حدث في السابع من رجب

في السابع من رجب من سنة 1031 = 20 مايو 1622 قُتل في إستانبول السلطان عثمان الثاني، عن سن يناهز 19 عاماً، بعد أن أمضى في الحكم قرابة 4 سنوات، ولهذا السلطان الشاب الوسيم الشجاع سيرة شعبية بطولية طالما رددها الحكواتي في مقاهي تركيا.

ولد السلطان عثمان في إستانبول سنة 1012 = 1603، وكان والده السلطان أحمد الأول باني المسجد المعروف، وأمه محظية يونانية الأصل اسمها ماريا اعتنقت الإسلام وتسمت بخديجة، وتذكر المراجع التاريخية أنها – على صغر سنها إذ كانت في الرابعة عشرة من العمر عندما ولدته – اهتمت كثيراً بتعليم ابنها البِكر عثمان، فتعلم اللغات التركية والعربية والفارسية واللاتينية والإيطالية، وكان يكتب الخط بالقاعدة الفارسية، وتوفيت والدته سنة 1030 في حياة السلطان عثمان.
مكث والده السلطان أحمد مدة 14 سنة في الحكم، ولما توفي، عن 27 عاماً، في 13 ذي القعدة 1026، خلف أربعة من الذكور هم عثمان ومحمد ومراد وإبراهيم وكانوا صغاراً أكبرهم عثمان في الرابعة عشرة، فنصب القائمون على الأمور، وعلى رأسهم آغا القصر والمفتى، مصطفى أخا السلطان أحمد على عرش السلطنة العثمانية، وكان عمره 36 عاماً، ولكن السلطان مصطفى كان ذا قدرات ذهنية محدودة، إلى جانب أنه قد قضى طول عمره داخل الحريم السلطاني، ولم يتعاطى في إدارة الدولة وأمور المملكة شيئا، فقد كانت عادة ملوك بني عثمان إذا تولى السلطان منهم أن يأمر بقتل إخوته أو يحجزهم في السراي كي لا يكون منهم منازع في الملك، وهي عادة مستقبحة جدا لما فيها من قتل أقرب الناس بلا ذنب أو جرم، إلا ما يخيله لهم الوهم من الخوف على الملك والاستئثار به، ولو أنهم استخدموا إخوتهم في المناصب العالية لا سيما قيادة الجيوش، لحفظوا هيبة الدولة وأخلصوا في خدمتها أكثر من المماليك أو الإفرنج الذين ربما اعتنقوا الدين الإسلامي ودخلوا في خدمة الدولة أعداء في لباس أصدقاء لتنفيذ أغراض دولهم.
واتضحت بسرعة عدم كفاءة السلطان مصطفى لشدة بذله الأموال وكثرة ركوبه إلى المحلات البعيدة من غير موكب، وكان لا يأكل الزفر مطلقاً وإنما كان يأكل الكعك الناشف واللوز والبندق وأنواع الفواكه، وكان لا يدري من أحوال الملك إلا ما أُلقيَ إليه، فلما رأى أركان الدولة أن الأمر به لا ينتظم دبروا خلعه وتولية ابن أخيه مكانه، فعزلوه في 3 من ربيع الأول من سنة 1027= 1 فبراير سنة 1618، فكانت مدته هذه ثلاثة أشهر وعشرة أيام، وأقاموا مكانه عثمان ابن السلطان أحمد ولقبوه بعثمان الثاني، كما يقال له عثمان الشاب.
وتصف كتب التاريخ كيف حصل انقلاب القصر وكيف أُتيَ بالسلطان الجديد من الحريم فيقول المحبي في خلاصة الأثر في اعيان القرن الحادي عشر: وذهب ضابط الحريم مصطفى آغا إلى السلطان عثمان في مجلسه الذي هو فيه، وهو المحل الذي كان عمه مصطفى فيه في حياة أخيه السلطان أحمد، وفتح عليه الأبواب فحصل له رعب وتخوف من أن يكون عمه أرسله ليقتله، فقال له: لا تخف أنت صرت سلطاننا، فلم يصدق ذلك، فصار يحلف له، ولا زال يتلطف به إلى أن ألبسه ثياب الملك، أدخله إلى قاعة العرش، وأجلسه على العرش، وقَبَلَ يده، وصار يفتح أبواب القصر باباً باباً، ويدخل من كان داخل الأبواب للمبايعة، حتى لم يبق أحد بغير مبايعة، هذا كله والسلطان مصطفى نائم عند والدته، ثم أرسل مصطفى أغا للمفتي وقائم مقام الوزير فحضرا وبايعا، ثم ذهبوا إلى السلطان مصطفى قبل الفجر، فطلبوه من الداخل فخرج إليهم وقال: ما جاء بكم في هذا الوقت؟ فكان أول من تكلم شيخ الإسلام أسعد، فقال له: إن أمر المملكة اختل، وإن الأعداء تسلطت علينا، ونحن نخشى ضياع الملك، وأنت لست بلائق للسلطنة، فأجابه: أنا ما طلبت منكم الملك، ولا أردته، وليس لي به مصلحة، فقالوا جميعاً: لا نكتفي بقولك هذا، ولابد أن تذهب وتبايع ولد أخيك السلطان عثمان، فإنا قد أجلسناه على العرش، فقال: جعله الله مباركاً، وأنا ليس عندي مخالفة، وذهب وبايع السلطان عثمان، فقالوا: الآن نحضر جميع الوزراء وأركان الدولة، وأشهِدْ على نفسك بالخَلع، فقال لهم: أفعل ذلك، فأرسلوا أحضروا الوزراء وقاضي العسكر، وكتبوا عليه حجة بخلع نفسه وتولية السلطان عثمان، ونودي بذلك بين الناس وفي سائر أنحاء السلطنة.
ولما تولى السلطان عثمان الثاني عرش المملكة تبينت حنكته السياسية في تقييمه للمخاطر الداخلية والخارجية التي تتهدد الدولة، فقد كان أول السلاطين الذين أدركوا هشاشة الوضع الداخلي، وضعف السلطنة بسبب مكايد رجال القصر وتلاعبهم بالسلاطين، وكذلك بسبب انحلال الجيش الإنكشاري وتدخله المستمر في أمور الحكومة، وما رافق ذلك من فساد في كل إدارات الدولة وطبقاتها.
واتجه السلطان الشاب لتأمين الوضع الخارجي تمهيداً لتنفيذ الإصلاحات الداخلية، ومن أول ما اعترضه من مشاكل مشكلة ورثها عن سابقه السلطان مصطفى كادت بسببها أن تنشب الحرب بين الدولة العثمانية وفرنسا، فقد كان أحد نبلاء بولندا مسجوناً لدى الدولة العثمانية، فساعده على الهروب كاتم أسرار السفارة الفرنسية، فأمر السلطان بسجن كاتم السر والمترجم والسفير، فاحتجت فرنسا على هذا التصرف وبدأت تؤلب القوى الأوربية والشعوب المسيحية الواقعة داخل الدولة العثمانية.
فاتجه السلطان عثمان الثاني لحل الأزمة وأمر باطلاق قنصل فرنسا وكاتبه ومترجمه، وأرسل مندوباً لملك فرنسا لويس الثالث عشر برسالة اعتذار عما حصل من الإهانة لسفيره.
وكانت الدولة العثمانية قد أبرمت قبل ست سنوات معاهدة مع إيران الصفوية تنازلت لها عن أراض في عراق العجم والقوقاز، وهي المعاهدة التي تعرف بمعاهدة نصوح باشا، والتي حددت حدود إيران مع المشرق العربي، ولكن شاه إيران عباس الأول رفض الالتزام بالاتفاقية بعد ثلاث سنوات من توقيعها، فنشبت الحرب بينه وبين الدولة العثمانية مدة ثلاث سنوات، ولما أصبح من الواضح أن الجيوش العثمانية ستهاجم أردبيل جنح الشاه للسلم، ووقع في شوال 1027معاهدة جديدة مع الدولة العثمانية تعرف بمعاهدة سراب.
كذلك أصدر عثمان الثاني أمرا بحصر اختصاصات المفتي في الشؤؤون الدينية، ونزع ما كان له من السلطة في تعيين وعزل الموظفين، وجعل وظيفته قاصرة على الإفتاء حتى يأمن شر دسائسه التي ربما تكون سببا في عزله كما كانت سبب عزل سلفه.
بدأ السلطان عثمان في شن حملة على مناطق القوقاز فقد كانت الفتن تعصف فيها بتأثير من جارتيه روسيا وبولندا، وقبل أن يشرع في هذه الحملة أراد أن يوطد أركان ملكه ويقضي على مراكز القوى والتهديد الداخلية، فبدأ بقتل أخيه محمد اتباعا للعادة الذميمة، فقُتِلَ خنقاً بالوتر بين يديه، ويقال إنه المقتول قال له: بالله عليك لا تدخل في دمي، ولا تجعلني خصمك يوم القيامة، وأنا أقنع منك برغيف، فما كان من جوابه إلا الأمر بخنقه فخنق، وكان آخر كلام قاله: سلَّطَ الله عليك من لا يرحمك.
وكانت العلاقات بين الدولة العثمانية وجارتها بولندا في الشمال يشوبها التوتر، لأن بولندا ما فتئت تتدخل في شؤون مناطق البلقان التابعة للدولة العثمانية، وكانت منطقة ترانسلفانيا – وتقع الآن في وسط رومانيا – تتمتع بالحكم الذاتي في ظل السلطنة العثمانية وتحكمها أسرة باثوري البروتستانية، واشتكى حاكمها جابور بتلن من تدخل بولندا الكاثوليكية في شؤوون إمارة مولدافيا لمساعدة حاكمها المعزول، فشن السلطان حملة حققت انتصاراً باهراً في معركة طوطورا Tutura‏ وأخذ قلاعاً متعددة وغنائم وفيرة، وأخذ الجزية منهم عن ثلاث سنين، وعاد إلى مقر خلافته وقد تمكنت هيبته وقويت شوكته، وأنعم على العساكر إنعامات عظيمة.
ولكن بولندا بقيت تتدخل في شؤؤن الولايات العثمانية، وتشجع القوقازيين على التمرد والإغارة، فتطلع السلطان عثمان إلى إيقاف هذا التهديد للأبد من خلال شن الحرب على مملكة بولندا وإيقاف تدخلاتها، وشجعته انتصاراته على أن يطمح إلى ضم بولندا إلى الولايات العثمانية ذات الاستقلال الذاتي، والوصول إلى بحر البلطيق، مطوقاً المملكة الروسية التي ابتدأت في القوة والظهور.
فاتجه السلطان في جيش تعداده مئة وعشرين ألف جندي - وتقدره المصادر العربية بستمئة ألف - إلى القوقاز لمحاربة مملكة بولندا، والتقت الجيوش بالقرب من بلدة شوكسيم شمالي مولدافيا – وهي اليوم Khotyn‏ في جنوبي أوكرانيا- واستطاع البولنديون، وهم أقل عدداً وعدة، إيقاف تقدم الجيش العثماني مدة شهر كامل حتى حلول فصل الخريف وتساقط الثلوج، وحاول العثمانيون اختراق الدفاعات عدة دفعات متوالية دون أن يحققوا انتصاراً يذكر، وذلك رغم مقتل القائد البولندي يان كارول تشودكيويز في المعارك، ثم بدأت قوات الإنكشارية في التذمر وطالبت بإيقاف القتال، وكان البولنديون يرغبون في الصلح بعد مقتل قائدهم، وهكذا عقد الطرفان الصلح في من الطرفين في آخر عام سنة 1030 = أكتوبر سنة 1621.
وكان الصلح في الحقيقة هزيمة للدولة العثمانية، وقد خلَّد هذا الانتصار البولندي الكاتب الكرواتي إيفان جوندوليك Ivan Gundulic‏ المتوفى سنة 1638 في ملحمته عثمان التي كتبها عام 1626، وأضحت لدى السلطان القناعة التامة أنه لم يحقق ما كان يتوخاه من انتصارات بسبب الإنكشارية وتحولهم من قوة مقاتلة إلى مرتزقة يطلبون الراحة ويخلدون إلى الكسل، وعزم على حلِّ هذه القوات المشكلة من الأرقاء الصغار في أقرب وقت، وأن يشكل جيشاً جديداً من أبناء السلطنة في الأناضول والشام ومصر، وطلب من وِلاته فيها الاستعداد لتجنيد الشبان فيها ليتم تنظيمهم وتدريبهم على القتال حتى إذا استكملوا ذلك استعان بهم على إبادة الإنكشارية.
وشرع فعلا في تنفيذ هذا المشروع، وغطى ذلك بإعلانه في رجب سنة 1031 عزمه على الحج، ليكون أول سلطان عثماني يؤدي هذه الفريضة، وأمر بالخيام والمضارب السلطانية أن تضرب ظاهر القسطنطينية، وشعر كبار أهل الدولة بالخطر من أنه يبيت أمراً لا خير لهم فيه، وأنه إذا وصل بلاد الشام ومصر كان خارج تأثيرهم وسيطرتهم، فدخلوا عليه وأشاروا عليه بترك الرحيل، وخوفوه وقالوا: إنك غزوت الفرنج وقتلتهم وسبيتهم، وفي قلوبهم منك أمر عظيم، فنخاف إن سافرت وتركت قاعدة المملكة وعاصمتها إلى الحجاز أن تَثِبَ - مع بُعْدِ المسافة - الفرنج على المملكة، ويصعب خروجهم منها، ثم إن هذا ليس من تقاليد آبائك وأجدادك، فلم يستجب لطلبهم وصمم على العزم إلى الحج، فأجمع على خلعه أرباب دولته وأركان سلطنته ومن ورائهم الإنكشارية، فهجموا عليه في سراياه وقبضوا عليه بين جواريه وزوجته، وقادوه قهرا إلى ثكناتهم، موسعيه سبّاً وشتما وإهانة مما لم يسبق له مثيل، ثم نقلوه إلى قلعة يدي كوله في جنوب غرب إستانبول حيث وقف على إعدامه الوزير داوود باشا صهر السلطان مصطفى وذلك في السابع من رجب 1031، وهو في الثامنة عشرة من عمره، وكانت مدة حكمه أربع سنين وأربعة اشهر.
وأحضر رجال البلاط عمه مصطفى وأجلسوه على عرش السلطنة للمرة الثانية، وأصبحت الحكومة ألعوبة في أيدي الإنكشارية ينصبون الوزراء ويعزلونهم بحسب أهوائهم، فعزلوا داوود باشا قاتل السلطان بعد بضع أيام، وصاروا يمنحون المناصب لمن يجزل إليهم العطايا، ولما بلغ خبر قتل السلطان إلى الولاة، وانتشرت بينهم أخبار الفوضى السائدة في الآستانة، أشهر والي طرابلس الشام استقلاله وطرد الإنكشارية من ولايته، ونهض والي أرضروم أباظة باشا يدعو للانتقام للسلطان عثمان من الإنكشارية وسار إلى سيواس وأنقره واستولى عليهما، وقتل الإنكشارية وصادر أموالهم وإقطاعاتهم، وانضم إليه والِيا سيواس وسنجق قره شهر، واستمر في حملته حتى استولى على بورصة، واستمرت هذه الاضطرابات الداخلية مدة 18 شهرا، تولى على إثرها كمانكش على باشا منصب الصدر الأعظم، فأشار بعزل السلطان مصطفى ثانيا لضعف عزيمته ووهن قواه العقلية، فعزلوه في آخر سنة 1032، وولوا مكانه السلطان مراد الرابع.
كان السلطان عثمان الثاني وسيم الشكل بهي الطلعة، له – رغم ما فعله بأخيه- أدب وحياء وعرفان، وفيه شجاعة وفروسية، وكان ينظم الشعر بالتركية، وتزوج من ابنة شيخ الإسلام المولى أسعد، ولم يتفق لأحد من السلاطين قبله أن تزوج بحُرَّة إلا لجده الأعلى وسَمِيِّه السلطان عثمان الأول، والباقون اقترنوا بمحظيات من حريم القصور.
وكان السلطان عثمان ذا صلاح وتعطف وخشوع، وأمر بإغلاق حانات الخمر ودار عليها بنفسه وقفل أبوابها وطرد أصحابها، وفي أيامه في سنة 1030 اشتد البرد حتى جمد بحر مرمرة بين إستانبول وأُسكدار، ومرَّ على الجليد أناس من إسكدار إلى إستانبول وهو أمرٌ لم يتفق في زمن من الأزمنة!
وكان إمامه دمشقياً هو الشيخ القارئ يوسف بن أبي الفتح بن منصور بن عبد الرحمن السقيفي الدمشقي الحنفي، أعطاه الله تعالى ما لم يعطه لأقرانه من الذكاء وحسن الطبع ولطف الشعر وحلاوة المنطق وحسن الصوت، وولي في أول أمره خطابة السليمية بدمشق، ثم سافر إلى الروم وأقام بها مدة اشتهر بها أمره وشاع وملأ خبر فضله وحسن صوته الأسماع، فسمع به السلطان فاستدعاه، فوصل والسلطان يحاصر إحدى القلاع ففتحها في اليوم الثالث لوصوله، فاعتقد أن ذلك الفتح ببركة قدومه، وقدَّمه في المكانة، فلما قُتِلَ السلطان عثمان عاد إلى دمشق وباشر الخطابة في الجامع الأموي، ودرس في المدرسة السليمية يفتي ويدرس ويخطب إلى سنة 1044، ثم أصبح فيما بعد إمام السلطان مراد وأخيه السلطان إبراهيم.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين