مسجد الكوفة... وعبد الله بن مسعود

د. محمد رجب البيومي
 
 
اشتهر مسجدُ الكوفة بحركته العلمية ذات التأثير البعيد في التشريع الإسلامي؛ لأن سيدنا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه كان من أنصار الاجتهاد، وقد أقام بالكوفة أمداً غير قصير معلماً دارساً شارحاً لكتاب الله تعالى.
وإذا كان ابن مسعود رضي الله عنه قارئاً نديَّ الصوت، حافظاً لكتاب الله تعالى، حسن التلاوة، حتى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يطلب منه أن يقرأ القرآن ليسمع... إذا كان رضي الله عنه كذلك، فإنَّه عمل على إحياء مدرسة للقراءة بالكوفة، تجردت للضبط والإتقان، وتخصصت في الترتيل الجيد لهجة ومخرجاً ووقفاً.
فمن رجال القراءات بالكوفة يحيى بن وثاب، وعاصم بن أبي النجود، وسليمان الأعمش، وحمزة الزيات، والكسائي. ومعروف أن ثلاثة منهم، وهم حمزة وعاصم والكسائي يعدون من أئمة القراء السبعة الذين رزقوا حظوة بين المسلمين، فإذا استطاع مسجد الكوفة أن يبرز هؤلاء الأعلام في مجال القراءات فقد وُفِّق إلى خيرٍ كثير.
أما أثر المسجد الكوفي في مجال التشريع فأوضح من أن يُشار إليه؛ لأنَّ مدرسة الرأي التي انتهت زعامتها فيما بعد إلى الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان فقد نشأت بالكوفة، وذلك لأنَّ العراق قد ورث حضارة ومدنية، وانتشر فيه الموالي من سبي فارس، ولم يكن الفتح الإسلامي سلباً وتدميراً، ولكن كان رعاية ومساواة وعدالة، فواجه المسلمون فيما فتح عليهم من البلاد مسائل جديدة تحتاج إلى أحكام فقهية فاستعانوا بالاجتهاد القائم على القياس، وبذلك كان السبيل ممهداً لأئمة الفقه في المسجد الكوفي، وفي مقابلة المسجد الكوفي كان علماء المسجد النبوي يقفون عند ظواهر النصوص بدون بحث في عِلَلها، ولهم مع مخالفيهم مُناقشات وردود.
تزعَّم مسجد الكوفة الرأي حتى اشتهر كبير علمائه بربيعة الرأي، وهو فقيه مشهود له بالإطلاع والدُّرْبة. قال عبد الله بن سوار القاضي: ما رأيت أحداً أعلم من ربيعة بالرأي. فقيل له: ولا الحسن البصري وابن سيرين؟ قال: ولا الحسن ولا ابن سيرين.
يقول الأستاذ محمد الخضري في كتابه تاريخ التشريع الإسلامي([2]):
(كان أهل الحديث يَعيبون أهلَ الرأي بأنَّهم يتركون بعض الأحاديث لأقيستهم، وهذا من الخطأ عليهم. ولم نرَ فيهم من يُقدِّم قياساً على سنَّة ثبتت عنده، إلا أنَّ فيهم من لم يُروَ له الأثر في الحادثة، أو رُوي له ولم يَثق بمُسْنِده، فأفتى بالرأي، فربَّما كان ما أفتى به مُخالفاً لسنَّة لم تكن بمعلومة له، أو علمت ولكنه لم يَثِق بروايتها، أو عَارضَها ما هو أقوى في نظره.
كما روى سفيان بن عيينة، قال: اجتمع أبو حنيفة والأوزاعي في دار الحناطين بمكة المكرمة، فقال الأوزاعي لأبي حنيفة: ما بالكم لا تَرفعون أيديكم عند الركوع، وعند الرفع منه؟ فقال أبو حنيفة: لأجل أنَّه لم يصحَّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه شيء، قال: كيف وقد حدثني الزهري عن سالم عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنَّه كان يرفع يده إذا افتتح الصلاة، وعند الركوع وعند الرفع؟ فقال أبو حنيفة: حدثنا حماد عن إبراهيم عن علقمة عن ابن مسعود أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يرفع يديه إلا عند افتتاح الصلاة، ولا يعود إلى شيء من ذلك. فقال الأوزاعي: أحدثك عن الزهري عن سالم عن أبيه، وتقول: حدثني حماد عن إبراهيم؟ فقال أبو حنيفة: كان حمادُ أفقهَ من الزهري، وكان إبراهيمُ أفقهَ من سالم، وعلقمة ليس بدون ابن عمر، وإن كان لابن عمر صحبة أو فضل صحبة، فالأسود هو الأسود، وعبد الله بن مسعود هو عبد الله ابن مسعود، فسكت الأوزاعي.
ننقل هذا الحوار ليفهم القارئ أنَّ الرأي لا يعدُّ تحكماً وخروجاً على النص، ولكن المسألة تدورُ حولَ صِحَّة النص والتيقن من صدوره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا كان الحديث النبوي صحيح الرواية فلا خلاف!.
ولعلَّ الفيصل في ذلك كله هو قول أبي حنيفة رضي الله عنه: ( آخذ بكتاب الله، فما لم أجد بسنة رسول الله، فما لم أجد فيهما أخذت بقول صحابة رسول الله، آخذ بقول من شئت منهم وأدع من شئت منهم، ولا أخرج من قولهم إلى قول غيرهم، فإذا انتهى الأمر إلى إبراهيم أو الشعبي أو ابن سيرين أو الحسن أو غيرهم فقوم اجتهدوا، وإني لأجتهد كما اجتهدوا)([3]).
فإذا تركنا علوم الشريعة إلى علوم العربية، فإنَّنا نجد مسجدَ البصرة قد سبق مسجدَ الكوفة في مجال اللغة والنحو؛ لأنَّ الكوفة كانت أكثر اهتماماً وأولى سبقاً في مجال رواية الشعر والأخبار، ولعلَّ الذي قعد بالبصرة عن السبق في رواية الشعر أنَّها كانت أكثر اختلاطاً، وأشدَّ ازدحاماً بالموالي والغرباء، فكانت الحاجة إلى تعلم النحو بها أوجب وأرعى.
وقد قال الأستاذ يوسف خليفة بصدد ذلك([4]):
(ونستطيع أن نقول: إنَّ البصرة كانت مدينة العلم في حين كانت الكوفة مدينة الفن، وضعت الأولى قواعد العلم العربي، ووضعت الأخرى نماذج الفن العربي، وكلتا المدينتين لم تكن بمعزلٍ عن الأخرى في قانون التأثر والتأثير).
والموازنة بين المدينتين في مجال السبق الزمني فقط؛ لأنَّ علماء الكوفة قد نشطوا للنحو واللغة، كما نشط علماءُ البصرة للأشعار روايةً ودرايةً، وللأخبار الأدبية نقداً وتسجيلاً، وإذا كان عيسى بن عمر الثقفي وأستاذه أبو إسحاق الحضري أول نحاة البصرة، وقد توفي الأول سنة 149هـ، وتوفي الثاني سنة 117هـ، فمعنى ذلك أنَّ البصرة قد سبقت الكوفة بنحو مائة عام، حتى نهض بها أبو جعفر الرؤاسي، وكان معاصراً للخليل ابن أحمد، فكان رأس المدرسة الكوفية.
ويقول ثعلب الكوفي: إن أبا جعفر كان أول كوفي وضع كتاباً في النحو، ثم جاء بعد الرؤاسي تلميذاه الشهيران: الكسائي والفراء، وبهما قامت المدرسة النحوية في هذا المسجد، وامتدَّ لها من الصيت ما ظلَّ أثرُه مُتردِّداً في كتب النحو إلى اليوم.
وقد أكثرَ الدارسون من الموازنة بين المدرستين، حتى أُلِّفت كتب مُستقلَّة في الموازنة بينهما، وجاء ابن الأنباري ليضع كتابه: (الإنصاف فيما بين البصريين والكوفيين من الخلاف) ليكون أبا الحسن لهذه القضية، وقد وُفِّقَ إلى اهتداء كبير وإن وجد من يعقِّب عليه تأييداً ونقضاً وتلك سنَّة الباحثين.
ونذكر في مضمار البحث اللغوي بمسجد الكوفية أبا عمرو الشيباني، وابن الأعرابي كما يذكر الكسائي والفراء إذ لم يقتصر على فن واحد من فنون العربية، وكلهم ثقة فيما كتب، إلا ما يروى عن أخطاء لابن الأعرابي تحامل عليه في نقدها بعض المؤرخين، ولكننا في مجال الحق نرى أنَّ الخطأ لم يسلمْ منه أحد، وأنَّ محاولة انتقاص ابن الأعرابي بما وقع فيه من الخطأ ظلمٌ لا مُبرِّر له، فحسبه أن جاء بصواب كبير.
لقد كان مسجدُ الكوفة ذا فضلٍ جهير في نشر الثقافة الإسلامية، وسنختار عَالمه الأول سيدنا عبد الله بن مسعود مثالاً لأحد أساتذته؛ لأنَّ ابن مسعود على فضله العلمي قارئاً ومُفتياً وفقيهاً لم يجدْ من يخصه بدراسة مُتأنية، فلعلَّ باحثاً ينهض لإنصافه العلمي مُحللاً آراءه شَارحاً قضاياه، لتعرف من نضاله العقلي ما نعلمه من جهاده الإسلامي بمحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وخُلفائه الراشدين.
رُزِق سيدنا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه جرأةً وشجاعة فحين أشرب قلبه بالإيمان، وكان غلاماً رقيق الحال يَرعى الغنم لأحد العُتاة الباغين من كفرة قريش، جعل يكثر من الذهاب إلى دار الأرقم دون تحرُّج، ولم يجعلْ إيمانه سراً بينه وبين نفسه، بل أرادَ أن يتحدَّى به السادة الكبار وهو ضعيف لا ظهير له، اجتمع يوماً مع صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم فأخذوا يقولون: هذا القرآن نتلوه في دار الأرقم، وما سَمعت به قريش، فمن منا رجل يسمعه إياهم؟ قال ابن مسعود: أنا ذلك الرجل، فتعجبوا لما يَرون من ضعف حَاله، وضآلة جسمه، وقالوا: نخشى الجبارة عليك وما أحد يحميك، فقال في ثقة: دعوني فإنَّ الله سَيمنعني!.
وطلع الصباح ونهضت قريش إلى مجلسها من الكعبة فسمعت صوتاً مُؤمناً ينبعث من مَقَام إبراهيم، وقد جعل يتلو قول الله تعالى: [الرَّحْمَنُ(1) عَلَّمَ القُرْآَنَ(2) خَلَقَ الإِنْسَانَ(3) عَلَّمَهُ البَيَانَ(4) ]. {الرَّحمن}.. وهرعوا إلى صاحب الصوت، فرأوه عبدَ الله بنَ مسعود رضي الله عنه، فسألوه مُتعجبين، فأعلمهم أنَّه قد أسلم، فاندفعوا يَضربونه في وجهه، وهو لا يكفُّ عن القراءة، حتى بلغ منها ما شاء الله أن يبلغ، ثم انصرفَ إلى المسلمين ودمُه يصبغُ وجهَه، فقالوا له مُتألمين: هذا ما كنا نَخشاه عليك. فقال في ثبات: ما كان أعداءُ الله أهونَ عليَّ منهم الآن. ولو شئتم لغديتهم بمثلها، فقالوا: حسبك! لقد أسمعتهم ما يَكرهون.
اشتدَّ اتصالُ ابن مسعود رضي الله عنه برسول الله، فكان لا يفارقه في منزله أو مسجده، كان يَقوم على خدمته، يُلبسه نعليه ويمشي معه وأمامه، ويستره إذا اغتسلَ، ويُوقظه إذا نام، ويَستمع إلى حديثه بالمسجد مُنصتاً وَاعياً حتى صارَ وعاءً مُلئ علماً، كما قال عنه عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وعمر صادق لا يصف أحداً بما ليس فيه.
قال أبو موسى الأشعري: لقد قدمتُ أنا وأخي من اليمن، وما نرى عبد الله ابن مسعود إلا رجلاً من أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم؛ لما نشهد من كثرة دخوله ودخول أمِّه على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولما اشتدَّ أذى قريشٍ للمسلمين هاجرَ ابنُ مسعودٍ إلى الحبشة ورجع منها ليهاجر إلى المدينة المنوَّرة، وله موقف رائع في غزوة بدر لا يُنسى، إذ جَاهد مع المُجَاهدين، فلما انهزمَ المشركون جعلَ يَتفقَّد الجرحى باحثاً عن أبي جهل استجابة لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجده يجود بآخر رمق، فوضع رجله على عنقه، فصاحَ أبو جهل: لقد ارتقيتَ مُرتقى عظيماً يا رويعي الغنم فأخبرني لمن الدائرة؟ فقال: لله ورسوله، وإني لقاتلك، فقال أبو جهل مُتحسِّراً: إنَّ أشدَّ شيء عليَّ قتلك إياي ثم جزَّ رأسَه وجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا رأس عدوِّ الله، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (الله الذي لا إله غيره)، وردَّدها ثلاثاً، فقال: نعم، وألقى برأسه بين يديه، فحمد الله شاكراً.
روى الترمذي: عن حذيفة أنَّ أناساً قالوا له: حدثنا بأقرب الناس دلا وهدياً من رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: لقد علم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّ ابنَ مسعود من أقربهم إلى الله زلفى.
وجاء في الطبقات عن أبي عطية الهمذاني قال: كنتُ جالساً عند عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، فأتاه رجلٌ فسأل عن مَسألة، فقال: هل سألت عنها أحداً غيري؟ قال: نعم، سألتَ أبا موسى الأشعري، وأخبره بإجابته فخالفها ابن مسعود، ثم قام فقال أبو موسى: لا تسألوني عن شيء وهذا الحبر بينكم.
وحين أنشئت الكوفة سَيَّره ابنُ الخطاب مع عمار بن ياسر إليها، وقال: إنَّهما من النجباء في أصحاب محمد فاقتدوا بهما.
وقال علي بن أبي طالب - كرَّم الله وجهه - : لو كنتُ مؤمراً أحداً من غير شورى لأمرت ابن أم عبد.
وقد حفظ له - رضي الله عنه - التاريخُ مَوقفاً رائعاً، فقد روي أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: (إني أمرت أن أقرأ على الجن الليلة فمن يتبعني؟ قالها ثلاثاً، فأطرقوا إلا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فقد أجاب، وقد حدث فقال: لم يحضر ليلةَ الجنِّ أحدٌ غيري، فانطلقنا حتى إذا كنا بأعلى مكة في شعب الحجون، خطَّ لي خطاً، وقال: لا تخرج منه حتى أعود إليك، ثم افتتح القرآن لغطاً شديداً، حتى خفت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وغشيته أسودة كثيرة، حالت بيني وبينه حتى ما أسمع صوته، ثم مضوا كقطع السحاب، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل رأيت شيئاً فقلت: نعم رجالا سوداً يلبسون لباساً أبيض، فقال: أولئك جن نصيبين).
أما براعة ابن مسعود في ترتيل القرآن فيخبر عنها ما رواه البخاري عن رسول الله عن ابن مسعود قال: قال لي رسول: اقرأ علي، فقلت: كيف أقرأ عليك القرآن، وعليك نزل؟ قال: إني أشتهي أن أسمعه من غيري، قال عبد الله: فقرأت عليه من سورة النساء حتى إذا بلغتُ قولَ الله عزَّ وجل: [فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا] قال لي: حسبك، فنظرت إليه وقد اغرورقت عينا رسول الله بالدمع، ثم قال صلى الله عليه وسلم: ( من سرَّه أن يقرأ القرآن فليقرأه قراءة ابن أم عبد).
لذلك كان ابن مسعود يتصدَّر مُعلِّماً للقراءة ويقول: جَوِّدوا القرآن) وفي الصحيحين أنَّ رجلاً قال له: إني أقرأُ المفصَّل في ركعة واحدة، فقال عبد الله: هذا كهذِّ الشعر، إنَّ قوماً يقرءون القرآن لا يجاوزُ تَراقيهم فلا يقعُ في القلب فيرسخ فيه، لا تنثروه نثر الدقل، ولا تهذوه هذَّ الشعر، قفوا عند عجائبه، وحرِّكوا به القلوب، ولا يكون همُّ أحدِكم آخرَ السورة).
ولعمري لنحن في حاجةٍ ماسَّة إلى تنفيذ هذه الإرشادات، فأكثرنا يتلو القرآن دون تدبُّر، بل يمرُّ به مراً، وقد قال الله عزَّ وجل، [وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القُرْآَنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ] {القمر:17}.
اشتهرَ ابنُ مسعودٍ بتلاوة الكتاب وحفظه، وكان الصحابة يسمعون عنه بالمدينة، فلما انتقلَ إلى الكوفة جعل يقرأُ القرآن ويَروي العلم، ويحدث بأنباء رسول الله حتى أنشأ مَدرسة فقهيَّة دينية قرآنية تنتهي إليه، فقد تلقى عنه عاصم ابن ضمرة، والحارث بن عبد الله، وزرُّ بن حبيش، وأبو عمرو سعد الشيباني، ومسروق بن الأجدع، وزيد بن وهب، وعلقمة بن قيس، وأبو الأسود الدؤلي، وإلى هؤلاء تنتهي قراءة عاصم وحمزة والكسائي من السبعة القراء، وقراءة خلف من العشرة، وقراءة الأعمش من الأربعة عشر، وقد اقتصر على ما وافق الرسم العثماني من قراءته.
واشترطوا في صحَّة التعبد بالقرآن: أن يكون صحيحَ السند، وأن يكون موافقاً للرسم العثماني، ومُوافقاً للعربية بوجهٍ من الوجوه.
وحين نَستعرض تاريخ الحركة العلميَّة بالكوفة نجد أنَّ ابن مسعود رضي الله عنه كان رائدها الأول؛ لأنَّ علي بن أبي طالب قد شغل بأعباء السياسة في مدَّة خلافته بالكوفة، إذا لم يرتح يوماً واحداً من دسائس الوصولية، وأحقاد الجاهلية، ولو تفرغ لنشر الفقه والتفسير لكان إمامَ الأئمة ذا القول الفصل، لذلك كان ابن مسعود أكثر من حفظت عنه الفتيا بالكوفة، وكأنما يشعر شعوراً داخلياً بواجبه العلمي، وأنَّه بعث مُعلماً فقيهاً، فابتنى داره إلى جانب المسجد، ليكون ذا اتصال بالمسلمين في أقرب المناسبات.
ولعلَّ اتجاهه الروحي في منهجه الفقهي كان أقرب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنهم، إذ كان ابن مسعود ناقلاً لآرائه محبذاً لها.
ويذكر ابن القيم: أنَّ عبد الله بن مسعود لم يكن ليخالف عمر بن الخطاب في شيء أو حكم، وإذا كانت ميزة الفاروق رضي الله عنه في فقهه هي الاجتهاد واستعمال الرأي حيث لا نصَّ من كتاب أو حديث موثوق برأيه.
فإنَّ هذا الاجتهاد الفقهي كان مشربَ ابن مسعود، وعنه انتقل إلى تلاميذه بالكوفة، مع تشدُّد كبير في رواية الحديث، إذ كان مثل عمر رضي الله عنه لا يقبله من راوٍ واحد حتى يَشهد على صحَّته شاهدان...
وفي بعض ما كتبناه ما يُشير إلى شيوع هذا الاتجاه في الفقه الكوفي بتأثير مُباشر من أستاذ المسجد عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.


([1]) مجلة الأزهر، الجزء الثالث ، من السنة 55، (ربيع الأول - 1402هـ).
([2]) تاريخ التشريع الإسلامي 146 ط5.
([3]) تاريخ بغداد 12/268.
([4]) حياة الشعر في الكوفة ص261.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين