كيف كانوا وكنا..

الشيخ : مصطفى السباعي

جاء في التاريخ العام للأفيس ورامبو ما يلي: كانت إنكلترا الأنجلوسكسونية في القرن السابع الميلادي إلى ما بعد العاشر فقيرة في أرضها منقطعة الصلات بغير بلادها، سمجة وحشية، تبنى البيوت بحجر غير منحوت، وتشيدها من تراب مدقوق، وتجعلها في وطاء من الأرض، مساكن ضيقة المنافذ، غير محكمة الإغلاق، واصطبلات وحظائر لا نوافذ لها، تقرض الأمراض والأوبئة المتكررة المواشي والسائمة وهي المورد الوحيد في البلاد، ولم يكن الناس أحسن مسكناً وأمناً من الحيوانات، يعيش رئيس القبيلة في كوخه مع أسرته وخدمه ومن اتصل به، يجتمعون في قاعة كبرى في وسطها كانون ينبعث دخانه من ثقب فتح في السقف فتحاً غليظاً، ويأكلون كلهم على خوان واحد، يجلس السيد وقرينته في أحد أطراف المائدة، ولم تكن الشوكات معروفة، وللأقداح حروف من أسفلها، فكان على كل مدعو أن يمسك بيده قدحه، أو يفرغه في فيه دفعة واحدة. وينتقل السيد إلى غرفته في المساء بعد أن يتناولوا الطعام ويعربدوا على الشراب، ثم ترفع المنضدة والصقالات، وينام جميع المجتمعين في تلك القاعة على الأرض. أو على دِكَك، واضعاً كل فرد سلاحه فوق رأسه، لأن اللصوص كانوا من الجرأة بحيث يقتضي على الناس أن يقفوا لهم بالمرصاد كل حين لئلا يؤخذوا على غرة.
وكانت أوروبا في ذلك العهد غاصة بالغابات الكثيفة، متأخرة في زراعتها، وتنبعث من المستنقعات الكثيرة في أرباض المدن روائح قتالة، تجتاح الناس وتحصدهم. وكانت البيوت في باريس ولندن تُبنى من الخشب والطين المعجون بالقش والقصب (كبيوت القرى عندنا منذ نصف قرن) ولم يكن فيها منافذ ولا غُرف مدففة، وكانت البسط مجهولة عندهم، لا بساط لهم غير القش ينتشرونه على الأرض، ولم يكونوا يعرفون النظافة، ويلقون بأحشاء الحيوانات وأقذار المطابخ أمام بيوتهم، فتتصاعد منها روائح مزعجة، وكانت الأسرة الواحدة تنام في حجرة واحدة تضم الرجال والنساء والأطفال، وكثيراً ما كانوا يؤون معهم الحيوانات الداجنة، وكان السرير عندهم عبارة عن كيس من القش فوقه كيس من الصوف، يُجعل مخدة أو وسادة، ولم يكن للشوارع مجارٍ ولا بلاط ولا مصابيح، ولم تكن أكبر مدينة في أوروبا تضم أكثر من خمسة وعشرين ألفاً.
هكذا كان الغرب في القرون الوسطى حتى القرن الحادي عشر فما بعده، باعتراف مؤرخيهم أنفسهم، فلننتقل سريعاً – قبل أن ننسى هذه الصورة – إلى الشرق، إلى حيث المدن والعواصم كبغداد ودمشق وقرطبة وغرناطة وإشبيلية.. لنرى كيف كانت هذه المدن وكيف كانت حضارتها.
لنرى مدن الأندلس، فهي مجاورة لأوروبا التي نتحدث عنها، ولنبدأ بقرطبة، ولنحاول أن نلم بملامحها الظاهرة، لا بكل شيء فيها، فكيف نجدها؟
كانت قرطبة في عهد عبد الرحمن الثالث الأموي عاصمة الأندلس المسلمة، تنار بالمصابيح ليلاً ويستضيء الماشي بسُرجها عشرة أميال لا ينقطع عنه الضوء، (أي ستة عشر كيلومتراً)، أزقتها مبلطة، وقماماتها مرفوعة من الشوارع، محاطة بالحدائق الغناء حتى كان القادم إليها يتنزه ساعات في الرياض والبساتين قبل أن يصل إليها، كان سكانها أكثر من مليون نسمة (في ذلك العصر الذي لم تكن فيه أكبر مدينة في أوروبا تزيد عن خمسة وعشرين ألفاً) وكانت حماماتها تسعمائة حمام وبيوتها 283.000 بيت وقصورها ثمانون ألف قصر، ومساجدها ستمائة مسجد، وكانت استدراتها ثمانية فراسخ (أي ثلاثين ألف ذراع). كان كل ما فيها متعلماً، وكان في ربضها الشرقي مائة وسبعون امرأة كلهن يكتبن المصاحف بالخط الكوفي، هذا في ناحية واحدة من نواحيها، وكان فيها 80 مدرسة يتعلم فيها الفقراء مجاناً، وخمسون مستشفى. وأما مسجدها فكان ولا تزال آثاره حتى اليوم آية خالدة في الفن والإبداع. كان ارتفاع مئذنته أربعين ذراعاً تقوم قبته الهيفاء على روافد من الخشب المحفور، وتستند إلى 1093 من الأعمدة المصنوعة من مختلف الرخام على شكل رقعة الشطرنج فيتألف منها تسعة عشر صحناً طولاً وثمانية وثلاثون صحناً عرضا، وكان يضاء في الليل بأربعة آلاف وسبعمائة مصباح تستنفد في كل سنة 24 ألف رطل من الزيت، وترى في وجهه الجنوبي تسعة عشر باباً مصفحاً، بصفائح برونزية عجيبة الصنع خلا الباب الوسط الذي كان مصفحاً بألواح من الذهب، وترى في كل من وجهه الشرقي الغربي تسعة أبواب مشابهة لتلك الأبواب، أما محرابه فحسبك أن يقول فيه مؤرخو الفرنج (أنه أجمل ما تقع عليه عين بَشَر، وأنه لا يرى أحسن من زخرفه وسنائه في أي أثر قديم أو حديث).
وقد ألحق بقرطبة بناء الزهراء الخالد في التاريخ بفنه وروعته حتى قال فيه المؤرخ التركي ضيا باشا: (إنه كان أعجوبة الدهر التي لم يخطر مثل خيالها في ذهن بنَّاء منذ برأ الله الكون، ولا تمثل رسم كرسمها في عقل مهندس منذ وُجدت العقول).
وفي الزهراء المجلس المسمى (قصر الخلافة) وكان سقفه وحيطانه من الذهب والرخام الغليظ الصافي لون المتلون أجناسه، وفي وسطه حوض عظيم مملوء بالزئبق، وفي كل جانب من جوانب المجلس ثمانية أبواب على حنايا من العاج والأبنوس المرصع بالذهب وأصناف الجواهر قامت على سواري من الرخام الملون والبلور الصافي، وكانت الشمس تدخل على تلك الأبواب فيضرب شعاعها على صدر المجلس وحيطانه، فيصير من ذلك نور يأخذ بالأبصار، وكان الناصر إذا أراد أن يفزع أحداً من أهل مجلسه أومأ إلى أحد مواليه فيحرك ذلك الزئبق، فيظهر في المجلس كلمعان البرق من النور، ويأخذ بمجامع القلوب، حتى يخيل لكل من في المجلس أو المحل قد طار بهم ما دام الزئبق يتحرك.
وكان فيها دور الصناعة والآلات: كدار صناعة آلات السلاح للحرب ودار صناعة الحلي للزينة، ودار صناعة النحت والزخارف والتماثيل وغير ذلك من المهن والصناعات، استغرق بناء الزهراء أربع سنوات.
وفي هذا القصر العظيم استقبل الخليفة المستنصر عام 351هـ ملك إسبانيا المسيحية أردون بن اذفونش، وقد أصابه الذهول حينما دخل الزهراء ورأى أبهتها وعظمتها وخدمها وجندها وسلاحها، ثم زاد ذهوله حين وصل إلى مجلس الخليفة المستنصر وفي جانبه عظماء المملكة وأشرافها وفحول العلماء والخطباء وأكابر القواد، فلما قارب ملك الإسبان الدنو من الخليفة المستنصر كشف رأسه وخلع برنسه وبقي حاسراً حتى أذن له الخليفة بالاقتراب منه.
وإذا انتقلنا من ذلك إلى غرناطة تجلت لنا عظمة البناء والعمارة في قصر الحمراء وقد كان آية عجباً يدهش له الناظرون، ولا يزال رغم عوادي الزمن محط أنظار السائحين من بلاد العالم كلها، أُقيم هذا القصر على منحدر جبل يشرف على مدينة غرناطة وحقول البقعة الواسعة الخصيبة المحيطة بها، فبداً من أجمل أمكنة العالم. وكانت فيه قاعات متعددة منها قاعة الأسود، وغرفة الأختين، وقاعة العدل، وقاعة السفراء، ولا يمكننا في هذا الحديث القصير أن نُلم بوصف الحمراء.
وأما الحديث عن المدن الأندلسية الأخرى وما كانت عليه من رقي وعظمة فذلك حديث يطول، وحسبنا أن نذكر هنا أن إشبيلية كان فيها ستة آلاف نول للحرير وحده، وكانت محاطة من كل أطرافها بأشجار الزيتون، ومن ثم كان فيها مائة ألف معصرة للزيت.
ولنتحول بعد ذلك إلى العالم الإسلامي الشرقي لنرى نموذجاً من مدنه الكبرى وحضاراته الرائعة. وسأقتصر هنا على بغداد وكيف كانت حين بنيت من عجائب الدنيا التي لا مثيل لها في القديم.
كانت بغداد قبل أن يبنيها المنصور الخليفة العباسي الشهير ضيعة صغيرة يجتمع فيها على رأس كل سنة التجار من الأماكن القريبة منها، فلما عزم المنصور على بنائها أحضر المهندسين وأهل المعرفة بالبناء والعلم بالذرع والمساحة وقسمة الأرضين، ثم وضع بيده أول آجُرة في بنائها وقال: بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين. ثم قال: ابنوا على بركة الله، بلغ مجموع ما أُنفق على بنائها أربعة ملايين وثمانمائة ألف درهم، وبلغ عدد العمال المشتغلين فيها مائة ألف، وكان لها ثلاثة أسوار يلي الواحد منها الآخر. بلغ عدد سكانها مليوني نسمة، وبلغت عدد دروبها وسككها ستة آلاف بالجانب الشرقي وأربعة آلاف بالجانب الغربي، وكان فيها عدا دجلة والفرات، أحد عشر نهراً فرعياً تدخل مياهها إلى جميع بيوت بغداد وقصورها، وكان في نهر دجلة وحده من المعديات (المعبرانيات) ثلاثين ألفاً، أما حماماتها فقد بلغت ستين ألف حمام، وفي أواخر عهد العباسيين بها، تناقص هذا العدد إلى بضعة عشر ألف حمام، وأما مساجدها فقد بلغت ثلاثمائة ألف مسجد، وأما سكانها وكثرة العلماء والأدباء والفلاسفة فذلك فيها لا يحيط به حصر.
ونختم حديثنا هذا بوصف عظمتها في عهد المقتدر بالله ومبلغ ما وصلت إليه أبهة الخلافة في عصره. حين زارها رسول ملك الروم. كانت دار الخلافة في اتساعها تفوق مدينة كبيرة من مدن سوريا اليوم.
فلما وردها رسول ملك الروم أنزل في دار الضيافة ثم صف العسكر من دار الضيافة إلى دار الخليفة, فبلغ عددهم مائة وستين ألف فارس وراجل, فسار بينهم إلى أن بلغ الدار, ثم سلم على الخليفة وأمر أن يطاف به دار الخليفة وقد أفرغت, ولم يبق فيها إلا سبعة آلاف خادم وسبعمائة حاجب وأربعة آلاف غلام أسود, وفتحت الخزائن وآلات السلاح والحرب فيها مرتبة كما ترتب أجهزة العرائس, ولما دخل رسول ملك الروم دار الشجرة ذهل إذ رآها, وكانت شجرة من الفضة وزنها خمسمائة ألف درهم, لها ثمانية عشر غصن لكل غصن فيها أغصان صغيرة وقفت عليها الطيور والعصافير من كل نوع مذهبة ومفضضة وأكثر قضبان الشجرة فضة وبعضها مذهب وهي تتمايل في الأوقات, ولها ورق مختلف الألوان يتحرك كما تحرك الريح ورق الشجر, وكل من هذه الطيور الفضية والذهبية يصفر ويهدر, وفي جانب دار الشجرة تماثيل خمسة عشر فارسا على خمسة عشر فارسا قد ألبسوا الديباج وفي أيديهم مطارد على رماح يدورون على خط واحد, كأن كل واحد منهم يقصد صاحبه, ثم أدخل إلى القصر المعروف بالفردوس فكان فيها من آلت السلاح ما يحصى, ثم أخرج من قصر إلى قصر – في دار الخلافة نفسها - حتى بلغ ما طافه ثلاثة وعشرون قصرا إلى أن عادوا إلى مجلس المقتدر بالله مرة أخرى بعد ما استراحوا سبع مرات. ومما ما زاره رسول ملك الروم في دار الخلافة دار الوحوش وفيها مختلف أنواع الحيوان المستأنسة والمتوحشة, ودار الفيلة وفيها أربعة فيلة على كل فيل ثمانية نفر من الهنود, ودار السباع وفيها مائة سبع, خمسون يمينا وخمسون يسارا, كل سبع منها في يد سباع وفي رؤوسها وأعناقها السلاسل والحديد. ولا ريب أن رسول ملك الروم قد بلغت الدهشة في نفسه مبلغها حين رأى عظمة دار الخلافة, فما في الدنيا يومئذ دار كهذه الدار التي رآها, وحسبنا هذا الذي ذكرناه لندرك روعة حضارتنا في إبان عظمتها وقوتها.
مجلة الأزهر السنة الثامنة والأربعون ، ربيع الآخر 1396 الجزء الرابع

 

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين