صفحات منسية من تاريخ الإسلام في إيطالية

 
صفحات مَنْسِيَّة من تاريخ الإسلام في إيطالِيَّة (31)
صفحات مَنْسِيَّة من تاريخ الإسلام في أَنْكَبُرْدة
 
اللُّومبارْدِيُّون:
إناللومبارديين هم قوم من الجِرْمان، اسْتَوْطَنوا شمال إيطاليا في النصفالثاني من القرن السادس الميلادي، وأخذوا في التَّوَسُّع السريع، وامْتَدَّحُكْمهم خلال الربع الأخير من القرن السادس الميلادي، والنصف الأول منالقرن السابع إلى أقاليم ليجوريا، وتسكانيا، وإميليا، وفريولي، وبنفنتم،فضلًا عن السُّهول الشَمالية التي الْتَصَق بها اسْمُهم إلى اليوم، ولايزال واحدًا من أقاليم إيطاليا العشرين يَحْمِل اسم لومبارديا، وهو في شمالالبلاد على حدود سويسرا.
 
ولكنالصَّيَّادِين الذين سكنوا خليج البُنْدُقِيَّة في شمال شرق إيطالياظَلُّوا على ولائهم للبيزنطيين، وفي منطقتهم تَشَكَّلَت فيما بعد جمهوريةالبُنْدقية البحرية، التي صارت إحدى أكبر ممالك أوروبا في العصور الوسطى[1].
 
بلاد اللومبارد:
عَبَّر المؤرخون والجغرافيون المسلمون عن البلاد التي كانت واقعة تحت سلطان اللومبارديين ببلاد أَنْكَبُرْدة، أوالأنكبردين،أو الأَنْكَبُرْدِيَّة، أو النُّوكبرد،أوالنوبرد، أو النُّوبردية،أوالأَنْبَرْدية،أواللُّنْبَرْدِيَّة[2].
 
ولأنتَسْمِيَة تلك البلاد كانت خاضعة لسيطرة الأمة التي سُمِّيَت البلادباسمها؛ فقد اضْطَرَب المؤرخون والجُغْرافيون في ذكر حُدودها، وضَبْطمَوقعها.
 
قال المسعودي[3]عن اللومبارديين، الذين سَمَّاهم بالنوكبرد[4]: من ولد يافث بن نوح، وبلادهم مُتَّصِلة بالمَغْرب، ومَحِلُّهم الجدي، ولهمجَزائِر كثيرة، فيها أُمَم من الناس، وهم ذَوو بأسٍ شديد ومَنَعة، ولهممُدن كثيرة يجمعهم ملك واحد، وأسماء ملوكهم في سائر الأعصار أدنكبس[5]،والمدينة العُظْمَى من مدنهم، ودار مملكتهم هي يست، ويخترقها نهر عظيم،وهي جانبان، وهذا النهر أحد أنهار العالم الموصوفة بالكِبَر والعجائب يُقالله: سايبط، قد ذكره جماعة ممن عُني بهذا المعنى ممن تَقَدَّم، انتهى.
 
ذكر الإدريسي في نزهة المشتاق في اختراق الآفاق أن مدينة باري هي قاعدة بلاد الأنكبردين.
 
وقال ياقوت الحموي[6]: الأَنْكَبُرْدة، بالفتح، ثم السكون، وفتح الكاف، وضَمِّ الباءالمُوَحَّدَة، وسُكون الرَّاء، ودال مُهْمَلَة، وهاء، بلاد واسعة من بلادالإفرنج بين القسطنطينية والأندلس، تأخذ على طرف بحر الخليج من مُحاذاة جبلالقِلال ـ والمراد به سلسلة جبال الألب - وتَمُرُّ على مُحاذاة ساحلالمَغْرِب مَشْرِقًا، إلى أن تتصل ببلاد قِلَّوْرِيَة،انتهى.
 
بينمايذكر ابن سَعيد المَغْرِبي وهو يتحدث عن مارسيليا: أن في شَرْقِيِّها - أيشَرْقِي مارسيليا - الأَنْكَبُرْدِيَّة، وأن الجبال تُحْدِق بها إلى حَدِّجَنَوَة، وأن قاعدتها - أي قاعدة بلاد الأَنْكَبُرْدِيَّة - مدينة ملان - أي ميلانو - وأن في شرقيها مدينة البُنْدُقِيَّة على آخر خليج البنادقة.
 
وقال في موضع آخر: وعلى جَنَوَة جبل الأَنْكَبُرْدِيَّة.
 
وقال ابن خلدون[7]: في شرقي بلاد قِلَّوْرِيَة بلاد أَنْكَبُرْدة، في جون بين خليج البنادقة، والبحر الرومي.
 
وقال القلقشندي[8]: مَمْلكة اللُّنْبَرْدِيَّة:قال في تقويم البلدان[9]:باللام المُشَدَّدة المَضْمومة،والنون الساكنة،والباء الموحدة المفتوحة،والراء المهملة الساكنة،والدال المهملة،والياء المُثَنَّاة التَّحْتِيَّة،والهاء،قال:ويُقال لها:النُّوبَرْدِيَّة،والأنْبَرْدِيَّة،ثم ذكر بعض التفاصيل الجغرافية، ثم قال: قال في تقويم البلدان:وهي ناحية من الأرض الكبيرة،وبلادها تحيط بها جبال إلى حَدِّجَنَوَة،قال:وملكها في زماننا صاحب القسطنطينية،وَرِثها من خاله المركيش،ثم قال:وغَرْبيهذه البلاد: الرِّيْدراقُون، بكسر الرَّاء المُهْمَلَة، وسكُونالمُثَنَّاة التَّحْتِيَّة، ثم دال مُهْمَلَة، وراء مُهْمَلَة، وألف، وقافمَضْمومة، وواو، ونون في الآخر، ومعناه: ملك راقون، وقد تُبدل القافغَيْنًا مُعْجَمَة، فيقال: ريدراغون، وهو الموجود في مُكاتبَات أهلالأندلس، وهُدَنِهم،انتهى.
 
وهو يقصدبذلك مملكة أراجون التي تَكَوَّنَت في شمال شرق الأندلس على حساب أراضيالمسلمين هناك، وجعلت قاعدتها مدينة برشلونة، واستولت على جزر البليار، ثمتوسعت على حساب المسلمين أيضًا في شرق الأندلس، ولا شك أن حدود أراجونالشرقية لا تلتقي بحدود مملكة اللُّنْبَرْدِيَّة الغربية، وإنما يفصل بينهما جنوب مملكة الفرنجة[10].
 
وكانالقلقشنديقد ذكر قبل ذلك بعِدَّة صفحات[11]مَمْلَكة البَنادِقة، فقال: وهم طائفة مَشهورة من الفِرَنْج، وبلادهم شرقي بلاد الأنْبَرْدِيَّة،انتهى.
 
وقد سبق التنبيه[12]على ما وقع من خطأ في كلام أمير البيان شكيب أرسلان[13] - على جلالته في هذا الشأن - تعليقًا على سَرْد ابن الأثير لبعض الغزوات في إيطاليا[14]: إن أرضقِلَّوْرِيَةالتي يُشير إليها ابن الأثير، وأَنْكَبُرْدة هما الآن كالبرة - أي كالابريا - ثم نقل كلامياقوت في معجم البلدان[15]: ومن مدن هذه الجزيرة - أي جزيرة قِلَّوْرِيَة وقد مَرَّ بيان أن العربيُطْلِقون على شبه الجزيرة لفظ جزيرة - قبوة، ثم بيش، ثم ملف، ثمسلورى،انتهى.
 
وقد تم التعليق من قبل[16]على ما في كلام ياقوت من خطأ؛ حيث أدخل في قِلَّوْرِيَة ما ليس منها.
 
غزوات المسلمين وفتوحهم في بلاد أَنْكَبُرْدة:
قال المسعودي في مروج الذهب[17]عن اللومبارديين، الذين سَمَّاهم بالنوكبرد[18]: إن المسلمين ممن جاوَرَهم كانوا غَلَبوهم على مدن كثيرة من مدنهم، مثلمدينة بارة - أي باري - وطارينتو - أي تارانتو - ثم قال: إن مدينة طارينتو،ومدينة سيرين، وغيرهما من مدنهمالكبار سكنها المسلمون مدة من الزمان، ثمإن النوكبرد أنابوا، ورجعوا على من كان في تلك المدن من المسلمين، فأخرجوهمعنها بعد حرب طويل، وما ذكرنا من المدن في وقتنا هذا - وهو سنة اثنتينوثلاثين وثلاثمائة - في أيدي النوكبرد،انتهى.
 
وقد سبق أن ذكرنا[19]أن باري، وتارانتو مدينتان من إقليم بوليا.
 
ومن الجدير بالذكر:أن المدن التي ذكر المسعودي أن المسلمين غلبوا أهالي تلك البلاد عليها،وذكر استرداد أهالي البلاد لها من أيدي المسلمين، قد سقط العديد منها فيأيدي المسلمين بعد تاريخ كتابة المسعودي لكتابه؛ فقد غزاها الولاةالكَلْبِيِّون في القرن الرابع الهجري غزوات كثيرة، وقعت جميعًا بعدالتاريخ الذي أَرَّخَ به المسعودي كتابته لذلك الكلام، وهو سنة اثنتينوثلاثين وثلاثمائة.
 
قال ابن الأثير[20]عن سنة اثنتين وثلاثين ومائتين: وفيها أقام المسلمون بمدينة طارنت - أي تارانتو - من أرض أَنْكَبُرْدة، وسكنوها.
 
وقال ابن خلدون[21]: فى سنة ثلاث وثلاثين - أي ومائتين - أجاز المسلمون إلى أرض أَنْكَبُرْدة من البَرِّ الكبير، ومَلَكوا منها مدينة، وسكنوها.
 
وقال[22]بعد أن ذكر وفاة أمير صقلية العباس بن الفضل بن يعقوب[23] - والظاهر أنه من قاد هذه الحملة على أَنْكَبُرْدة وأنه يذكر ذلك من بابمناقبه -: واتصل الجهاد بصِقِلِّيَّة الفتح، وأجاز المسلمون إلى عُدْوةالروم في الشمال، وغزوا أرض قِلَّوْرِيَة، وأَنْكَبُرْدة، وفتحوا فيهاحصونًا، وسكن بها المسلمون.
 
وقال ابن الأثير[24]في حوادث سنة ثلاث عشرة وثلاثمائة: في هذه السنة سار جيش صِقِلِّيَّة معأميرهم سالم بن راشد، وأرسل إليهم المَهْديُّ جيشًا من إفريقية، فسار إلىأرض أَنْكَبُرْدة، ففتحوا غيران، وأبرجة، وغَنموا غَنائم كثيرة.
 

[1]انظر: تاريخ أوروبا في العصور الوسطى لسعيد عبد الفتاح عاشور (ص109 ـص126)، وأوروبا في العصور الوسطى لديفز (ص40،39)، وتاريخ أوروبا الحديثلجفري براون (ص101).
[2]من الجدير بالذكر أن أبي محمد عبد الله الترجمان الميورقي المتوفى سنة 832هـ، والذي كان قسيسًا من أكبر قساوسة النصارى في وقته، وكان يدعى قبلإسلامه "انسلم تورميدا"، وصنف بعد إسلامه كتابه الشهير "تحفة الأريب فيالرد على أهل الصليب" كان قد رحل إلى مدينة بلونية من أرض الأنبردية،ليتعلم على قسيس من كبار قساوسة النصارى في ذلك العصر على الإطلاق، اسمه (نقلاو مرتيل)، وكان هذا القسيس سبب معرفته بدين الإسلام، وقد وصف الترجمانمدينة بلونية بأنها مدينة كبيرة جدًا، وأنها مدينة علم، ويجتمع بها كل عاممن الآفاق أزيد من ألفي رجل يطلبون العلوم، ولا يلبسون إلا الملف (الذي هوصباغ الله). انظر القصة في كتابه "تحفة الأريب في الرد على أهل الصليب" (ص61ـ76).
[3]مروج الذهب (2/39). وقد نقل الشهاب النويري في نهاية الأرب (15/221) كلام المسعودي.
[4]في تاريخ غزوات العرب لشكيب أرسلان نقلًا عنه بدون الكاف (النوبرد).
[5]في نهاية الأرب أن اسم ملكهم أريكس.
[6]معجم البلدان (1/273).
[7]تاريخ ابن خلدون (1/73).
[8]صبح الأعشى (5/392).
[9]كتاب تقويم البلدان هو للملك المؤيد صاحب حماة.
[10]ربما حجزت بين جنوب فرنسا وبلاد اللومبارد ممالك أخرى صغيرة، كمملكةالبروفانس، ولكن من الجدير بالذكر أيضًا أن مملكة أراجون كانت قد توسعت فيالقرن السابع الهجري، الثالث عشر الميلادي، وأصبح لها سيادة بحرية كبيرةعلى البحر المتوسط، كما اتحدت مع ممالك أخرى من الممالك التي قامت على حسابالمسلمين في الأندلس، وشكلوا ما عرف بتاج أراجون.
[11]صبح الأعشى (5/382).
[12]في المقال رقم (11) من هذه السلسلة، وهو بعنوان "تَوَسُّع الفَتْح الإسلامي في إقليم كالابريا الإيطالي".
[13]أغلب الظن أن شكيب أرسلان كان ينقل عن مصدر ما؛ لأن تعقيبه على كلامالمسعودي قد ختمه بقوله: انتهى، ولا يظهر بعد تَفَحُّص كلامه ماهية المصدرالمنقول منه، ولا سبب عدم تعقبه له. وانظر موقع أرض أنكبردة في الخريطةالتوضيحية الملحقة.
[14]هامش تاريخ غزوات العرب (ص154).
[15] (4/392).
[16]في المقال رقم (11).
[17]انظر: مروج الذهب (2/39).
[18]في تاريخ غزوات العرب لشكيب أرسلان نقلًا عنه بدون الكاف (النوبرد).
[19]انظر: المقالين رقم (12)، (13).
[20]الكامل في التاريخ (6/76). وكان قد ذكر قبل هذه العبارة عدة غزوات للعباس بن الفضل، والفضل بن جعفر.
[21]تاريخ ابن خلدون (4/201).
[22] (4/202).
[23]قال ابن خلدون في الموضع السابق: فى سنة ثلاث وثلاثين توفى أمير صقليةمحمد بن عبد الله بن الأغلب، واجتمع المسلمون بعده على ولاية العباس بنالفضل بن يعقوببعد موت أميرهم، وكتب له محمد بن الأغلب بعهده على صقلية،وكان - أي العباس بن الفضل - من قبل يغزو، ويبعث السرايا، وتأتيه الغنائم،انتهى. وقد توفي العباس سنة سبع وأربعين ومائتين بعد إحدى عشرة سنة منإمارته.
[24]الكامل في التاريخ (7/25). وانظر أيضًا: تاريخ ابن خلدون (4/208،207). وقدذكر فيه أنهم عادوا إليها ثانية، وحاصروا مدينة أدونت - كذا والصواب أذرنت - أيامًا، ورحلوا عنها، وقد تقدم في المقال رقم (17) الذي بعنوان "صفحاتمَنْسِيَّة من تاريخ الغزوات الإسلامية للعديد من مدن جنوب إيطالية" عدمتحديد موضعها.
 


جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين