والوقت أنفس ما عنيت بحفظه - الوقت
والوقت أنفَسُ ما عَنيتَ بحفظهِ
بقلم:  بشار بكور
طالب دراسات عليا
إنّ من طبيعة الإنسان أن يزهدَ فيما حوزته وتحت قدرته، ويستطرفَ البعيد ويعظم الغريب، حتى إذا نزح ما كان بالأمس قريباّ وغدا ما كان قبلُ موجوداً ذهبت نفسه حسرات عليه.
ومن الواقع المشاهد أن تجد المرء- وهو في نفَس من وقته وسعة- لاهياً عابثاً يمشي سبهللاً، لا يأسف على ما يفوت من وقته، ولا يغتنم اللحظة الراهنة، بل ربما لا يفكر في قادمات أيامه. وكأن في جَعبته من الزمن ما هو كفيل باستدراك ما فات، ولكن هيهات فإن  الوقتَ لا ينتظر والشمسَ لا تحبس والساعة في دوران دائب ومستمر إلى قيام الساعة.
ومما يؤسف له أشد  الأسف أن كثرة? كاثرة? من الناس لا تعي قيمة الوقت ونفاسته إلا بعد مضيّه والحاجةُ إليه ماسة. ورد في حديث صحيح: » نعمتان مغبونٌ فيهما كثيرٌ من الناس الصحة والفراغ«. لذا فإن المريض هو الذي يعرف قيمةَ الصحة ويقدِّرها قدرها، فتراه يغبط الأصحَّاء ويُزري عليهم إهمالهم لها.
 وأما الذي تواترت عليه الأعمال والأشغال فلسان حاله يقول : لو أني استقبلتُ من أمري ما استدبرتُ لما تركتُ لحظة إلا اغتنمتها ولو أنَّ البكاء يجدي لبكيت دماً لا دمعاً، ولو أن ... وليت..... وهل ينفع شيئاً ليتُ.
ولعل القارئ الكريم يشاطرني الرأي في أن هدر الوقت في عالمنا العربي والإسلامي من أهم أسباب تخلُّفنا وتقهقرنا. إذ الوقت هو رأس المال الذي يملكه كل فرد فينا: الفقير والغني، الرجل والمرأة، الطالب والأستاذ.الخ على أن نسبة اشتراكنا في هذه النعمة الجـُلّى تختلف من إنسان لآخر. والمجدود فينا من يغتنم القسط الأوفى منها. ونكاد نتفق حميعاً على أن الاستفادة من الوقت وترشيدَه من العلامات المميزة بين الشعوب المتقدمة والمتخلفة، وبين مَن سمت همته إلى العلياء ومن جمّد طاقاته ومواهبه.
 فالصنف الأول ما كان ليتبوّء تلك المكانة لولا استغلاله الوقت واستثماره فيما ضمن له حياة? كريمة وعيشاً رغيداً.
 أما الصنف الثاني- وإليه ننتمي- فكان من خبر أهله أنهم استوطؤوا العجز وقنعوا باليسير من وقتهم، جاعلين نصب أعينهم جواب بعضهم حين سئل: لم لا تطيل الهجاء؟ فقال: يكفيك من القلادة ما أحاط بالعنق. ومُردّدين قول الشاعر:
دعِ المكارمَ لا ترحلْ لبُغيتها       واقعدْ فإنًك أنتَ الطّـاعمُ الكاسي
فإلى أيٍّ تحب أن تنتمي؟
إذا ما علا المرءُ رامَ العُلا          ويقنعُ بالدونِ مَن كان دونا
وإذا أردت أن تبني لنفسك حيّاً وميتاً مجداً تليداً، ولسانَ صدقٍ في الآخرين، فما عليك بدايةً إلا أن تستشعر قيمةَ الوقت وتدرك عظيمَ خطره، وأنك لست ـ في الحقيقة ـ إلا ليالي وأياماً متى ذهب بعضُها ذهب بعضك، وأن  ما ضاع منك جديرٌ أن تطول حسرتك عليه وأسفك له كحال مَن سرق منه اللصوصُ جميع ما يملكه من مالٍ ومتاع وتركوه نهباً للضياع. وهذا من شأنه أن يورثك يقيناً بأهمية الوقت فيجعلك ضنيناً به،حريصاً على أن تصرفه في وجوهه، وتستثمره في مجالات شتَّى إما في كتاب تقرؤه، أو عملٍ نافع تقوم به، أو رياضة مفيدة، أو نصيحة تُسديها، أو اهتمام بأولادك ثقافياً وجسدياً وروحياً..الخ عوضاً عن إنفاق الساعات مثلاً أمام التلفاز الملهاة الأكبر في حياتنا.
((كما أن برمجة الوقت تساعدنا على تنظيم الاستفادة من أوقات الفراغ في دعم أبعاد ذاتنا كلها عوضاً عن الشعور بالفراغ والتفاهة، وعوضاً عن إهمال تنمية جوانب مهمة في شخصيتنا بسبب سوء للتنظيم وسوء التوزيع لطاقاتنا وأوقاتنا)).
ومن العوامل التي لها كبير الأثر في إيقاظ الوعي بأهمية الوقت ونفاسته: قراءةُ أخبار الرجال وتراجم العلماء السابقين والاطلاع على ما كانوا عليه من حرصٍٍ شديدٍ على أوقاتهم، يقول الحسن البصري (ت 110 هـ): أدركتُ أقواماً كانوا على أوقاتهم أشد  منكم حرصاً على دراهمكم ودنانيركم .
 وإن القارئ لتأخذه الدهشة ويستولي عليه العَجب والإعجاب من أحوال هؤلاء الرجال في ملئهم أوقاتهم بتحصيل العلوم واقتناص الفوائد، فما كان يؤنسهم في وحشتهم إلا الكتب والدفاتر، ولا يصحبهم إلا الأقلامُ والمحابر، شمّروا عن ساق الجد ما أطاقوا إلى أن أصبحوا غرّة الدهر والزمان ليس لهم في مجدهم نظيرٌ، وإن آثارهم في كل فرعٍ من فروع المعارف لشاهدُ صدقٍ على ذلك.
أقول: ونحن أيضاً قد أوتينا مثل ما أوتي أسلافنا بل ربما أكثر، ولكن على النقيض مما ذكرت، أعني عجزاً وتخاذلاً وسوءَ ذكر وفتورَ همَّة.
وأدع الكلام الآن لكتب التاريخ والتراجم لتخبرنا عن واقع أجدادنا وكيف كانوا يديرون أوقاتهم ويستفيدون منها مما أورثهم من جميل الذكر وطيب النشر ما ستقف على بعضٍ منه.
   الشيخ الرئيس، الحسين بن عبد الله ابن سينا ( 370 – 428 هـ) أصله من بلخ، وولد في إحدى قرى بخارى، كان باقعة? وصاحب ذكاءٍ خارق، وجاء في ترجمته: أنه لما بلغ عشر سنين كان قد أتقن علوم القرآن والأدب، وحفظ أشياء من أصول الدين وحساب الهندسة والجبر المقابلة، واعتنى بتحصيل العلوم، كالطبيعي والإلهي وغير ذلك، ونظر في النصوص والشروح، وفتح الله عليه أبواب العلوم، ثم توجّه إلى علم الطب وقرأ الكتب المصنفة فيه، وعالج تأدُّباً لا تكسُّباً، ولم يبلغ ست عشرة سنة? حتى فاق فيه الأوائل والأواخر وأصبح مرجعَ أهل زمانه، وخلال فترة تعلُّمه لم ينم ليلةً واحدةً بأكملها، ولا اِشتغل في النهار بسوى المطالعة، وكان إذا أشكلت عليه مسألةٌ توضأ وقصد المسجد الجامع وصلى، ودعا الله تعالى أن يُسهلها عليه ويفتح مغلقها له، ولم يستكمل ثماني عشرة سنة إلا وقد فرغ من تحصيل العلوم بأسرها.
·           الجاحظ عمرو بن بَحْر ( 163 – 255 هـ) يقول عنه ياقوت الحمَوي: كان من الذكاء وسرعة الخاطر والحفظ بحيث شاع ذكره وعلا قدره واستغنى عن الوصف.
ويقول أبو هِفَّان : لم أر قطُّ ولا سمعت مَن أحب الكتب والعلوم أكثر من الجاحظ، فإنَّه لم يقع في يده كتابٌ قطُّ إلا استوفى قراءته كائناً ماكان حتى إنه كان يكتري دكاكينَ الورَّاقين ويبيت فيها للنظر.
وقيل لأبي العيناء: ليت شعري أيَّ شيء كان الجاحظ يحسن ؟ فقال: ليت شعري أيَّ شيء كان الجاحظ لا يحسن.(5) رحم الله الجاحظ ما مقلتِِِ العيون مثله.
·           ومن الذين تبوءوا الذروة في حفاظهم على الزمن الإمام أبو الوفاء عليُّ بن عقيل الحنبلي ( 431 – 513 هـ) كان بحراً من العلم مُفرط الذكاء يقول عن نفسه: إني لا يحلُّ لي أن أضيع ساعة? من عمري، حتّى إذا تعطَّل لساني عن مذاكرة أو مناظرة وبصري عن مطالعة، أعملتُ فكري في حال راحتي وأنا منطرح، فلا أنهض إلا وقد خطر لي ما أسطِّره، وإنِّي لأجد من حرصي على العلم وأنا في عَشر الثمانين أشدَّ مما كنت أجده وأنا ابن عشرين سنة، وأنا أقصِّر بغاية جهدي أوقات أكلي حتى أختارُ الكعك وتحسِّيه بالماء مع الخبز لأجل ما بينهما من تفاوت المضغ، توفُّراً على مطالعة، أو تسطير فائدة لم أدركها فيه، وإنَّ أجلَّ تحصيل عند العقلاء بإجماع العلماء هو الوقت، فهو غنيمة تنتهز فيها الفرص، فالتكاليف كثيرة والأوقات خاطفة.
وكان من ثمرات استثماره لوقته أنْ صنف كتاباً لم يصنف في الدنيا أكبرُ منه وهو كتاب "الفنون" الذي بلغ مئات المجلدات، مع العلم أنه واحد من عدَّة كتب صنفها.
·           ومن العلماء الذين خلَّدهم العلم: الإمام الجليل يحيى بن شرف الدين النَّووي ( 631 – 676 هـ ) كان يقرأ كل يوم اثني عشر درساً مع الضبط والتعليق. قال عنه تلميذه أبو الحسن بن العطار:كان لا يضيع له وقتاً لا في ليل ولا في نهار إلا في الاشتغال بالعلم حتى في الطريق يكرِّر أو يطالع ودام على هذا ستَّ سنين،ثم أخذ في التصنيف والإفادة والنصيحة وقول الحق.
 وكان لا يأكل في اليوم والليلة إلا أكلةً بعد عشاء الآخرة، ويشرب شربةً واحدة عند السحر ويمتنع عن أكل الفواكه والخيار ويقول: أخاف أن يُرطٍّب جسمي ويجلب لي النوم ولم يتزوج.
وإن كتب التراجم تضم العشرات بل المئات من أمثال هؤلاء العلماء الذين لولا اغتنامهم لأوقاتهم بطريقة مدهشة حقاً لما امتلأت مكتبات العالم وغيرهابنتاجهم الفذّ الفريد المعجب.
وقد يعترض البعض قائلين: لكنّ هؤلاء العلماء قد مُنِحوا من صفاء الذهن وجودة القريحة والذكاء الوقاَّد ما لاتكاد تجد له نظيراً في زماننا، زد على ذلك صوارف الدنيا ومشاغلها ومشاكلها التي ننوء بها، وما أفرزته الحضارة من علوم ومخترعات لم تكن في السابقين علينا أن نلمٍَّ بها، فأنَّى لنا أن نكون أمثالهم.
الجواب: أنه لا غبار على هذا الاعتراض، لكن الأمر الذي أركّز عليه هو الاهتمام بالوقت قدر المستطاع، وأن نزرع في نفوسنا بذرةَ الحرص عليه، ثم نتعهدها بالرعاية والعناية إلى أن تثمر وتأتي أكلها، ولا شك أن لدى كل واحد فينا -مهما كان مشغولاً- وقتاً مهملاً لا هو وقت عمل ولا وقت راحة فلمَ لا نُحييه بفائدة ما عوضاً عن أن يذهب هدراً دون أن يكون لنا فيه بصمةٌٍ أو أثر حسن.
 دعونا نفرض أن لدى المرء كل يوم ساعة واحدة فقط من الوقت المهمل، ولا شك لدينا أكثر من ذلك، فهذا يعني في الشهر 30 ساعة، وفي السنة 360 ساعة أي أسبوعان كاملان، ترى كم كتاباً يٍُقرأ أو عملاً ينجز في هذه المدة ؟ سوف نرى النتيجة معاً من خلال أناسٍ عرفتهم عزَّ عليهم أن يمضي هذا الوقت المهمل دون فائدة فم يتركوه إلا وقد خرجوا بفوائد جليلة وإنجازات مشرفة.
1-حدثني أحد أساتذتي أنه في صغره عمل مع والده في الكِلاسة، وكان لديه كل يوم وقت مهمل يقرب من ساعة أو أكثر، قال: فكنت آخذ معي ألفية ابن مالك في النحو الصرف وأحفظ 5- 6 أبيات، وهكذا كان ديدني كل يوم حتى حفظتها كلها.
2-أحدهم كان طالباً في الدراسات العليا في الأدب الإنكليزي وكان قليلاً ما يحضر بسبب ظروف عمله الذي يقتضي أن ينفق جل وقته راكباً سياراته، فما كان منه إلا أن سجَّل بصوته أهم الأبحاث المطلوبة، وصار يستمع إلى الأشرطة أثناء القيادة، وقد حاز في نهاية السنة الدرجة الأولى وفاق جميع زملائه المتفرغين.
3-وآخر حفظ خلال سنتين 9000 كلمة إنكليزية عندما كان يركب وسيلة النقل متَّجهاً إلى مدرسته وعائداً منها إلى منزله، وهكذا كل يومٍ غدواً ورواحاً حتى تخرج ولديه ذلك الرصيد الكبير من الكلمات.
4-وأحدثك عن ربَّة منزل حفظت القرآن الكريم كله عن ظهر قلب عن طريق الأشرطة المسجلة أثناء قيامها بالأعمال المنزلية.
أرأيت أيها الأخ القارئ ما يمكن أن يُسفر عنه اغتنام ساعة أو نصف كل يوم، قد لا يعبأ الناس بنصف ساعة على حدة، ولكنها بعد شهر 15 ساعة، وبعد سنة 180 ساعة فهي ساعات، وكما يقال :الوقت جمع وليس بنبع:
اليومَ شيءٌ وغداً مثلُه     من نُخَب العلم التي تُلتقطْ
يُحصِّل المرءُ بها حكمة?    وإنما السَّيلُ اجتماعُ النقطْ
من موقع : رسالتي


جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين