دعوته صلى الله عليه وسلم إلى الاتحاد ـ 1 ـ

[وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا] {آل عمران:103}.

الدعوة إلى الاتحاد شعار كلِّ مُصْلح ومقصد كل ناصح، وغاية كل واعظ ومرشد، وقلما تجد امرءاً يدعو إلى فضيلة، بل قلما تجد من يدعو إلى سلوك خطة، وانتهاج شرعة مهما قام في وجهه مخالف وعانده معاند، إلا وهو يدعو إلى الاتحاد. غير أنَّ الدعاة المختلفين إذا سئلوا: علام يتحد الناس؟، فسرَّ كل منهم الاتحاد الذي يدعو إليه بالاندماج في خُطَّته والإذعان لرأيه وانتهاج منهجه، ويقابله معاندوه بمثل دعوته، ويفسرون الاتحاد في رأيهم بالإقبال على ما هم عليه وترك ما عداه، فتراهم دائماً في أمرٍ مَرِيج، وترى دعوتهم غالباً تذهب أدراج الرياح، و تراهم قد اتحدوا في أن لا يتحدوا؛ ذاك أن كلاً منهم حين يدعو إلى الاتحاد لم يترك أنانيته، ولم يقصد بالاتحاد أكثر من أن يندمج رأي غيره في رأيه ويترك كل امرئ ما عنده إلى ما عند ذلك الداعي، وأنى له ذلك وعند كل منهم من الاعتداد بنفسه والحرص على تقديس رأيه ما عند صاحبه سواء بسواء؟.

فهل كانت دعوته صلى الله عليه وسلم إلى الاتحاد على هذا الوجه الذي تكرر له الفشل وحق له أن يفشل وأن يفشل؟ لا، لا، ما كان مسلكه صلى الله عليه وسلم هذا المسلك ولا نحا هذا المنحى، ولكنه سلك مسلكاً، وانتهج منهجاً معبداً، أوضحه بالبينات والهدى، ودعا الجميع إلى السير فيه عن بينة وبصيرة، وبرهن عنه بالبرهان الساطع والحجة الدامغة، فإذا السالكون فيه قد اتحدوا من تلقاء أنفسهم، وإذا هم قلب واحد واتجاه واحد، ووجدان واحد، وإذا هم كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحمى والسهر، وإذا هم كالبنيان يشدُّ بعضه بعضاً.

هاك شريعته صلى الله عليه وسلم التي أوحاها إليه ربه سبحانه وأمره أن يبلغها لكافة الخلائق، فانظر إليها في أصل عقيدتها وفروع عباداتها وأنواع معاملاتها ومظاهر أخلاقها، انظر إلى كل قسم من ذلك على حدة ثم استوضحها جملة واحدة، وانظر إليها متناسقة وبعد ذلك احكم عليها بما تراه من حكم عادل في جملتها وتفصيلها.

تأمَّل في خطابه صلى الله عليه وسلم للمعاندين المعتزين بما أوتوا من كتاب أنزل عليهم، فهم لا ينفكون يدعون إليه لا لشيء سوى أن في يدهم كتاباً، فلا تسمح نفوسهم بأن يتركوه على غيره مهما وضح الحق وقامت الحجة، انظر إلى خطابه لهم تجده يقول فيما أوحى إليه ربُّه وأمره به: [قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ] {آل عمران:64}. ثم يقول عقبها:[ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ] {آل عمران:64}. فماذا ترى في هذا؟ تراه وقد اطرح الأنانية، واطرح استمساك كل واحد بما عنده لمجرد أنه عنده، وقال: ﴿تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ﴾. لا على وجه أنكم خضعتم لنا أو أنا خضعنا لكم، وإنما على أنا جميعاً خضعنا لإله واحد لا نعبد إلا إياه ولا نشرك به شيئاً، فنمتثل الأمر لأنه أمره، لا لأنه أمر بعضنا بعضاً، فإذا كان هذا الأمر قد علمتموه عن طريقنا فلأنه قد أمرنا أن نبلغكموه، وأيدنا وصَدَقْنَا في دعوانا بما شاهدتموه من آيات بينة وحجة قاطعة لا تجد نفوسكم على الطعن فيها سبيلاً، ولا يجد الشك معها إلى النفوس المفكرة مسلكاً، فماذا يحول بينكم وبين مر ربكم؟.

تعالَوا وأطيعوا الرسول، لا لأنه هو فلان بن فلان، وإنما لأنه رسول الله، ومن أطاع الرسول فقد أطاع الله، وعلى هذا تجد الأنانية التي من شأنها أن تحول بين المرء وبين الإذعان للدعوة والاستجابة لها قد زالت وقضي عليها.

وينخرط في هذا السلك ما تقرأ في قوله تعالى:[إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آَمَنَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ] {البقرة:62}.ماذا تفهم منها بعد التأمل الصحيح والتفكر الصادق؟.

إنك حين تتأمل فيها وتفهمها حق فهمها تجدها تناديك باطراح الأنانية وإظهار أن المسألة ليست مسألة: نحن، وأنتم، وهم وأمثال ذلك مما يستعمل فيه كل فريق بما عنده، حتى يقال عنهم: كل حزب بما لديهم فرحون.

وإنما الأمر أمر القانون العام والمحجة الواضحة التي يجب أن تكون الحكم الفاصل بين الجميع، وهو أن من صدق عليه أنه آمن بالله حق الإيمان، وآمن بيوم الجزاء حيث لا يفيد المرء إلا ما عمل، وقام بالعمل الصالح حق القيام، فهو الذي لا خوف عليه ولا حزن يلحقه، فأينا يتحقق فيه هذا الوصف فهو صاحب هذا الحكم حتماً، هل تجد من ينفر من حكم هذه القضية الصادقة العادلة؟ كلا، إذاً فتعالَوا نعرض إيماننا بالله وإيمانكم الذي تزعمون، على محك النظر الصحيح.

إنا نجد أنفسنا قد أسلمنا أمرنا لله ورضينا بكل ما حكم الله، وامتثلنا كلَّ ما أمرنا به الله، ولكنكم أنتم اتخذتم إلهكم أهواءكم، وقلتم: [يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا] {المائدة:41}.

وآمنتم ببعض وكفرتم ببعض، إذاً ليس الممتثل عندكم هو أمر الله، وليس إيمانكم هو الإيمان بالله، وإلا لاطرد الامتثال في كل ما قامت الحجة عليه أنه أمر من الله، وإذاً فأنتم لم تؤمنوا حقَّ الإيمان باليوم الآخر، وإلا لحذرتم خطر الجزاء العدل لمن خالف أمر ربه مالك يوم الدين، وإذاً فلم يكن القصد في عملكم إلى الصالحات، ولا صالح إلا ما رضيه لكم ربكم وأمركم به المهيمن عليكم، و إنما أنتم تجيبون داعي أهوائكم وتقومون بما مالك إليه نفوسكم.

هذا نموذج واضح جد الوضوح في بيان كيفية الدعوة إلى الله، وأنها كانت تظهر على وجه اطراح الأنانية، وأنها إنما كانت توجه إلى الحق من حيث هو الحق بقطع النظر عمن قام به ودعا إليه، وهي أشبه شيء بقولهم: انظر إلى ما يقال لا إلى من قال. وهل بعد هذا منهج يرفع الخلاف وأسبابه، ويمكن للاتحاد في النفوس فضل تمكين؟.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم

المصدر: مجلة الأزهر ربيع الأول 1358هـ

نشرت 2010 وأعيد تنسيقها ونشرها 6/9/2021

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين