القابلية للاستعمار

بقلم: محمد عادل فارس
كنا نتساءل ونحن صغار السنّ: لماذا لا يلتقي قادة الدول العربية ويختارون واحداً منهم رئيساً عليهم، ويعلنون الوحدة، ذلك الحلم الجميل والهدف العظيم..؟! وكان يقال لنا: إن السبب هو الاستعمار.
وكنا نتساءل عن كثير من مظاهر ضعفنا وتخلفنا، وأسباب انتشار كثير من المفاسد والمظالم... وكان يقال لنا: إنه الاستعمار.
وبالتدريج تحررت الأقطار العربية، واحداً تلو الآخر، من ربقة الاستعمار، ورحلت جيوشه غير مأسوف عليها، ولكن بقي التفكك والضعف والفساد والظلم. فلماذا؟
إنه لا يكفي في تعليل ذلك أن نقول: إن ما خلّفه الاستعمار من آثار هو الذي يقيّدنا ويمنعنا من النهوض والإصلاح. فقد مرّ على رحيل الاستعمار عقود من السنين تكفي لأن ننهض وننطلق.
السبب في ذلك هو ما سمّاه الكاتب مالك بن نبي – رحمه الله -: "القابلية للاستعمار"(1). وهي صفة لا تعني انتشار الأميّة وتخلّف الزراعة والصناعة وحسب، بل تعني أشياء كثيرة في أعماق النفس والفكر، تقْلب موازين القيم، وتصيب الذهن بالبلادة، وتُفكّكُ الأواصر الاجتماعية، وتجعل الفرد يطالب بحقوقه (!) ويهمل القيام بواجباته، ويميل إلى الترهّل والدَّعَة، ويكره معالي الأمور، ويحب سفسافها، ويتبنّى مبدأ "السهولة" – حسب تعبير مالك بن نبي – بمعنى أنه يختار من بين الحلول لمشكلات أمته ما هو أسهل، وليس ما هو أجدى وأنفع... يختار التعايش مع الباطل دون التصادم معه، فالتعايش يحفظ له مصالحه القريبة... ويبقى الباطل في منأى عن الزهوق والزوال "لا يموت الديب ولا يفنى الغنم" و"اليد التي لا تستطيع قطعها قبِّلها وادع عليها بالكسر!" و"العين لا تقاوم المخرز"....
ويغفل عن قوله r: "أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر أو أمير جائر" رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه، وقوله r: "إذا رأيتَ أمتي تخاف الظالم أن تقول له: إنك ظالم، فقد تُوُدِّعَ منهم" رواه الحاكم في المستدرك، وصححه، ووافقه الذهبي، وقوله r: "لا والذي نفسي بيده حتى تأطروهم على الحق أطراً" رواه الإمام أحمد. وقوله r: "مَن قُتل دون ماله فهو شهيد، ومَن قُتل دون أهله فهو شهيد، ومن قُتل دون دينه فهو شهيد، ومن قُتل دون دمه فهو شهيد" رواه ابن داود والترمذي (وصححه) والنسائي وأحمد، وسنده صحيح.
وحين تسود هذه الأمراض في مجتمع، يصبح قابلاً للاستعمار، ويستدعي – بواقعه هذا – أن تحكمه الدول الأخرى بجيوشها ومندوبيها... فإن لم يحدث هذا، فليحكمْه عملاؤها ويسوموه سوء العذاب: يقتُلون، ويسجنون، ويكمّمون الأفواه، ويطاردون الأحرار، ويهجّرون الأدمغة، وينشرون الفساد، ويقرّبون المتزلّفين والمتسلّقين، ويغرّبون الأمة...
أليست هذه حال كثير من بلاد المسلمين؟! أليست الحالَ التي حذّر منها النبي r حين قال: "يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكَلَة إلى قصعتها"؟ وبيّن سببها بأنه "الوَهَن"؟ قالوا: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: "حب الدنيا وكراهية الموت" – رواه أبو داود.
ولقد كانت حال أجدادنا الفاتحين العظام على غير هذه الحال. كانوا يقولون لعلوج الروم والفرس وطُغاتهم: جئناكم بقوم يحبوّن الموت كما تحبّون الحياة، فترتعد فرائص الأعداء خوفاً، وتُهزم الجيوش، وتسقط الحصون، وتنفتح أبواب المدن على مصاريعها... وتنشرح الصدور، وتطمئن النفوس، وتمتلئ بالإيمان القلوب، ويدخل الناس في دين الله أفواجاً...
لم يكن أجدادنا أولئك أكثر عدداً من عدوّهم، ولا أقوى عتاداً... ولكنهم كانوا الأعلى عقيدة وتصوّراً وقيماً وخُلُقاً وسنداً ومنهجاً... كانوا يتطلعون إلى ما عند الله، ويسترخصون في سبيله الحياة وزينتها، ويبذلون لإعلاء كلمته الأرواح والأموال... فمنحهم الله النصر والتمكين في الدنيا، وادّخر لهم رضوانه وجنّته.
وحين اختلطت في نفوسنا الثقافات، واضطربت القيم، وآثرنا الحياة الدنيا، وتحقّقنا بصفات (القابلية للاستعمار)... شهدنا بأم أعيننا كيف اجتمع اليهود علينا من مختلف الأصقاع، ليقيموا دولة على أرض ليست لهم، وليخوضوا كل عشر سنوات حرباً توسعية، وليصبحوا خطراً يتهدد وجود أمتنا، وليستكين لهم أناس من أبناء جلدتنا، ويقدّموا كل المسوّغات لإضفاء الشرعية على العدوان والاغتصاب، ويفلسفوا الهزيمة والخيانة...
لقد انعكست الآية لما ضعفت نفوسنا، وضعُف تمسكنا بحبل الله المتين... على حين اجتمعت كلمة شذّاذ الآفاق على عقيدتهم الباطلة فانتصر اليهود بعقيدة تمسكوا بها – ولو كان فيها ما فيها – علينا ونحن أصحاب العقيدة الحق إذا تخلينا عنها.
هل نيأس إذاً ونقنط؟ }ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون{.
إن انتصار أهل الباطل علينا – والحال هذه – نتيجة طبيعية. نعم.
وإن إعادة الأمر إلى نصابه يقتضي تغييراً عميقاً في النفوس: }إن الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم{.
وإن طريق العلاج طويل شاقّ، ولابد من عبوره مهما احتاج إلى مكابدة في مواجهة الهوى والضلال والانحراف، ومجاهدة للظلم والطغيان..
ولكننا لسنا في بداية الطريق. ولسنا دخلاء على التاريخ، فطائفة الحق لا يخلو منها زمان.
وإنه في الوقت الذي عشَّش الفساد واستشرى حتى آلت حال المسلمين إلى ما هي عليه، نجد في الأمة علامات "الرفض للاستعمار" أو المناعة ضدّه، والاستعصاء عليه، ونجد زرع الإيمان يخرج شطأه، ويستغلظ، ويستوي على سوقه... ويملأ الآفاق، ويهدد بنيان الجاهلية حتى يحس أربابها أن السقف يكاد يخرّ عليهم من فوقهم، فيسعَون محمومين لابتدار الفرصة، وضرب الصحوة الإسلامية قبل أن تبلغ الأمد، وتخرج الأمور من أيديهم.. ولكن }كتَبَ الله لأغلِبَنَّ أنا ورسلي. إن الله قوي عزيز{.
وما الأخبار التي تطالعنا صباح مساء، عن صراع عنيف بين حَمَلة هذا الدين وخصومه، إلا إرهاصات فجر جديد، لنهار جديد، يُعِزُّ الله فيه أولياءه، ويعلي رايته، وينشر نوره }ويأبى الله إلا أن يتمَّ نوره، ولو كره الكافرون{.



(1) وذلك في كتابه "الصراع الفكري في البلاد المستعمرة".

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين