أنتم في واد وأنا في واد - قصة العز بن عبد السلام مع الملك الصالح
أنتم في واد وأنا في واد
قصة العز بن عبد السلام مع الملك الصالح
بقلم فضيلة الشيخ: محمد صالح الفرفور
" ولكن يا مسكين لا أرضى السلطان أن يُقَبِّلَ يدي فضلاً عن أن أُقبِّل يده".
هكذا أجاب سلطان العلماء العزُّ بن عبد السلام حينما جاء حاجب الملك الصالح بمنديل الأمان والعفو عنه، وأخذ يُلاطفه ويُلاينه، ويَعِده بالعود إلى مناصبه التي عُزل عنها وما كان عليه من عزٍّ وجاه، فقال حاجب الملك:" يا سيدي الأستاذ ، ليس بينك وبين أن تعود إلى مناصبك وما كنت عليه من عزٍّ وزيادة فيما تريد إلا أن تنكسر للسلطان وتُقَبِّل يده لا غير...". قال الحاجب هذا الكلام ظاناً أنَّ الشيخ سيفعل ما يريد، وأنَّ الإغْراء قد أخذ منه مَأْخذه ، لأنَّ أهل الدنيا إذا استعصى عليهم رجلٌ صلبُ العود نصبوا له شباكاً من شباك الصيد الغرّارة، إما الوظيفة وإما المال وإما المرأة، فلابدَّ أن يقع في أحد الشراك الثلاثة على ما يعتقدون أو بها جميعاً.
وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم :" إن الدنيا خلوة خضرة ، وإن الله مستخلفكم فيها فناظرٌ كيف تعملون، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء"[ مسلم : 2742].
غير أنَّ النفوس الأبيَّة العظيمة المطمئنة التي زهدت في دنياها، بل فيما سوى الله تعالى لا يُحوِّل مَجْراها درهم ولا دينار ولا جاه، بل تظهر عظمتها في الضيق والأزمات.
فالشيخ حينما سمع ما يقوله حاجب الملك من الليونة والإِغْراء، انقلب أسداً غضنفراً هصُوراً لا ترى فيه ضعفاً ولا ليناً، وتحرَّكت في قلبه عزَّة الإيمان المقرونة بعزَّة الله وعزَّة رسوله ، وصرخ في وجه الحاجب قائلاً:
" ولكن يا مسكين ما أرضى السلطان أن يُقبل يدي هذه فضلاً عن أن أقبِّل يده" ، ثم قال بصوت عال ملؤه الغضب والغيظ:" يا قوم أنتم في وادٍ وأنا في واد، والحمدُ لله الذي عافاني ممَّا ابتلاكم به".
سمع الحاجب من الشيخ ، ولم يَدُر في خلده أن يسمع مثل ذلك ، وكأنَّ صخرة سقطت على رأسه، ولم يَدْر ما يفعل ولا ما يقول، وقد ملك الشيخُ عليه مشاعره، بعزَّة نفسه وصدق إيمانه وثقته بالله سبحانه.
تماسك الحاجب حين سمع، ثم تماسك، ثم قال بصوتٍ خافت خانع تجري في نبراته أسلاك الخوف والذل والصغار:" ولكن سيدي قد رسم لي السلطان إن لم توافق على ما أقول أن أعتقلك فماذا تقول"؟!!!.
وقد ظنَّ أنَّ تهديده يُؤثِّر في نفس الشيخ فتلين قناته ويَسْلس قياده فيرضى بالواقع راغماً ، غير أنَّ الشيخ لم يزدد إلا قوة فوق قوة وثباتاً على ثبات، وكأنَّ وحياً قد نزل عليه فثبَّت جنانه وألقى في رُوعه فجعله لا يبالي بملك ولا عذاب، وانمحت معالم الدنيا بما فيها من بين عينيه، وكثيراً ما يكون مثل هذا للعظماء أصحاب النفوس الزكيَّة الذين عَزَفت نفوسهم عن الدنيا وترفَّعوا عنها ، فقال الشيخ وهو يتميَّز غيظاً:" افعلوا ما بَدَا لكم، افعلوا ما بَدَا لكم" ، ولم يسأل عما يفعلون ، فقالوا في نفوسهم: ما لهذا الشيخ إلا أن نعتقله ، فاعتقلوه في خيمة قريبة من خيمة السلطان، وظنوا أنَّ الاعتقال يؤثِّر فيه فيلين.
غير أن الشيخ قد ألفى أُنساً في خلوته تلك، فشرع يتلو القرآن ويرتله أحسن ترتيل متدبِّراً معناه، وكأنَّ الفرج قد جاءه من حيث لا يدري ، ونفحةً ساقها الله إليه بهذه العزلة.
فقال الملك الصالح لملوك الفرنج وقد كانوا مجتمعين عنده في خيمته:" أتسمعون هذا الشيخ الذي يقرأ القرآن؟ قالوا: نعم، قال: هذا أكبر عالمٍ في المسلمين، وقد حبسته من جرّاء تسليمي حصون المسلمين لكم، وعزلته عن الخطابة بدمشق وعن بقية مناصبه فهو معتقل لأجلكم محبوس".
فَدُهِشَ ملوك الفرنج لما سمعوا عن الشيخ الذي لم تغرَّه الدنيا بحذافيرها، ولم يتهيَّب الملك، ولم تأخذه في الله لومة لائم، وتمنوا أن يكون عندهم أمثال هذا الشيخ ليفخروا به، فقالوا:" لو أنَّ هذا الشيخ قسيساً كان عندنا لغسلنا رجليه وشربنا ماءها".
ثم هزم الله ملوك الفرنج، وأنزل النُّصرة على المؤمنين ، وأقبل الملكُ الصَّالح على العزِّ بن عبد السلام يعتذر إليه ويلاطفه ، وولاَّه خطابة مصر وقضاءها، وفوّض إليه عمارة المساجد ، فرضي من الملك الصَّالح بالرجوع إلى وظائفه، فأقام مدّةً يسيرة ثم عزل نفسه عن الحكم، فرجاه السلطان وتلطَّف له فرجع ثم عزل نفسه، ثم رجع السلطان ورجاه وزاد في تلطُّفه، وفي الثالثة طلب الشيخ من السلطان أن يمضي عزله ورجاه وألحّ عليه، فقبل السلطان على كرهٍ وأمضاه.
هكذا تكون النفوس الأبيَّة التي سُقيت بماء الإيمان ، فقد أورثها الله العزَّة في كل زمان ومكان، وجعل الملوك تتهيبها وترجوها، فتصبح مثلاً أعلى ونبراساً للأمة، ومرجعاً يُهتدى بها في دياجير المحن والأزمات" من نسمات الخلود 127ـ132، وقد نقل الشيخ ـ رحمه الله تعالى ـ القصة من طبقات الشافعية الكبرى للسبكي8/243ـ244.
 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين