دعوته صلى الله عليه وسلم إلى الإتحاد ـ 2 ـ

تعالَ وانظر معي بعد ذلك في فروع العبادات، تجدها قد بنيت على ما يثبت روح الاتحاد في القلوب ويمكنها من النفوس، وها نحن أولاء نجلوها عليك في أركان الإسلام الخمسة:

1 ـ «شهادة أن لا إله إلا الله».

ماذا تقول في قوم جزموا جزم اليقين، وعلموا علم الشهود أن إلههم جميعاً واحد لا يعبدون إلا إياه، فهم يشعرون جميعاً بأنهم خاضعون أمام عظمة واحدة هي مصدر وجودهم، ومنشأ ما هم فيه من نعم جلت أو دقت؟ إنها أكبر داع إلى توحيد قلوبهم، وتوحيد اتجاههم، وتوحيد غايتهم، وهي الفوز بالزلفى إليه واكتساب مرضاته.

2ـ «إقام الصلاة»:

ماذا تشهد في جموع متراصة كالبنيان تنطق بلسان واحد «الله أكبر» وتقوم في وقت واحد بتحميده وتمجيده، وتوجه إليه خالص العبادة، وتسأله كلها في آن واحد أن يمنحها معونته، ويهديها إليه الصراط المستقيم، فإذا ركعت خضوعاً لعظمته كانت جميعاً في خضوعها، وإذا استكانت أمام علو مجده كانت جميعاً في استكانتها وذلتها، وإذا وقفت قانتة لربها مطيعة لأمره كانت كلها معاً خاشعة قانتة، ثم هي تتجه إلى جهة واحدة أمرها ربها أن تتجه إليها، أليس الاشتراك في هذا كله مدعاة إلى اتحاد الاتجاه، واتحاد الأعمال والأقوال، وبالتالي يثمر اتحاد القلوب؟

3 ـ «إيتاء الزكاة»:

ماذا تراه في قوم تعاطفوا وتراحموا، وشارك فقيرهم غنيهم فيما أنعم الله عليه به من رزق فأخذه من يده حلالاً طيباً: هذا يؤدي أمانة ائتمنه الله عليها، وهي حق الفقير في ماله، طيبة بها نفسه، وهذا يتسلم وديعة من الوديع عن طيب خاطر فيتفاصلان وكل منهما قد امتلأ قلبه محبة نحو أخيه: هذا بما استفاد من رزق، وهذا بما كسب من أجر، وكلاهما بما ساد بينهما من عطف، أليس في هذا أكبر داعٍ إلى اتحاد القلوب؟

4 ـ «صيام رمضان»:

بخ بخ! تصور يا رعاك الله قوماً قد دعوا إلى توحيد أذواقهم ووجداناتهم الخصوصية: فكلفوا أن يكفوا عن مشتهياتهم في وقت واحد، وأن يتناولوها في وقت واحد، كم يكون بينهم من الشعور باتحاد الوجدان واتحاد الميول والاتحاد في المنح والحرمان؟

إنَّ من جرَّب حالة قومٍ جمعتهم ظروفٌ خاصَّة قاسوا فيها معاً مرارة ما في الحياة وأفرج عنهم دفعة واحدة فنعموا معاً في وقت واحد، يجد أنهم اعتبروا هذا الاشتراك جامعاً بينهم لا يزالون يذكرونه طول حياتهم ولو صادفهم في العمر مرة، فكيف وهذا يتكرر على المسلمين في كل عام مرة بل في كل عام ثلاثين مرة؟ إن قليلاً من الانتباه يجلو لك هذا المعنى بمنتهى الوضوح إذا كنت من المنصفين.

5 ـ «حج البيت من استطاع إليه سبيلاً»:

ناهيك بهذا المؤتمر العام يعقده المسلمون في كل عام ليشهدوا منافع لهم، وليطوفوا بالبيت الحرام، هل يخفى عليك ما فيه من توكيد الربط بينهم والوئام؟ سبحانك ربي لا نحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك، والحمد لله الذي أنعم علينا بنعمة الإيمان والإسلام.

أما إذا نظرت إلى قسم المعاملات بين الناس فيكفيك منه اجتلاء ناحية عامة فيه، هي أنه بني على العدل، و دعي فيه إلى الفضل، وأي اتحاد ينبت من بين إقامة العدل وزيادة الفضل؟ ارجع بنفسك أنت إلى أثر هذين المبدأين الجليلين فستعرف أنت بنفسك أكثر وأكثر مما نستطيع أن نسطره لك في هذه الكلمة الوجيزة.

ولا يقتصر هذا على قسمة المعاملات المدنية، بل تجده سارياً في باب روابط الأسرة والحياة المنزلية، انظر إلى أحكام الزوجين وما دعوا إليه، واتل إن شئت قوله تعالى:[ وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ] {البقرة:228} .

ثم التفت إلى باب نفقات الأقارب وما تضمنه من مغزى ربط القلوب وتحبيب أفراد الأسرة بعضهم لبعض، وتحبيب كل منهم أن يكون الباقي في نعمة ويسار، إما ليكفي مؤنته أو ليستفيد معونته.

بل انظر إلى أحكام الجنايات والمقاصات تجد العدل في قوله تعالى:[ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ] {البقرة:194}. وفي قوله تعالى:[ فَلَا يُسْرِفْ فِي القَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا] {الإسراء:33}. وتجد الفضل يتجلى في قوله تعالى:[ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى] {البقرة:237}. وتجدهما قد تجليا معاً على وجه يأخذ بالألباب في قوله جل شأنه:[وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ] {النحل:126}.

هذا قليل من كثير من دواعي الاتحاد في المعاملات، وكلما تأملت في باب منها وجدت ما يملأ قلبك اقتناعاً، ونفسك هدى ونوراً، والأساس فيه كما قلنا تقرير العدل ، والترغيب في الفضل، ولا يكون الفضل فضلاً مثمراً إلا إذا نشأ عن رغبة واختيار.

فإذا أنت رجعت إلى الأخلاق التي بعث صلى الله عليه وسلم لتنميتها فكم يتجلى لك هذا واضحاً جلياً. اقرأ إن شئت قوله تعالى:[يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا] {الحجرات:13}. ومتى تعارفوا تآلفوا، واقرأ ما يتبعها من آيات في سورة الحجرات، واستعرض ما شئت من مثل حديث: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه»، وحديث: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً» وحديث: «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه». وحديث: «لا تحاسدوا ولا تدابروا ولا تناجشوا وكونوا عباد الله إخواناً» إلى غير ذلك مما لا يكاد يأتي عليه الحصر في مثل هذه الكلمة.

نعم: لقد جاءت الدعوة إلى الاتحاد، وقررت عوامل تنميته في النفوس مستفيضة متفشية في كل أبواب الشريعة الغراء، وليس لمعترض أن يقول: فما بالنا نرى المسلمين متفرقين إلا قليلاً منهم؟ فإنا نجيبه بأن هذا كقولك: فما بالنا نرى الكثير من المسلمين قد تركوا العمل بأحكام دينهم وغرتهم ملاهي غيرهم؟ والجواب عن هذا وذاك: أن مرجع هذا إلى نفوسهم واتباع أهوائهم، لا لنقص في ضوء دينهم ونور هديهم:

ما ضرَّ شمسَ الضُّحى في الأُفْقِ ساطعةً ألا يرى ضوءَها من ليس ذا بَصَرِ

نسأل الله أن يوفقنا برحمه إلى اتباع هدي شريعته، والعمل بسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، إنه هو الفعَّال لما يشاء.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

نشرت 2011 وأعيد تنسيقها ونشرها 28/9/2021

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين