حدث في الرابع عشر من رجب

في الرابع عشر من رجب من سنة 223 توفي في القيروان، عن 51 عاماً، الأمير زيادة الله الأغلبي، زيادة الله بن إبراهيم بن الأغلب بن سالم، أبو محمد: رابع الأغالبة أصحاب أفريقية، وأول من سمي بزيادة الله.

ويعود تاريخ بني الأغلب إلى جدهم الأغلب بن سالم بن عقال بن خفاجة التميمي، كان مع أبي مسلم الخراساني حين قيامه بالدعوة العباسية، ثم ولاه الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور العباسي أفريقية سنة 148، فأقام في القيروان، ووطد الامور، وكان من الشجعان القادة ومات سنة 150 قتيلاً بسهم في إحدى المعارك قرب تونس.
 
وولاية أفريقية آنذاك تضم مدن السواحل وشيئاً من الداخل في ليبيا وتونس والجزائر، وتعاقب على أفريقية عدة ولاة، وكثرت فيها الفتن والطامحون للإمارة، حتى عاد الخليفة العباسي هارون الرشيد فولّى إبراهيمَ بن الأغلب في سنة 184، وذلك لأن والي الرشيد، محمد بن مقاتل العَكيّ، أساء إلى الناس وظلم، فقاموا عليه، فأنجده ابن الأغلب وأعاده إلى القيروان بعد أن طردوه منها، ثم كاتبوا الرشيد يستقيلونه من ابن مقاتل. فاستعمل عليهم ابن الأغلب لما رأى نهضته وحسن طاعته وانقياد أهل القيروان له.
 
ضبط إبراهيم بن الأغلب البلاد، وأحسن إلى من بها، ونفى أهل الشر ومن يخشى خروجه إلى بغداد، وخرج عليه متمردون عدة مرات، ولكنه دحرهم بالقتال والسياسة.
 
وكان فقيهاً، عالماً، خطيباً، شاعراً، ذا رأي وبأس، وحزم، وعلم بالحروب ومكائدها، جرىء الجنان، طويل اللسان، حسن السيرة، عادلاً رفيقاً بالرعية، وكان كثير الطلب للعلم، والاختلاف إلى الليث بن سعد، وكان الليث يكرمه، وأعطاه جارية حسناء اسمها جلاجل هي أم ابنه زيادة الله، وكان يتولى الصلاة بنفسه في المسجد الجامع بالقيروان والمسجد الذي بناه بالقصر، وله أخبار حسنة منها أنه عثر يوماً بحصيرة المسجد، فدخل وقال لرؤساء الدولة: استنكهوني. ففعلوا، فقال: إني خشيت أن يقع لأحدكم أني سكران.
 
بقي إبراهيم بن الأغلب والياً مدة 12 سنة حتى وفاته في سنة 196، وعَهِدَ لابنه أبي العباس عبد الله بن إبراهيم بن الأغلب بالولاية، وذلك في سابقة أظهرت استقلال الأغالبة مع محافظتهم على ولائهم للخلافة العباسية، وهي ظاهرة نجد أمثالها في المناطق البعيدة عن بغداد في الشرق كذلك.
 
قال النويري رحمه الله في كتابه نهاية الأرب، وهو يتحدث عن دولة الأغالبة: هذه الدولة أول دولة قامت بأفريقية وجرى عليها اسم الدولة، وكان مَنْ قبلهم عمالاً إذا مات أحد منهم أو صدر منه ما يوجب العزل، عَزَلَه من يكون أمرُ المسلمين إليه من الخلفاء في الدولة الأموية والعباسية، فلما قامت هذه الدولة كانت كالمستقلة بالأمر، وإنما كانت ملوكها تراعى أوامر الدولة العباسية، وتعرف لها حق الفضل والأمر، وتظهر طاعة مشُوبَة بمعصية، ولو أرادوا عزل واحد منهم والاستبدال به من غير البيت لخالفوهم، وصار ملوك هذه الدولة يوصون بالملك بعدهم لمن يرونه من أولادهم وإخوتهم، فلا يخالفه قوادهم ولا يراعون أهلية من يوصي إليه بل يقدمونه على أي صفة كان مستحقاً أو غير مستحق، وكان عدة من ملك منهم أحد عشر ملكاً، ومدة أيامهم مائة سنة واثنتي عشرة وأياماً، وأول من ملك منهم إبراهيم بن الأغلب.
 
وتوفي إبراهيم وابنه أبو العباس عبد الله في طرابلس، فقام له أخوه زيادة الله بالأمر، وأخذ له البيعة على نفسه وأهل بيته وجميع رجاله. وقدم عبد الله من طرابلس بعد شهرين، فتلقاه زيادة الله وسلم إليه الأمر.
 
ولم يحفظ عبد الله لأخيه إخلاصه له، بل حمل عليه حملاً شديداً وتنقصه، وزيادة الله مع ذلك يظهر له التعظيم والتبجيل، ثم أراد عبد الله أن يحدث جوراً عظيماً على الرعية فأهلكه الله عز وجل قبل ذلك، وذلك أنه استبدل بالخراج ضريبة على كل زوج تحرث ثمانية دنانير، فاشتد ذلك على الرعية وراجعوه في ذلك، فلم يقبل، وقدم حفص بن حميد الجزري، ومعه قوم صالحون، فأستأذنوا عليه فأذن لهم، فدخلوا عليه - وكان من أجمل الناس - فكلمه حفص ابن حميد فكان فيما قال له: أيها الأمير، اتق الله في شبابك، وارحم جمالك وأشفِق على بدنك من النار، فأزِلْ ذلك عن رعيتك، وخذ فيهم بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فإن الدنيا زائلة عنك كما زالت عن غيرك. فلم يجبه عبد الله إلى شيء مما أراد، وتمادى على سوء فعله وأظهر الاستخفاف بهم.
 
فخرج حفص بن حميد ومن معه فتوجهوا نحو القيروان، فلما صاروا بوادي القصارين قال لهم حفص: قد يئسنا من المخلوقين، فلا نيأس من الخالق. فسألوا الله وتضرعوا إليه، ودعوا الله على أبي العباس أن يمنعه مما أراده بالمسلمين ويكف جوره عنهم، ثم دخلوا مدينة القيروان، فخرجت لأبي العباس قرحة تحت أذنه فقتلته في اليوم السابع من دعائهم واسوَّد لونه، وكانت وفاته في آخر سنة 201، ومدة ولايته 5 سنوات.
 
وتولى الحكم من بعده أخوه زيادة الله وجاءه التقليد من الخليفة العباسي المأمون، وكان المأمون يُكِنُّ الوِدَّ لزيادة الله، لأنه لما وثب إبراهيم بن المهدي على الخلافة وخُطِبَ له ببغداد في سنوات 202-204، بقي زيادة الله يخطب للمأمون في أفريقية، فلما خلصت الخلافة للمأمون شكر له ذلك.
 
وسلك زيادة الله مع الجند مسلكاً يخالف والده الذي أغضى عن كثير من زلاتهم وصفح عن إساءاتهم، فقتل كل من يخشى بادرته غير هياب ولا وجل، وحَكَّم فيهم سوءَ ظنه بهم لتوثّبهم على الأمراء قبله وخلافهم على أبيه، فخرج عليه عمر بن معاوية القيسي، واليه على القصرين، وكان من شجعان الجند ورؤسائهم وأهل الشرف منهم، فتغلب على تلك الناحية، فأرسل إليه زيادة الله جيشاً حاصره أياماً حتى استسلم، وقتله زيادة الله هو وولديه.
 
ثم خرج عليه منصور بن نصر الطّنبذي، واليه على طرابلس، واستفحل أمره حتى هاجم مدينة تونس، وكان عامل زيادة الله على تونس إسماعيل بن سفيان ابن سالم من الأغالبة، فقتله منصور وقتل ابنه، وانضم أغلب الجند إلى منصور الطنبذي، وولوه على أنفسهم، فاستطاع هزيمة جيش كبير أرسله زيادة الله بقيادة محمد بن عبد الله بن الأغلب.
 
فأعد زيادة الله جيشاً قاده بنفسه ونزل بين القيروان والقصر وخندق هناك، وكانت بينه وبين منصور وقعات كثيرة، تارة لهؤلاء وتارة لأولئك، ثم انهزم منصور ومن معه حتى لحقوا بتونس، وكان أهل القيروان أعانوا منصوراً على قتال زيادة الله، فقال له أصحابه: أبدأ بها واقتل من فيها، فقال: إني عاهدت الله تعالى إن ظفِرتُ أن أعفو وأصفح. فعفا عنهم، إلا أنه هدم سور القيروان ونزع أبوابها.
 
ثم جمع منصور قواته ثانية، وسيطر على كل الولاية ودخلت سنة 209 ولم يبق في يد زيادة الله إلا الساحل وقابس، وكتب منصور إليه: أن ارحل حيث شئت، وخلِّ عن أفريقية، ولك الأمان في نفسك ومالك وما ضمه قصرك، فاستشار زيادة الله أصحابه في ذلك، فقال له سفيان بن سوادة: أيها الأمير، أمكِنِّي من ديوان رجالك حتى أنتقي مئتي فارس ممن أثق به. فاختار مئتي فارس، وأجزل لهم العطاء، فخرج سفيان حتى أتي قبيلة نفزاوة البربرية، فدعاهم سفيان إلى الانضواء تحت طاعة زيادة الله فأجابوه، واجتمع إليه خلق كثير من زناتة وغيرهم وسائر القبائل، ففتح البلاد بلداً بلداً حتى بلغ قسنطينة، ثم قدم على زيادة الله في سنة 208، فكان سعيد يقول: والله، ما رأيت أعظم بركة من تلك المئتي فارس.
 
ووقع الشتات والحسد في معسكر منصورالطنبذي، واختلف منصور مع عامر بن نافع أحد كبار قواده، فحاصره عامر بقصره بطنبذة، ثم قتله هو وأخاه، ثم اختلف الجند على عامر، وانتقض عليه أمره، وانشق عنه قواده، ثم اعتل عامر فلما أيقن بالموت استدعى بنيه وقال لهم: يا بني، ما رأيت في الخلاف خيراً، فإذا أنا مت ودفنتموني فلا تعرِّجوا على شيء حتى تلحقوا بزيادة الله، فهو من أهل بيت عفو. وأرجو أن يسركم ويقبلكم أحسن قبول. فلما مات وبلغ زيادة الله موتُه قال: الآن وضعت الحرب أوزارها! أما أولاد عامر ففعلوا ما أوصاهم به، وأتوا زيادة الله فوجودا عنده ما أمّله والدهم من العفو والإحسان، وجعل الجند يتسللون إلى زيادة الله ويستأمنون، وهو يؤمنهم ويحسن إليهم. وهكذا استببت الأمور وصَفَت لزيادة الله في سنة 209 بعد أن دامت الفتنة ثلاث عشرة سنة.
 
ومما جرى في أثناء تلك الوقائع حادثة حسنة تدل على عفو زيادة الله وصفحه وحلمه، فمن ذلك أنه بلغ والدته جلاجلَ أن أخت عامر بن نافع قالت: والله لأجعلنّ جلاجل تطبخ لي الفول بيصارا! فلما ظفر ابنها زيادة الله بالقيروان، أمرت جلاجل بفول فطُبِخَ بيصاراً وبعثت منه إليها مع بعض خدمها، فوضع بين يديها، وقالت الجارية التي أحضرته إليها: سيدتي تسلم عليك وتقول لك: قد طبختُ هذا لك لأبِرَ قَسَمك. فأوحشها ذلك وقالت: قولي لها: قد قدرت فافعلي ما شئت.
 
فبلغ ذلك زيادة الله فقال لأمه: قد ساءني ما فعلت يا أم؛ إن الاستطالة مع القدرة لؤم ودناءة، وقد كان أولى بك أن تفعلي غير هذا. قالت: نعم، سأفعل ما يرضيك ويحسن الأحدوثة عنا. وبعثت إليها بكسوة وصلة وألطاف، ورفقت بها حتى قبلت ذلك وطابت نفسها.
 
وكان زيادة الله يستعمل العفو ما استطاع إليه سبيلاً واطمأن أنه في موضعه، ففي سنة 218 ثار بتونس القائد فضل بن أبي العنبر، وآزره أهلها، فأرسل زيادة الله جيشاً بقيادة ابن أخيه أبي فهر بن عبد الله بن الأغلب، فأخضعها الجيش وهرب منها أهلها خشية الانتقام، فأصدر زيادة الله عفواً عاماً وأمَّنَهم فسكنت أحوالهم وعادوا إليها، وكان فيهم شاعر يدعى أبو العزاف، هجا زيادة الله، فلما صار في يده حرضه يعقوب بن يحيى الشاعر على قتله، فلم يلتفت زيادة الله إلى قوله
 وأمضى لهم أمانهم، وقال لأبي العزاف: ما منعك أن تستأمن إلينا قبل هذا الوقت؟ قال: أيها الأمير كنت مع قوم حمقى يولون كل يوم واليا ويعزلون آخر، فرجوت أن تكون لي معهم دولة. فضحك زيادة الله وقال: لقد عفوت عنك.
 
عين زيادة الله على قضائه الفقيهَ الجليل أسد بن الفرات بن سنان، أحد كبار أصحاب الإمام مالك، وأحد من روى الموطأ عنه، ورواه عنه الإمام سحنون ابن سعيد، وتنسب لأسد المسائل الأسدية في الفقه، وأصل القاضي أسد بن الفرات من نيسابور، وولد هو بحرّان سنة 142، وقدم أبوه القيروان مع محمد بن الأشعث الخزاعي في عسكره حين ولاه أبو جعفر المنصور أفريقية سنة 144، وحفظ القرآن بعد الثامنة عشرة، ثم خرج إلى المشرق يطلب العلم، فدرس على الإمام مالك في المدينة المنورة ثم خرج إلى العراق، ثم عاد إلى القيروان سنة181.
وفي سنة 212 قام زيادة الله بإنفاذ جيش غزا جزيرة صقلية في جنوب إيطاليا، وكان سبب غزوة صقلية أن أميرها فيمي المعين من الإمبراطور البيزنطي في القسطنطينية عزله الإمبراطور، فلجأ إلى زيادة الله يستنصره وأغراه بغزو الجزيرة، فجمع زيادة الله وجوه أهل القيروان وفقهاءها واستشارهم في إنفاذ الأسطول إلى جزيرة صقلية، فقال بعضهم: نغزوها ولا نسكنها ولا نتخذها وطناً، فقال سحنون رحمه الله: كم بينها وبين بلاد الروم؟ فقال: يروح الأنسان مرتين وثلاثة في النهار ويرجع، قال: ومن ناحية أفريقية؟ قالوا: يوم وليلة، فقال مستنكراً غزوها: لو كنت طائراً ما طرت عليها! وأشار من بقي بغزوها، ورغَّبوا في ذلك
ولكن زيادة الله توقف في ذلك لوجود هدنة بينه وبين أهل صقلية، ولكن فيمي أخبره إنهم قد أخلوا بشرط من شروط الهدنة وهو ألا يحتفظوا بأسير من المسلمين إن أراد اللحاق بالمسلمين، وأن صقلية تحتفظ بأسرى من المسلمين، وجمع زيادة الله العلماء وسألهم عن الأمر، فقال له قاضيه أبو محرز الكناني: نتأنى حتى يتبين، وقال أسد بن الفرات: نسأل رسلهم عن ذلك، فقال أبو محرز: كيف يقبل قولهم عليهم. فقال أسد: بالرسل هادناهم وبهم نجعلهم ناقضين. قال الله تعالى: فلا تهنوا وتدعوا إلى السلّم وأنت الأعلون. فنحن الأعلون.
وجاء رسل حاكم صقلية فسألوهم عن وجود أسرى مسلمين لديهم، فاعترفوا بوجودهم مبررين ذلك بأن دينهم لا يُحِلُّ لهم رد الأسرى، فأمر زيادة الله بالاستعداد لغزوها، وجهز اسطولاً كبيراً من سبعين سفينة، وجعل أسد بن الفرات أميراً للجيش، فقال أسد إذ ذاك لزيادة الله: من بعد القضاء، والنظر في الحلال والحرام تعزلني وتوليني الإمارة؟ فقال: لا، ولكني وليتك الإمارة، وهي أشرف، وأبقيتُ لك اسم القضاء، فأنت أمير، قاض.
ولما خرج أسد إلى سوسة ليتوجه منها إلى صقلية، خرج معه وجوه أهل العلم والناس يشيعونه، وأمر زيادة أن لا يبقى أحد من رجاله إلا شيعه، فلما نظر الناس حوله من كل جهة، وقد صهلت الخيل وضربت الطبول وخفقت البنود، قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، والله يا معشر المسلمين ما ولي لي أب ولا جَدّ، ولا رأى أحدُ الناس من سَلَفي مثلَ هذا، ولا بلغتُ ما ترون إلا بالأقلام فاجتهدوا أنفسكم فيها، وثابروا على تدوين العلم، تنالوا به الدنيا والآخرة.
فخرج أسد بن الفرات إلى صقلية في جيش تعداده عشرة آلاف مقاتل، وواجه ملك صقلية في مئة ألف وخمسين ألفاً، قال الراوي: فرأيت أسداً وفي يده اللواء وهو يزمزم وأقبل على قراءة يس، ثم حرض الناس، وحمل وحملوا معه، فهزم الله جموع النصارى، ورأيت أسداً وقد سالت الدماء على قناة اللواء حتى صار تحت إبطه، ولقد رد يده في بعض تلك الأيام فلم يستطع مما اجتمع من الدم تحت إبطه.
وكان أسد يقول: أنا أسد، وهو خير الوحوش، وأبي فرات وهو خير المياه، وجدي سنان وهو خير السلاح، وتوفي أسد بن الفرات سنة 213 وهو يحاصر سرقوسة ٍSiracusa‏، ودفن في باليرمو رحمه الله تعالى، واستعمل زيادة الله على صقلية محمد ابن عبد الله بن الأغلب.
واستمرت حملات ابن الأغلب في صقلية لإخضاع الجزيرة، وانضم إليها مسلمو الأندلس في سنة 215 بتقدير الله، بعد أن ضاقت الأمور بالمسلمين وتتابعت عليهم الهزائم، وذلك أن أمير الأندلس عبد الرحمن بن الحكم، كان قد أعد أسطولاً كبيراً لغزو بلاد الروم، فأخرجتهم الريح إلى صقلية، فنزلوا في طرابنش Trapani‏ شرقي صقلية، وفتحوا معاقل، وأثروا في الروم آثاراً كثيرة، ثم جاء مدد كذلك من أفريقية فأصبح عدد السفن 300 سفينة، واجتمع مسلمو الجزيرة والأندلس واتجهوا شرقاً وهاجموا حصن غليانة Galigano‏ فحصروه وتغلبوا على ربضه وغنموا ما فيه.
 
ثم وقع وباء في المسلمين هناك، فعادوا بأجمعهم إلى ناحية طرابنش، وتعقبهم جيش الروم يقتص آثارهم وينتهز الفرصة فيهم، لكثرة المرضى والضعفاء، فلما ألح عليهم صاحب الروم وأحرجهم كرّوا عليه فقاتلوه، وأفرغ الله تعالى عليهم الصبر، فقتلوا عامة الروم وغنم المسلمون خيلهم وسلاحهم.
 
ثم اختلف قائد الأندلسيين وقائد الأفريقيين، وصار مع كل واحد منهما طائفة، ثم رجعوا فاتحدوا تحت إمرة أمير زيادة الله عثمان بن قرهب، وهاجموا بلرم وحاصروها حتى سأل أهلها الأمان في سنة 216، فأجابهم المسلمون إلى ذلك، وخرج بَطرِيقُها ومن معه، وكان سكان بلرم يوم نزول المسلمين عليها سبعين ألفاً فلم يبق منهم عند خروجهم لطول الحصار وموالاة القتل عليهم ووقوع الموت فيهم إلا نحو ثلاثة آلاف، واستوطن المسلمون مدينة بلرم واستولوا على ما جاورها، فكان فتحها سبباً لافتتاح الجزيرة.
 
واستمرت هذه الحملات في صقلية طيلة عهد زيادة الله وتحول الوجود الإسلامي فيها من غزو وجهاد إلى استيطان وإقامة.
 
كان زيادة الله وأعوانه يقربون العلماء ويحترمون مقاماتهم، وقد مرَّ علينا من قبل كيف استشارهم في غزو صقلية، وقد جرت حادثة مع الإمام سحنون تبين ذلك، فقد كان سحنون قد حضر جنازة، فتقدم القاضي ابن أبي الجواد فصلى عليها، فرجع سحنون ولم يصل خلفه، لأنه ممن يقول بخلق القرآن، فبلغ ذلك الأمير زيادة الله فاستاء من هذه الإهانة لكانة القضاء - وهي من أعلى المقامات في الدولة الإسلامية - فأرسل إلى عامل القيروان ليضرب سحنون خمسمائة سوط، ويحلق رأسه ولحيته، فبلغ ذلك وزيره علي بن حميد، فأوقف الرسالة، وتلطف حتى دخل على الأمير وقت القائلة، وقد نام، وقال له: لا تفعل. فإن العكيَّ - الوالي الذي جاء قبل أبيه - إنما هلك في ضربه للبهلول بن راشد، فقال: وهذا مثل البهلول؟ قال: نعم، وقد حبستُ البريد شفقة على الأمير. فشكره وأوقف الأمر.
 
أما سحنون رحمه الله فكان في مجلس درسه حين جاءه إنسان فسّاره بما أمر الأمير به من ضربه، فتغير لونه وتضايق، ثم جاءه آخر فساره بما أزاح الله عنه، فرجعت إليه نفسه. ثم قال رحمه الله: لم أبلغ أنا مبلغ من ضُرِب! إنما يُضرَبُ مِثلُ مالك، وابن المسيب. وقيل لسحنون: لو ذهبت إلى الوزير علي بن حميد فشكرته، قال: لا أفعل! قيل له: لو وجهت ابنك لذلك، فأبى، قيل: فاكتب إليه، فأبى، قال: ولكني أحمد الله الذي حرك علي بن حميد، لهذا. فهو أولى بالشكر. وأقبل على درسه، فقال له قوم من أصحابه: لهذا والله كتب اسمك بالحبر على الرقرق.
 
وكان سحنون رحمه الله إماماً حتى في التعامل مع السلطان، قيل: إن زيادة الله الامير بعث يسأل سحنونا عن مسألة، فلم يجبه، فقال له محمد بن عبدوس: اخرج من بلد القوم، أمس ترجع عن الصلاة خلف قاضيهم، واليوم لا تجيبهم؟! قال سحنون: أفأجيبُ من يريد أن يَتَفكَّهَ، يريد أن يأخذ قولي وقول غيري، ولو كان شيئا يقصد به الدين لاجبته.
 
واستعمل زيادة الله أبا بكر بن سليمان الزُهري على كتابته، بمثابة الوزير،وكان الزهري عالماً أديباً شاعراً مترسلاً، مع دين وصيانة، فأبى عليه واستعفاه، فلم يعفه، فاشترط عليه الزهري ثلاثة شروط، قال زيادة الله: وما هي؟ قال: لا أخلع ردائي، وأجلس في مجلسك بغير إذن؛ أنا شيخ ومجلسك لا يُجلس فيه إلا بإذنك، ولا أكتب في دم أحد ولا ماله! قال: لك ذلك؛ ووفى له بهذه الشروط.
 
وروي أنه قال له يوماً: يا زهري أصليبة - أي عربي أصيل- أنت أم مولى؟ فقال: صلبني القِدَمُ أعز الله الأمير! فقال زيادة الله: إني لأُسَرُّ بصدقه مني بعلمه.
 
ومر به زيادة الله يوماً وهو يصلي فناداه: يا زهري يا زهري! فلم يجبه، وتمادى في صلاته، فغضب عليه وعاتبه وقال: دعوتك فلم تجبني! فقال: كنت بين يدي من هو أعظم منك! قال زيادة الله: صدقت!
 
قام زيادة الله بأعمال عمرانية كان يرجو أن يكافأه الله عليها لكونه عملها خالصة لوجه الله، قيل إنه قال يوماً لخاصته: إني لأرجو رحمة الله، وما أراني إلا أفوز بها إذا قدمت عليه يوم القيامة، وقد عملت أربعة أشياء: بنيت المسجد الجامع بالقيروان، وأنفقت عليه ستة وثمانين ألف دينار، وبنيت قنطرة باب أبي الربيع، وحصن المرابطين بمدينة سوسة، ووليت القضاء أحمد بن أبي محرز.
 
وبنى جامع القيروان بالصخر والآجر والرخام بعد أن هدمه، وبنى المحراب كله بالرخام من أسفله إلى أعلاه، وهو منقوش بكتاب وغير كتاب، ويستدير به سوار حسان، بعضها مجزعة بأسود ناصعة البياض شديدة السواد، ويقابل المحراب عمودان أحمران، فيهما توشية بحمرة صافية دون حمرة سائرهما، يقول كل من رآهما من أهل المشرق والمغرب أنه ير لم مثلهما. وقد بذل فيهما صاحب القسطنطينية وزنهما ذهباً فلم يجبه الناظر في ذلك.
 
وأول من بنى هذا الجامع عقبة بن نافع الفهري، وهو الذي اختط مدينة القيروان في سنة 53، فلما ولى حسان بن النعمان الغساني أفريقية هدمه - إلا المحراب - وبناه بالطوب، فلما ولى يزيد بن حاتم أفريقية سنة 155 هدمه وبناه، فلما ولى زيادة الله هدمه وبناه مع المحراب على نمط معماري راق، كما وصف وتم بنيانه سنة 222.
 
أما مدينة سوسة فبنى زيادة الله سورها وحصنها لتصبح قاعدة عسكرية ضخمة للقوات الإسلامية في البحر المتوسط، قال الجغرافيون المسلمون: وخارج سوسة محارس ومرابط ومجامع للصالحين، وداخلها محرس عظيم كالمدينة مسور بسور متقن يعرف بمحرس الرباط يأوي إليه الصالحون والعباد، وقيل داخلها محرس آخر عظيم يسمى محرس القصب وهو متصل بدار الصناعة - حوض صناعة السفن - وسوسة في سند عال تُرَى دورها من البحر ووراء سورها هيكل عظيم سمته البحريون الفِنطاس وهو أول ما يرى من البحر ولهذا الهيكل أربع درج يصعد من كل واحدة منها إلى أعلاه.
 
أما القاضي ابن أبي محرز فهو محمد بن عبد الله بن قيس الكناني، وكان أحد الصالحين، روى عن: مالك بن أنس، وغيره. ولي القضاء مدة، وذلك بعد عبد الله بن عمر بن غانم، ولذلك قصة طريفة وذلك أن ابن الأغلب لما توفي ابن غانم قيل له: عليك بصاحب اللفافة، وكان ابن أبي محرز يلبس عمامة لطيفة، فقال: يا أبا محرز، إني عزمت على توليتك القضاء. قال: لست أصلح. فقال ابن الأغلب: لو كان الأغلب سالمُ حياً لم أكن أنا والياً، ولو كان عبد الرحمن بن زياد بن أنعم وابن فروخ حيين لم تكن أنت قاضياً، ولكن لكل زمانٍ رجال. فولاه القضاء فامتنع، فأمر قائداً من قواده فأخذ بضبعيه حتى أجلسه مجالس الحكم، حتى حكم بين الناس.
 
ولما توفي سنة 214 عين أحمد بن أبي محرز قضاء أفريقية، وبقي في القضاء حتى وفاته في سنة 221، وكان قد أوصى أخاه عمران أن يكتم موته حتى يكفنه ويصلي عليه، خوفا أن يكفنه زيادة الله ويصلي عليه، ففعل عمران ذلك، فلما حمل نعشه وخرج به من داره، أقبل خلف مملوك زيادة الله بمسك كثير وأكفان، فقال له عمران: قد كفَّنّاه، فذرَّ خلفُ المسكَ الذي كان معه عليه، وحضر زيادة الله دفنه وعزى أخاه عنه وقال: يا أهل القيروان، لو أراد الله بكم خيراً لما خرج ابن ابي محرز من بين أظهركم.
 
كان زيادة الله من أفصح أهل بيته لساناً وأكثرهم بياناً، وكان يعرب كلامه ولا يلحن من غير تشادق ولا تقعير، وسبب ذلك أن أباه - إبراهيم بن الأغلب - إذا قدم عليه أحد من الأعراب والعلماء بالعربية والشعراء، أصحبهم ابنه زيادة الله هذا وأمرهم بملازمته، فصار فصيحاً أديباً، يقول الشعر الحسن الجيد، ويعرف فنونه:
 
جاءه من المشرق المغني المشهور زرياب، وكان عبداً أسوداً لإبراهيم الموصلي، وكان مطبوعا على الغناء، علمه إبراهيم، فدخل على زيادة الله، فغناه بأبيات عنترة:
 
فإن تكُ أمي غُرابيةً ... من ابناءِ حامٍٍ بها عبتني
 
فإني لطيفٌ ببيض الظِبا ... وسُمرِ العوالي إذا جئتني
 
ولولا فِرارك يوم الوغى ... لقُدتُكَ في الحرب أو قِدتني
 
فغضب زيادة الله من نبزه الأمير بالفرار، وأمر بصفع قفاه وإخراجه، وقال له: إن وجدتك في شيء من بلدي بعد ثلاثة أيام ضربت عنقك. فجاز البحر إلى الأندلس، وأقام عند أميرها عبد الرحمن بن الحكم.
 
أما ما وصلنا من شعره، فمنه ما قاله يخاطب أمه وانكسر في موقعة قرب بلدة سبيبة، واستولى خصومه على أغلب ملكه، فخاف أن تكون النهاية، وبلغ ذلك منه كل مبلغ، فدخلت عليه أمه تصبره وتسهل الأمر عليه، ففكر ساعة ثم رفع رأسه وأنشد أبياتاً منها:
 
أمنت سبيبة كل قِرم باسل ... ومن العبيد جماجماً أبطالاً
 
فإذا ذكرتِ مصائباً بسبيبة ... فابكى جلاجل واندبى إعوالا
 
يا ويح نفسي حين أركب غادياً ... بالقيروان تخالني مختالاً
 
بكتيبة مثل النجوم طوالع ... وتخالني بين النجوم هلالا
 
فاليوم أركب في الرعاع ولا أرى ... إلا العبيد ومعشراً أنذالا
 
وله في الغزل:
 
بالله لا تقطعن بالهجر أنفاسي ... فأنت تملك إنطاقي وإخراسي
 
صدود طرفك عن طرفي إذا التقيا ... مجرعى كأس إرغام واتعاس
 
لو لم أُبِحْكَ حِمى قلبي ترود به ... لم تستبح مهجتي يا أملح الناس
 
وله أيضاً في تفاحة:
 
ولابسة ثوب اصفرار بلا جسم ... تنم بأنفاس الحبيب لمشتَمِّ
 
تجمعَ معشوقٌ لديها وعاشق ... فذو نظر يرنو إليها وذو شمِّ
 
سأُفنِيكَ أو أُفني عليكِ تذكراً ... لمن أنت عطر منه في الرشف واللثم
 
فقد هِجتِ في قلبي لظى لتذكري ... وعنوانُه في مقلتي دمعةٌ تهمي
 
كأنيَّ أُدني حين أُدنيك مَنْ به ... أثرتِ اشتياقي في عناق وفي ضم
 
توفي زيادة الله في 14 رجب سنة 223، وتولى بعده أخوه الأغلب بن إبراهيم بن الأغلب، وكان وزيره في آخر سنواته، واستلم الأغلب الحكم والأمان عام في البلاد، فلم تكن في أيامه حروب وثورات، فأجرى على العمال الأرزاق الواسعة والعطايا الجزيلة، وقبض أيديهم عن أموال الناس، وكفّهم عن أشياء كانوا يتطاولون إليها، وتوفي بعد حوالي 3 سنوات في سنة 226.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين