوليكي، مُعلنين أنه ليس أكثر من عبادة لقطعة من الخشب، وكانوا يرفعونمسابهم ذات الـ 99 حبَّة من الخشب، والمنتهية بطرة وكُرة صغيرة في وجْه المسابح التي تحمل الصليب.
 
تعود أسباب الثورة إلى عدم رضا المسلمينعن العبوديَّة والتمييز العنصري الذي كان يُمارس في حقِّهم، وبُغضهمللتعصُّب الديني الذي مارستْه الكنيسة بإجبارهم على اعتناق الكاثولوكيَّة.
 
"كانت المقاومة في باهيا وغيرها من مناطقأمريكا اللاتينية موجَّهة ضد الأوضاع الاستبدادية والقمعيَّة التي نشأَتْمن محاولات تحويل المسلمين قسْرًا إلى المسيحية، وكانتْ دوافع الرفض واضحة: كيف يُمكن اعتناق دين أصحابه استعبدوا غيرهم، وطبَّقوا العنصرية في مقابلالتخلِّي عن دين يعلم المساواة والحرية؟!".
 
لقد حدَّد المسلمون أهدافهم، والتيتبلوَرت في التحرير الكامل للعبيد، والقضاء على الديانة الكاثولوكية،ومُصادرة جميع الممتلكات الخاصة بالبيض، وإقامة دولة إسلاميَّة.
 
استطاع العلماء توحيدَ الأفارقة وتربيتهمعلى القرآن، وبثُّوا في نفوسهم السعي للتحرُّر، عن طريق مقاومة المستعبد،وحاوَل العبيد القيام بأكثر من ثورة، وكانتْ أهمُّ هذه الثورات ثورة العبيدأو ثورة المالي؛ كما يُطلق عليها في البرازيل عام 1835م؛ حيث أعدَّ لهاالأفارقة إعدادًا جيدًا، وخطَّطوا للقضاء على النظام البرتغالي الموجود،ورفْع الظلم وتحرير العبيد، والحريَّة في ممارسة الشعائر الإسلاميَّة.
 
تَمَّ اختيار ليلة القدر؛ لتكون شرارةانطلاق الانتفاضة، وكانت تناسب يوم الأحد 25 يناير، وهو يوم عُطلة رسميَّةللجنود البرازيليين "عيد القيامة النصراني"؛ مما يعني ضَعْف الرقابة الصارمة التي كانتْ تُمارس ضد العبيد، وتعدُّ عليهم أنفاسهم.
 
اجتمَع قادة الثورة في تلك الليلة لوضْعاللمسات الأخيرة لقيام الثورة، وحدَث ما لَم يتوقَّعه أحدٌ،  أن تسرَّبتهذه المعلومات لأحدِ العبيد الذي كانتْ له صِلة بالشرطة، فقام على الفوربالإبلاغ؛ مما دفَع بقوَّات كبيرة للوصول إلى المكان وحاصَرَتْه، وبدأإطلاق الرصاص فما كان من العبيد إلاَّ أن انطلَقوا في الشوارع؛ لإعلامبقيَّة العبيد بقيام الثورة، واندلَعَت مواجهات قويَّة وحرب شوارع في شارعالنصر، استدعَت القوات في مدينة سلفادور قوات للتعزيز من شرطة ساو بالو،ودارتْ معارك شَرِسة في أكثر من مكان، كان من نتائجها قتْل معظم قادةالثورة، وإلقاء القبض على الكثير من العبيد، ومُصادرة أيِّ كتابات باللغةالعربية، أُقيمَت المحاكمات لِمَن تبقَّى منهم، وحُكِم على بعضهم بالإعدام،وأُعِيد بعضهم إلى إفريقيا، وتَمَّ توزيع البقيَّة على ولايات البرازيلالمختلفة، بحيث يتمُّ تشتيت الأُسَر؛ الأب في مكان، والأم في مكان،والأولاد في مكان.
 
 
ذُبِحت الثورة سنة 1835م كما ذُبِحتسابقاتها، ولكن بشكلٍ أشدَّ عنفًا ودمويَّة، كلُّ قوى الدولة والكنيسةالكاثوليكيَّة، والمستعمرين، سُخِّرت لسحْقها الشديد كالديدان المؤذية.
 
القصة السوداء التي تُحكى عن الوحشيَّةالإسبانيَّة في تدمير الهنود، هي نفسها التي مارَسها البرتغاليون في خَنْقالثورات الزنجية الإسلاميَّة، وهذه الأخيرة بالذات ظلَّت جُثثهم تتعفَّن - روائحَ ودَمًا وعِظامًا - مدة طويلة على الطرقات وفي عتمة السنزالاتالخَرِبة.
 
نتائج الثورة:
تَمَّترحيل 500 من قادة التمرُّد من العبيد المحرَّرين إلى بلادهم الأصليَّة،وأشار ميشل تورنر من جامعة مدينة نيويورك في بحثٍ له عن المسلمينالمحرَّرين من البرازيل إلى إفريقيا، أنهم قد عادوا إلى داهومي، وأقامواأوَّل مسجدٍ بعاصمة البلاد ، وأكَّد ذلك الدكتور على الكتاني: "وهاجَرالكثير منهم إلى إفريقيا؛ حيث يكونون اليوم ساحل الداهومي ونيجيريا والدولالمجاورة لها جاليات إسلاميَّة من أصْل برازيلي، وأسماؤهم ما زالتبُرتغالية إلى اليوم".
 
إنَّ عملية القمع التي عانَت منها الجاليةالإسلامية بعد هذه الثورة شتَّتت الجالية وفرَّقتها، حُكِم بالإعدام علىأربعة إفريقيين، على الرغم من عدم كونهم من الزعماء؛ ليكونوا مثالاً لباقيالثوار، ونال المئات الجَلْدُ وغيرهم السجن، وتَمَّ نفي الأحرار منهم إلىإفريقيا، وبِيعَ الآخرون إلى مناطق أخرى في البرازيل، واعْتُبِر مشبوهًاأيُّ إفريقي يحمل أوراقًا باللغة العربية.
 
لقد أثَّرت الثورة على كلِّ البرازيل،وانتشر خبرُها في صحف أمريكا الشمالية والصحف الإنجليزية، وكانتْ سببًامباشرًا لصدور القرار الخاص بتحرير العبيد، والقضاء على تجارة الرقيق والذيوقعته الأميرة إيزابيل في 13 مايو عام 1888م في دولة البرازيل.
 
على الرغم من عِظَم التضحيات التي قُدِّمتمن قِبَل المسلمين الأفارقة للحصول على حريَّتهم، وبالرغم من الملاحقاتوالتعذيب والتشريد، فإنَّ المسلمين ظلُّوا محافظين على دينهم، وبَقِيالإسلام في البرازيل لسنوات عديدة بعد ذلك، حاوَل المسلمون خلال هذه الفترةتنظيمَ أنفسهم، والتواصُل فيما بينهم رغم بُعْد المسافات، وقلَّة وسائلالنقل آنذاك، إلاَّ أنَّ تعاليم الدين الإسلامي كان قد أصابَها الكثير منالتبديل والتحريف والذي أسهمَت فيه العوامل السابقة، إضافة لاختراق بعضاليهود لصفوف المسلمين؛ لكي يُفسدوا عليهم دينهم، وهذا ما سنتاوله بالدراسةفي الحلقة القادمة - بإذن الله.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين