أنجع وسائل الدعوة

أنجع وسائل الدعوة

 
للشيخ محمد الغزالي رحمه الله تعالى
 
 
إن صلاح المؤمن هو أبلغ خطبة تدعو الناس إلى الإيمان.
وخلقه الفاضل هو السحر الذي يجذب إليه الأفئدة ويجمع عليه القلوب. أتظن جمال الباطن أضعف أثراً من وسامة الملامح؟.
 
كلا، إن طبيعة البشر محبة الحسن والالتفات إليه.
وأصحاب القلوب الكبيرة لهم من شرف السيرة وجلال الشمائل ما يبعث على الإعجاب بهم والركون إليهم.
 
ومن ثم فإن الداعية الموفق الناجح هو الذي يهدي إلى الحق بعمله وإن لم ينطق بكلمة، لأنه مثلٌ حيٌّ متحرك للمبادئ التي يعتنقها.
 
وقد شكا الناس في القديم والحديث من دعاة يحسنون القول ويسيئون الفعل!!
والواقع أن شكوى الناس من هؤلاء يجب أن تسبقها شكوى الأديان والمذاهب منهم، لأن تناقض فعلهم وقولهم أخطر شغب يمس قضايا الإيمان ويصيبها في الصميم.
 
ولا يكفي ـ لكي يكون المرء قدوة ـ أن يتظاهر بالصالحات أو يتجمل للأعين الباحثة، فإن التزوير لا يصلح في ذلك الميدان، ولابد أن ينكشف المخبوء على طول المعاملة وامتداد الزمن وتمحيص الأحداث.
 
وسرعان ما يبدو معدن النفس على الحقيقة العارية...
 
ذلك أن النفس المتحركة بروح الإيمان كالآلة الدائرة بما يعمر خزانها من وقود، أما النفس المحرومة من هذا الروح فهي كالآلة التي تدفع باليد حيناً ثم لا يلبث أن يغلبها العطل والعطب فتتوقف وتسكن...
 
والمصيبة الطامَّة أن بعض المنافقين يحسبون أن تمثيل دور الإيمان لا يحتاج إلا إلى شيء من التكلف والمصانعة، كما أن بعض المتهاونين يحسبون أن لباس التقوى يمكن نسجه بشيء من إدمان الرسوم وإتقان الهمهمة.
وهذا ضلال بعيد فالأمر أخطر ممَّا يظنون.
 
إنَّ التديُّن الحقيقي صورة لجوهر النفس بعدما استكانت لله تعالى ونزلت على أمره، واصطبغت بالفضائل التي شرعها، وترفعت عن الرذائل التي حرمها، واستقامت على ذلك استقامة تامة.
 
هذا التدين وحده هو الذي تلتمس منه الأسوة ويقتبس منه الهدى، ويؤسفني أن أقول: إن هذا الضرب من التدين العالي نادر الآن، وأن أشعة الكمال المنبعثة من وهجه لا تكاد ترى.
 
بل إن نفراً من الناس الذين لا ينميهم دين أقرب إلى المسلك الصحيح، وأجدر بالقوامة على شتى الوظائف من آخرين انتسبوا إلى الدين، وحملوا عنوانه دون اصطباغ به وتشرب لروحه...!
 
وعندما ينكب الدين بأقوام كثيرين على هذا الغرار، فالمجال واسع لشيوع الإلحاد وانتشار المعصية والعدوان.
 
قال لي صديق: إنَّ فلاناً (الأوروبي) إذا وكلت إليه مهمة خرجت من بين يديه متقنة الأداء ظاهرة الجودة، أما فلان الذي يكثر الصلاة فقلما يريحني في إحسان عمل أو أداء واجب...!
 
لقد جزعت لهذه المقابلة بين الشخصين، ولم يسوؤني منها أنها باطل ـ إذ هي أحياناً حق ـ وإنما ساءني منها أن ذلك (المتدين الكسول) دعاية شنيعة ضد الصلاة، إنها القدوة الرديئة تعمل عملها ضد المثل الرفيعة والمبادئ الفاضلة...!
 
وقد لاحظت أن الأجنبي ـ في أغلب الأحيان ـ يرى خدشاً لكرامته، وطعناً في كيانه أن يصدر العمل عنه ناقصاً، فهو يجوده احتراماً لنفسه، وصيانة لشخصه.
 
على حين تجد مواطناً ينتمي إلى الدين ـ كما يزعم ـ ثم هو يقوم بالعمل على أسوأ الوجوه، ويبسط لسانه بالجدل الطويل في تسويفه وإقناع الآخرين بقبوله...!
 
ولعلنا لم ننس قصة المهندس الذي أشرف على بناء جسر السلطان أبي العلاء، وكان أجنبياً، فإنه لما رأى عمله لم يصل إلى درجة الكمال التي ينشدها، رمى بنفسه من فوق الجسر العالي، فهوى بين أمواج النيل، وكاد اليم يبتلعه لولا إسعاف المنقذين.
 
لقد أحس غضاضة من أن يعيش بعدما فشل في إحسان العمل الذي كلف به...
 
وإنما أثبت هذه القصة لأني أعرف أناساً مثله، وقعوا في شر من تفريطه وخرج العمل من بين أيديهم مبتوراً مشوهاً، فلما عوتبوا شرع كل منهم يتنصل ويعتذر أو يهز كتفيه ملقياً التبعة على غيره...
 
ولعله بعد ذلك جلس إلى مكتبه يجرع القهوة في كبرياء!
 
 
أيصلح هؤلاء أمثلة للإسلام؟؟
 
قل لي بالله: كيف يهوى سلوك الفرد منا إلى هذا الحد ثم ينتظر أن يحترم الناس الإسلام ويُقبِلوا عليه؟
إن الدعوة إلى الإسلام تكون أولاً بعرض ثماره في الأخلاق والأحوال، أعني: ثماره في أتباعه المؤمنين به، ويومئذ ترجى الإجابة، ويرتقب الاهتداء.
 
ولنعد إلى أسباب انتشار الإسلام أيام السلف الصالحين...
إن (خلق) الدولة، وصلاح أنظمتها وكفالتها أكبر حظ من العدالة والسعادة للأفراد، كان الباعث الأعظم على دخول الناس في دين الله أفواجاً، وقبولهم عن طيب خاطر الانضواء تحت راية الإسلام.
 
بل غبطتهم لأن دائرة هذا الدين بلغت من الرحابة حداً جعلتهم يأوون إليها وهم وافرون أعزاء...
 
حتى أيام اضطراب أجهزة الحكم في الدولة الإسلامية وقصورها، عن التحليق مع المثل الرفيعة التي نشدها الإسلام في اختيار الحكام.
 
إن هذا القصور لم يقدح في مدى الخير الذي يحرزه الناس تحت علم الدولة الجديدة!! ذلك أنه أعلى درجة ألف مرة من الخير الذي رأوه في ظل أكاسرة فارس وقياصرة روم.
 
وحين نتابع أوصاف المسلمين الفاتحين ـ كما شرحها بعض المنصفين من المستشرقين ـ نجد أن الجماهير رمقت حملة العقيدة الظافرة بشيء من الدهشة، ورأت فيهم نماذج خلابة للفضل والعدل، فلم يمكثوا غير قليل حتى زاحموهم عليها!!
 
أجل: زاحموهم عليها، ونافسوهم فيها، واعتنقوها ليعملوا بها مثل أو أجل من أصحابها الذين نقلوها، مصداق قول الرسول الكريم: (رب مبلغ أوعى من سامع) ( رب حامل فقه إلى من هو أفقه منه).
 
الإعجاب بالإسلام في أحوال الفرد. والإعجاب بالإسلام في أحوال الدولة، هو وحده السبب الفعَّال في تزاحم الخاصَّة والعامَّة على هذا الإسلام، وارتضائهم له...
 
والإعجاب لا ينبت في النفس خبط عشواء.
 أتظن العقول النضرة تعجب بالعقول الخرفة؟!!
أتظن الأخلاق الرضيَّة تعجب بالأخلاق الرديئة؟!!
أتظن المتقدم في تفكيره ومشاعره يعجب بالمتخلف في هذه وتلك؟ كلا...كلا...
 
إن المسلمين استحقوا أن يتأسى الناس بهم، وأن ينسجوا على منوالهم، وأن يقلدوهم في أقوالهم وأعمالهم، وأن يهجروا لغاتهم الأصلية إلى اللغة العربية الوافدة؛ لأن المسلمين كانوا يمثلون في العالم نهضة مجدِّدة راشدة مسعدة.
والمعجب بك قد يذوب فيك، وذلكم هو ما حدث في (المستعمرات) التابعة للشرق والغرب، أعني: لفارس والروم، يوم زحف عليها الإسلام، وانساب في جنباتها.
 
إن من الغباء البالغ أن تنتظر أحداً يؤمن بك عقب انتصار في معركة جدل، أو انتصار في ميدان حرب.
 
إن المقهور في أحد الميدانين قد يستسلم راضياً أو ساخطاً.
يبد أنه لن يتبعك عن إخلاص، ولن يشاركك الشعور والفكر أبداً.
ومن ثم نرى لزاماً علينا التوكيد بأن القدوة وحدها، وما يبعث على الاقتداء من إعزاز وإعجاب، هما السبيل الممهدة لنشر الدعوة في أوسع نطاق.
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
المصدر :  مجلة الأزهر، المجلد الواحد والثلاثون، محرم 1379هـ، جزء /1/.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين