من صور الفداء في الإسلام

 

  فترة الشباب في حياة الإنسان هي أحفل أطوار العمر بالمشاعر الحارة، والعواطف الفائرة، وهي ليست عهد العافية المكتملة في البدن الناضج فقط، بل إنها ـ كذلك ـ عهد النزعات النفسيَّة الجيَّاشة يمدها الخيال الخصب والأمل البعيد...!

 

والأمم تستغلُّ في شبَّانها هذه القوى المدخورة، وتُجنِّدها في ميادين الحرب والسلم لتذلِّل بها الصعب وتقرِّب البعيد .

 

ونجاح النهضات الكبيرة يرجع إلى مقدار ما بذل فيها من جهود الشباب وهممهم، وإلى مقدار ما ارتبط بها من آمالهم وأعمالهم.

 

وقد راقبنا الثورات التي اشتعلت في أرجاء الشرق ضد الغزاة المغيرين على بلاد الإسلام، فوجدنا جماهير الشباب هم الذين صلوا حرها وحملوا عبئها، واندفعوا بحماستهم الملتهبة وإقدامهم الرائع يخطون مصارع الأعداء ويرسمون لأمتهم صور التضحية والفداء...!

 

ولا يزال الشباب من طلاب وعمال وقود الحركات الحرة، وطليعة الثائرين على الفساد والاستبداد، و قبلة المربين والمرشدين، والزعماء الذين ينشدون مستقبلاً أزكى لهذه الحياة.

 

ونحن إذ نقرر هذه الحقائق، ننوه بما تنطوي عليه من دلائل الإيثار والتفاني، و نرجو أن يكون حظ أمتنا من هذه الثروة الحيَّة كفاء ما رُمِيت به من أحداث جسام، وما فقدت من أمجاد عظام، فلا ينتهي هذا العصر حتى نكون قد غسلنا بلادنا من أدران الاحتلال الأجنبي الذي أخزانا في ديننا ودنيانا...!

بيد أن هناك رجالاً تقدَّمت بهم السن، وذهبت عنهم سَوْرة الشباب، وتكاثرت الصلات التي تربطهم بالدنيا، ومع ذلك فإن جذوة اليقين المُتَّقد في قلوبهم تمسك بالشباب المولي عن جلودهم وعظامهم، وتبقيه، بل تضاعفه في قلوب تنبض بالحق وتدفعه في العروق مع الدم، فإذا بك ترى منهم بأس الحديد، وجرأة الأسود، وإذا بك ترى رجالاً تستهويهم المغامرة، ويطيرون إلى التضحية في سبيل الله أخف من الشباب الغض...

 

قد يُقبل الشاب الفذ على المخاطر، وسبل البذل أمامه ميسَّرة، فهو إن سجن لم يجزع على أسرة يعولها! وإن قتل لم تبكه امرأة أيِّم! ولا ولد يتيم! وخفَّة حمله من هذه الناحية تجعله سريع الاستجابة لنداء الواجب أو تزيح العوائق من أمامه إذا ثارت في دمه نوازع النجدة...

 

أما البطولة الفارعة فهي أن يكون المرء ربَّ أسرة كبيرة، يضرب في مناكب الأرض لرعايتها ويسير في الحياة وهو موقر بأثقالها، غير أنه ـ وهو الزوج المحب والأب الرحيم والراعي المسؤول ـ مؤمن قبل ذلك كله بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، مخلص للدين الذي اعتنقه، مقدِّر للحقوق التي ارتبطت به، فإذا أحسَّ للإسلام طلباً سارع إليه، ولبَّاه بروحه وماله، ولم تشغله أعباء الحياة التي يكدح فيها عن مطالب المثل العالية التي آمن بها...

 

والإنسان عندما يقرأ استشهاد سيدنا عبد الله بن حرام رضي الله عنه، يرى في قصَّته جلالاً تنحني له الحياة، إعزازاً للأبوة الرقيقة التي جادت بنفسها واستودعت الله أسرة من غلام واحد وست بنات!!

 

روى أبو داود والنسائي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى المشركين يقاتلهم، وقال لي أبي: يا جابر، لا عليك أن تكون في نظاري أهل المدينة حتى تعلم إلام يصير أمرنا؟ فإني والله لولا أني أترك بنات لي بعدي لأحببت أن تقتل بين يدي، قال: فبينا أنا في النظارين إذ جاءت عمتي بأبي وخالي، عادلتهما على ناضح! فدخلت بهما المدينة لتدفنهما في مقابرنا، إذ لحق رجل ينادي: ألا إن النبي صلى الله عليه وسلم يأمركم أن ترجعوا بالقتلى فتدفنوهم في مصارعهم، فرجعنا بهما فدفناهما حيث قتلا...).

 

وروى البخاري عن جابر رضي الله عنهما أيضاً: ( لما حضر أحد دعاني أبي من الليل، فقال لي: ما أراني إلا مقتولاً في أول من يقتل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وإني لا أترك بعدي أعز عليَّ منك غير نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم ! وإنَّ عليَّ ديناً، فاقضه، واستوص بأخواتك خيراً، فأصبحنا وكان أول قتيل).

هذا الصاحب الجليل خرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصدُّوا هجوم المشركين على المدينة، تاركاً وراءه هذه الأسرة الكبيرة، وقوامها كما رأيت بنات يحتجن إلى الكافل الحاني، ولم يكن أبوهنَّ ذا بسطة في المال ينفق منه عن سعة، ويترك لعَقِبه من بعده ما يغني ويصون، بل كان الرجل مهموماً بشؤون الرزق، ينصب فيه ويستدين.

 وغلام فرد إلى جوار ست بنات يكون غالباً قرة عين الوالد وموضع حبه العميق، لكن عبد الله يقسم أنه يود لو قدَّم ابنه ليستشهد في سبيل الله تعالى، وأنه إنما يعجِّل بنفسه حتى يبقى الابن لأخواته يخدمهن، فإنَّ ابنه لو قتل قبله، فلن تطول بالأب حياة، إنه لابد مقتول في أقرب معركة...

  إن أصحاب المبادئ سراعٌ إلى تلبية مبادئهم ؛ عندما يُقرع باب الكريم ينهض وهو يقول:

 

فقمت ولم أجثم مكاني ولم تقم         مع النفس علات البخيل الفواضح

 

وعندما يُطلب الشجاع إلى ساحة الوغى، يذهل عن الحياة وأواصره بها، وينطلق وهو يقول: [وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى] {طه:84} !!.

وقد خرج أبو جابر رضي الله عنه إلى أُحدٍ ليلقى مصيره مع أبرِّ شهداء الإسلام، روى الشيخان عن جابر رضي الله عنهما قال: ( أصيب أبي يوم أحد، فجعلت أكشف عن وجهه وأبكي! وجعلوا ينهونني والنبي صلى الله عليه وسلم لا ينهاني، وجعلت فاطمة بنت عمرو رضي الله عنها تبكيه! فقال صلى الله عليه وسلم: تبكيه أو لا تبكيه، ما زالت الملائكة تظله بأجنحتها حتى رفعتموه) .

 

وروى الترمذي عن جابر رضي الله عنهما قال: (لقيني رسول الله مرة وأنا مهتمّ، فقال: مالي أراك منكسراً؟ فقلت: استشهد أبي يوم أحد، وترك عيالاً ودَيْناً، فقال: ألا أبشِّرك بما لقي الله به أباك؟ قلت: بلى! قال: ما كلم الله أحداً قط إلا من وراء حجاب، وإنه أحيا أباك فكلمه كفاحاً ـ أي: مواجهة ـ فقال: يا عبدي تَمَنَّ عليَّ أعطك! قال: يا ربِّ تُحييني فأقتل ثانية! فقال سبحانه وتعالى: إنه قد سبق مني أنهم لا يرجعون. فنزلت: [وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آَتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ] {آل عمران:170}.

 

والمرء يحار، أيعجب من كرامة الشهيد على الله؟ أم من حلاوة الفناء في الله التي ذاقها أولئك الشهداء؟

إنَّ أبا جابر رضي الله عنه لم يستشعر وحشة لفراق أولاده، ولم تستشرف نفسه للاطمئنان على فلذات كبده، بل تطلع للعودة إلى الدنيا كيما يذهل مرة أخرى عن أحبِّ شيء فيها، ويمشي بخطى ثابتة إلى ساحة القتال.

ولقد كفل الله أولاد الشهيد، وقضى عنه دينه في حديث يطول.

ولندع حديث الصدر الأول، ونستأنف حديث الأشياخ المجاهدين في عصرنا هذا، إننا واجدون رجالاً من طراز رائع صنعهم الإسلام القوي فأحكم صناعتهم، و قذف بهم على جند الباطل فجدَّدوا سير السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار.

 

من أولئك النفر الغرِّ: عمر المختار، البطل الذي بلغ التسعين من عمره، وهو يجوب الصحراء مطارداً ( الطليان) الذين أغاروا على طرابلس، وعملوا على تنصيرها بالحديد والنار، وفيه يقول شوقي:

 

بطل البداوة لم يكن يغزو على               (تنك) ولم يكن يركب الأجواء

لكن أخو خيل حمى صهواتها              وأدارمن أعرافها الهيجــــــاء

 

وقد وقع الشيخ المهيب في أسر الأعداء، فالَّفوا محكمة قضت بقتله شنقاً!! والطليان قوم لا ينتظر منهم شرف المعاملة، لا مع صديق ولا مع خصم، وقد ندَّد شوقي بهذا الحكم الشائن فقال:

 

خفيتْ عن القاضي، وفات نصيبها     من رفق جند قادة نبلاء

تسعون لو ركبت مناكب شاهـــــق      لترجَّلت هضباته إعيـاء

 

يقول:

 

شيخ تمالك سنُّه، لم ينفجـــــــــر   كالطفل من خوف العقاب بكاء!

الأسد تزأر في الحديد ولن ترى   في السنِّ ضرغاما بكى استخذاء

 

ثم يخاطب الشعب طالباً منه تجنيد الشباب وإعفاء الشيوخ، فيقول:

 

فأرح شيوخك من تكاليف الوغى                  واحمل على شبانك الأعباء

 

على أنَّ منطق اليقين لا يكترث بفوارق السنِّ، فإن العقيدة المتفجرة في القلوب الكبيرة ترد الكهول الوانين فتياناً نشطين، أما إذا تخلل الإيمان فإن الشاب الجلد يمسي حلس منفعة تافهة ولذة مهينة!!.

 

والدعوات العظيمة لا تضار بشيء مثلما تضار بهذا الصنف من المتلونين المتطلعين، الصنف الذي يحاذر أن تمسه سوء، ويسارع إلى إحراز الغنائم، ويشارك بجسمه أصحاب الرسالات، أما قلبه فهو بعيد... بعيد...

الصنف الذي صور القرآن موقفه النابي المريب في هذه الآيات:[وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا] {النساء:73}.

والمرء لا يصلح أن يكون رجل دعوة أو صاحب رسالة إذا بنى حياته في حساب الأرباح والخسائر على هذا النحو المنكر.

 

ربما كان الرجل خالي البال لا يتبع أهلاً ولا مالاً، فهو يهز كتفيه لما تفد به الليالي من أحداث، فإذا بلي بأثقال الأهل والمال تخفف في مسيره من أعباء الفضائل وألقى بها في عرض الطريق وأضحى لا يهدأ أولا يهيج إلا لمنافعه الخاصة؟؟

 

كذلك فعل المنافقون قديماً! فعندما نُدبوا للجهاد قعدوا واعتذروا: [سَيَقُولُ لَكَ المُخَلَّفُونَ مِنَ الأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا...] {الفتح:12}.

إنهم توهموا الخروج مغامرة مخوفة العاقبة أو مقامرة بعيدة الربح فنكصوا، وأفئدتهم صفر من معاني اليقين والتضحية التي تجعل الشهيد يقبل على الموت ويود لو يرد إلى الحياة ليموت مرة أخرى.

 

ولو كان الخروج لنفع يسير لكان لهم مع القافلة سواد كثيف : [سَيَقُولُ المُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللهُ مِنْ قَبْلُ...] {الفتح:15}.

وقد حذَّر الله المؤمنين أن تسيطر على أفكارهم هذه المآرب أو تتدخل في نيَّاتهم هذه المنافع:[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ] {المنافقون:9}.

 

فلتكن لنا من حياة المجاهدين عظة، ومن مماتهم عبرة، ومن مسلكهم مع أهليهم وأموالهم أسوة حسنة.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

  المصدر: مجلة الأزهر، الجزء الثالث من  المجلد 24 ربيع الأول 1372.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين